كتابات النقاد حول نشاط فرقتين مسرحيتين

كتابات النقاد حول نشاط فرقتين مسرحيتين

العدد 787 صدر بتاريخ 26سبتمبر2022

واضح أن الناقد «جبر» كانت له الهيمنة الكبرى على الصحف المحلية التي تصدر في طنطا، وكان ناقد الفني المسرحي الأبرز!! فقد قرأنا له في جريدة الممتاز، وفي جريدة طنطا، وفي مجلة سفينة الأخبار، وها نحن نجد له مقالة منشورة في الفترة نفسها داخل جريدة «روضة البحرين»، ونشرها في منتصف أكتوبر 1927 تحت عنوان «المسارح»، وفيها وجدنا الناقد يمتدح فرقة الأوبريت بعد أن غمزها ولمزها، وأزال عنها أية شائبة أو نقد وجهه إليها فيما سبق!! لدرجة أن القارئ يشعر بغرابة موقفه، ويكاد يصل إلى قناعة بأن الناقد لم يكن يقصد فرقة الأوبريت بهجومه السابق، بل كان يقصد فرقة أخرى وهي فرقة «الجزايرلي»!! أما الاحتمال الأكبر هو وجود ناقدين: الأول يوقع باسم «جبر» يهاجم فرقة الأوبريت، والآخر يوقع باسم «جبر فودة» ويمدح فرقة الأوبريت!! وهذا الاحتمال سيتأكد لنا بعد قليل! والآن هذا ما قاله «جبر فودة»:
في مدينة طنطا فرقتان للتمثيل إحداهما فرقة الأوبريت، والأخرى فرقة الجزايرلي! وكلتاهما تعرض على الجمهور الطنطاوي رواياتها وتعمل على منافسة زميلتها. وقد زرنا فرقة الأوبريت المقيمة بكازينو العائلات على شاطئ الجعفرية، فوجدنا بها من المميزات ما هو خليق بالإعجاب. فلست ترى خروجاً عن الآداب ولا انتهاكاً للحرمات، ولا مغازلات ولا مداعبات، بل مميزات فنية تشهد للفرقة بالتفوق والتقدم! اتقان في التمثيل وإبداع في التلحين يجلب السرور إلى القلب المكلوم! نكات أدبية ظريفة، ومواقف مشهودة تسجل لأفراد الفرقة آيات الفخر والإعجاب. لقد ضمت الفرقة بين أفرادها عدداً وفيراً من أخيار الممثلين والممثلات فلا عجب أن تقابل من الجمهور بالتعضيد! هذا هو البلبل الفريد «حسين الشماع» .. انظر إليه تجده فضلاً عما أوتي من قدرة على التمثيل، قد وهبه الله صوتاً مشجياً، ونغمة طاول فها فطاحل المغنين. وأنك لترى «محمد يوسف» الذي يقوم بدور «كش كش» سريع الخاطر، حاضر النكتة. كما ترى «عباس الدالي» يجمع بين أصول الفن والإتقان فيه لدرجة أرضى بها جمهور المتفرجين. وإن أردت رؤية خفة الروح، وجودة الإلقاء فلتشهد فصلاً يمثله «توفيق إسماعيل». ويكفي أن يكون بين الممثلات الممثلة الأولى السيدة «مرجريت شماع» التي جمعت بين وفرة الأدب وخفة الروح وبشاشة الوجه. يضاف إلى كل ذلك الوقار والاحتشام وكأنك بها على المسرح حافظة لجميع أدوار الرواية المعروضة، فقلّ أن تحتاج إلى الملقن، فهي الممثلة بحق وجدارة، وعلى منوالها الأدبي تنسج باقي الممثلات. [توقيع] «جبر فودة».
وفي أواخر أكتوبر 1927 نشر الناقد «جبر» مقالة في جريدة «سفينة الأخبار» بعنوان «التمثيل في طنطا»، تحدث فيها عن أمور متنوعة، منها ما ذكره تحت عنوان جانبي «في بار سفنكس»، قال فيه: يقوم صدام عنيف حول تأجير بار سفنكس لإحدى الفرقتين [يقصد الأوبريت والجزايرلي] فمن ناقم على هذه الفكرة إلى محبذ لها، ولكل من الفرقتين رأيه فما ذهب إليه. أما نحن فيستوي لدينا أمثلت إحدى الفرق في سفنكس، أو مثلت في «الجرن» فليس المكان ولا طبيعته بمؤثر على الفن من حيث هو، وإنما الذي نلفت النظر إليه هي الأخلاق، والأخلاق أولاً.
ثم انتقل الناقد إلى موضوع مسرحية «صلاح الدين»، قائلاً: مثلتها فرقة الأوبريت، فكان نصيبها وسطاً بين النجاح والسقوط بسبب غياب الكثيرين من الأشخاص في الفرقة، ولو لم يجد توفيق إسماعيل دور قلب الأسد، أو لو تهاونت البيرامادونة مرجريت في دور جوليا لباخت الرواية بفعل المركيز، وبتأثير ملك النمسا «المعلم» ولكن الله سلم فقبل الجمهور الرواية على علاتها، لا لأن تمثيلها جيد بل لأنها مثلت لأول مرة، ولكل جديد لذة يا أوبريت.
ثم تحدث عن مسرحية «العشرة الطيبة»، قائلاً: ذكرتنا فرقة الجزائرلي بتمثيل هذه الفكاهة الجزيلة المغزى للمرحوم مؤلفها، وبما لاقت بسبها السيدة «منيرة المهدية» من رواج في الموسم الذي طلعت فيه بهذه الرواية، وعُهد إلى جميلة الجزائرلي بدور «نزهة» التي أتضح أنها «جلبهار»، «وقام الممثل الكبير «فوزي» بدور حسن عرنوس، وعُهد إلى سعاد بدور ست الدار. أما فؤاد فكان «حمص أخضر». وهؤلاء جميعاً مضافين إلى «زعيزع» - الذي قام بدوره «على كامل» – طلعوا على الجمهور بالمعجز من إجادة أدوارهم. غير أن الذي نلحظه بقاء الفلاحتين نزهة وست الدار (بالجزم ذات الكعب العالي) ووضع (الشادوف) في وسط المسرح في مقابلة الكوبري! وكان الأولى أن يتخذوا له جانباً ليشعرنا بأنه يستمد مياهه من البحر لا من الطريق. وعلى أي حال يمكننا القول بأن رواية العشرة الطيبة كانت العشرة الطيبة أو على الأقل فهي عشرة إسباتي لها قيمة في الحساب والسلام. وسأكتفي بذلك لأن المقالة كبيرة في أمور كلها خلافات وبها سخرية غير لائقة!!
وننتقل مع الناقد نفسه في مقالته التالية المنشورة في جريدة «سفينة الأخبار» في نوفمبر 1927، وهي مقالة مكتوبة بأسلوبه الساخر كالعادة، قال فيها: وقع نظري في إحدى جرائد طنطا على كلمة يقول كاتبها إن رواية «ناظر المحطة» مثلت في كلتا الفرقتين – أي الأوبريت والجزايرلي - فنجحت فنياً في فرقة وسقطت بين يدي الأخرى! وإلقاء هذا القول على عواهنه غير مستحسن من «ناقد فني»، بل يجب على الناقد أن يظهر المواضع الفنية التي أعتورها الضعف، أو النقص لكي يكون المطلع على بينة من أمره عند المراجعة! وإلا نمثله في هذه الحالة مثل محكمة يتقدم إليها بريء فتقضي بإدانته بغير أسباب موجبة للإدانة، وطبيعي أن مثل هذا الحكم واجب الإلغاء في الاستئناف، فإذا كان حضرة الكاتب يريد التقرب لإحدى الفرقتين فيكفي أن يمدح ويكفي أن يُصفق، ويكفي أن يُبح صوته، ويخفيه في الوقت نفسه! 
وتحت عنوان «طالع فيها» قال: وبمناسبة النقد الفني، أن بعضهم طالع فيها، ويظهر للملأ أنه مُلم بأصول الفن، وواقف على قواعده الصحيحة، وبالتحري عنه يتضح أن حضرته لم يرد في حياته أي مسرح من المسارح الفنية، ولم يقرأ أي كتاب في هذا الباب، استغفر الله بل هو متردد على «تياترو الحلو» ومحل الفار [أي الفنان الكوميدي أحمد الفار]، وأمثالهما. وأطلع على قصة «السلك والوابور» وغيرها. فمن حقه أن ينقد ومن حقه أن يكتب، فلا مؤاخذة يا أستاذي النقادة! ولكن السر الخفي في هذه الكتابة رغبة سيادته في تأدية خدمة لأحد أصحابه يستفيد من ورائها بعض الفائدة، وهذا حسن من جانبه، وفى استطاعة صاحبه أن يجد كثيراً من «الموصلاتية النظاف» بدون أن يلقى مصادمة من أخطاء سيدنا الكاتب، أدام الله علاه، ورفع هامته إلى عنان السماء.
وتحت عنوان «على الفاراندا» قال: سلّمنا أن النقد مُباح، وكل حر في إبداء رأيه. فهل من واجبات النقد أن «أرصرص» على الفارندا انتظاراً لخروج الممثلين والممثلات الأحياء منهم والأموات؟! فهل النقد خاص بما يجرى على المسرح فأخذ منه كفايتى وانتهى، أم هو مقتصر على الشخصيات فأنتظر حتى أسمع الألفاظ العذبة والنغمات الرقيقة والمغازلات الطيبة، لأكتب عنها؟!  لا لا .. النقد يا هذا قاصر على المسرح لا على الفارندا، وبعدئذ كل ميسر لما خلق له، ولست عليهم بمسيطر! وأنتم يا حضرات الممثلين: ناشدتكم حرمة الفن أن تحسنوا اختيار الروايات الخليقة بالتمثيل والملائمة لروح الجمهور الذي ينقد عملكم ومشرف على حركاتكم وسكناتكم، فيقدر إجادتكم في الاختيار والاتقان، بقدر ما تجدون من الرواج وتصادفون من الإقبال. أما تكوين تمثيل الروايات، وأما الإعلان عن رواية بالذات وتمثيل غيرها، فليس هذا من أصول الفن ولا من مقتضيات اللياقة .. فاهمين؟
وتحت عنوان «عند الجزايرلي»، قال: ما كنت معتاداً أن ألج مسرحه، وقصرت همي على أن أكون «نقادة خاصاً» بفرقة الأوبريت، وفي ذات ليلة جبرتني المقادير، وساقني الحظ إلى مشاهدة تلك الفرقة، وكم كانت دهشتي عندما ألقيت جماً غفيراً من مختلف الطبقات الراقية يختلف إلى ذلك المسرح ويواظب على حضور حفلاته، فحكمت من نفسي على نفسي بشيء من الجمود لوقوفي عند مسرح واحد بغير أن أتردد على الآخر ما دمت أرغب في خدمة الفن لذاته، والدفاع عن الآداب. لذلك عولت على أن أقسم الوقت بين الفرقتين لأكون على اتصال بما بينهما من المفارقات خصوصاً وأنه يشاع بأن فرقة الجزايرلي اتفقت مع البلدية على استئجار المسرح الخاص بها، فإذا صح هذا القول، وصح أن فرقة الأوبريت اختارت مسرح الحلو بعد ادخال التحسينات عليه، جاز لنا القول، بأن طنطا ستنعم في هذا الشتاء، وفي هذا الموسم التمثيلي بفرقتين مليئتين، تتنافسان النهوض فيها، وتتنازعان التفوق والغلبة في مضمار التمثيل. وبما أننا لا نزال حديثي العهد بالتردد على فرقة الجزايرلي فليس في استطاعتنا تكوين رأي خاص في المقارنة بين الفرقتين، ونعدهما في صراحة بأن سيكون رأينا بعيداً كل البعد عن التحيز عندما تقف على العوامل المؤدية لإبداء الرأي الصحيح في النقد [توقيع] «جبر».
بعد عام
في مايو 1928 نشرت جريدة «الممتاز» إعلاناً بعنوان «الطرب والتمثيل الراقي بكازينو قهوة العائلات بشارع الفرير بطنطا»، قالت فيه: منذ أن شرف مدينة طنطا جوق الأوبريت المصري العام الماضي في موسم الصيف، وكان موضع إعجاب الشعب الطنطاوي أجمع. وها هو اليوم قد زاد فناً على فنه واتقاناً على اتقانه حتى أصبح اليوم موضع إعجاب كل من يشرفه. فنتمنى للجوق ما هو جدير به من التشجيع والتعضيد. سيقدم الجوق يوم الخميس الرواية المحبوبة «مجلس القرعة»، ويوم الجمعة يقدم الأستاذ الممثل العصري القدير حسن أفندي فايق رواية «أريد الحياة»!!
وللأسف لم نجد معلومات أكثر عن هذا الإعلان، ووجدنا بدلاً من ذلك - وبعد أيام قليلة - مقالة هجومية منشورة في جريدة «الكمال» بتوقيع «أبو فراس» بعنوان «التمثيل في طنطا»، جاء فيها: ليس تهريجهم تمثيلاً ولا خلاعتهم فناً؟ من البلايا النازلة، وشر البلايا ما يضحك، ومن النكبات الوافدة وأسوأ النكات ما يمس الاخلاق العامة أن يقال إن في هذه المدينة التعسة شيء يقال له التمثيل!! أجل أن كثيراً من قصارى النظر في الواقع يروجون (لشلة المنبوذين من رجال ونساء) حلت في هذه المدينة تدعي إتقان التمثيل، وما هي فيما تدعي إلا كمثل إدعاء القرد لنفسه أنه يُحسن عمل النجار، الذي ظن أنه يستطيع تقليده، ولو كان الجمهور هنا يستطيع أن يلقي درساً قاسياً على الأدعياء، كما ألقت الخشبة الصماء أقسى درس على القرد لتمكنت هذه المدينة من أن تلفظ (تلك الشلة) وتلقي بها إلى حيث ألقت أم قشعم رحلها، وتنقذ أخلاق شبابها الغض من هذا الوباء الخطر! فإن وقوف بعض السيدات بملابس متهتكة وإلقاء بعضهن كلمات لا يفهم منها حتى صورة لفظها، فضلاً عن معناها ومرماها، ولا تعتمد في جذب الجمهور الأعلى؟ والآهات واهتزاز الجسم المتواصل، وإبراز الأعضاء بشكل شنيع لا يصح لنا، ولو من باب المجاز أن نطلق عليها كلمة ممثلة! إن لفظ الممثلة لا يصح إطلاقه إلا على من أخذت قسطاً وافراً من التربية والتعليم، وتقمصت روحها فلسفة الحياة العالية، التي تشعرها، وهي على خشبة المسرح. إنها تقوم بتعليم الشعب الذي يرهف لها الآذان دروس الحياة العملية لا كمهرجاتنا اللواتي تقمصتهن روح الخلاعة والتهتك فيظنن وهن على خشبة المرسح أن الشعب المتفرج ما جاء إلا لينظر قوامهن المياس، ونسمع آهاتهن القاتلة، ويرى خدودهن الفاتنة. والواقع أن أفراد هذه الجماعة هم الذين يقومون بنشر البروباجندة لهذا التبهرج ويوقعون أفراد الجمهور المسكين في شراكة. والجمهور متعطش إلى التمثيل لأنه يرى فيه دروساً عملية تفيده في حياته ولكن آنى له هذا التمثيل! إن ليلة واحدة في كل شهر بل في كل شهرين تحييها فرقة من فرق التمثيل الراقي التي تفد إلينا من العاصمة غير كافية! فمن المحتم والحالة هذه على المجلس البلدي وهو ممثل المدينة أن يتعاقد في صيف كل عام مع فرقة من فرق العاصمة الراقية على التمثيل طول الصيف بمسرح البلدية، حتى يتمكن الجمهور الطنطاوي من مشاهدة التمثيل الراقي ويتخلص من التهريج الذي يفسد الأخلاق.
وبعد عام آخر، وتحديداً في مارس 1929 نشرت جريدة «الضحوك» كلمة قصيرة لها مغزاها بعنوان «أخلاق وعادات» قالت فيها: في مدينة طنطا قهوة بلدية على ضفة الجعفرية على رأس القنطرة، هبطت عليها عصبة من المرتزقة تسمى نفسها «الأوبريت» تجرى وراء عيشها عن طريق النوع الجديد من التمثيل! ونعنى به كل ما انحطت قيمته من الفصول الباردة والأغاني السمجة، لكن هذه العصبة لها «بريمادونة» مثل باقي الفرق التمثيلية والبريمادونات دائماً موضوع بحث وتنقيب. فأراد أحد أصحاب الصحف الدائمة الانتشار في المدينة والمشهورة بمواقفها التمثيلية أن يرتاد ذلك المسرح البلدي كصاحب جريدة ليحادث البريمادونة في شأن تمثيلي صحفي مختلط، ولكن الجماعة لا يعترفون بحق ممثليها في الاطلاع على تمثيلهم مجاناً. فطلب الكيس من حضرته ثمن التذكرة - هو يتراوح بين قرش صاغ ونصف فرنك - فعز على صاحبنا أن يدفع ذلك الثمن واحتج بأنه صحفي وبأنه يستعمل حقه! ولولا تدخل العقلاء لوصلت المسألة إلى القسم. ونحن يؤلمنا أن نذكر هذه الواقعة ولكنها الأخلاق قضت بأن نسجل ما يتفق معها وما يتنافر فهل يتعظ عقلاؤنا؟!


سيد علي إسماعيل