بكري عبد الحميد.. الفائز في «القومي»

بكري عبد الحميد..  الفائز في «القومي»

العدد 762 صدر بتاريخ 4أبريل2022

فى دورة المهرجان القومى للمسرح المصرى الرابعة عشر هذا العام، فاز بجائزة التأليف الأولى الكاتب المسرحى «بكرى عبدالحميد» عن نصه «تغريبة بنت الزناتى» الذى شارك فى المهرجان كعرض من إخراج «منار زين» وإنتاج مسرح البالون
والمؤلف هو واحد من جيل كتاب المسرح مابعد الألفية الثانية حيث بدأ مسيرته المسرحية بنص «دم السواقى» عام 2004 الذى استلهم فيه الحكايات الشعبية الثلاث (شفيقة ومتولى، حسن ونعيمة، ياسين وبهية) والتى مزج بينها جميعا،وأعاد قراءة تلك الحكايات برؤية جعلت من تيمة الظلم السلطوى هى الرابط بينها.. سواء سلطة الباشا فى «ياسين وبهية» بمحاولته الاستيلاء على أرض والد «بهية» بعد أن استولى فى الماضى على أرض والد «ياسين» وهو لم يزل طفلا، وزج بوالده فى السجن، مما جعل “ياسين” بعد أن صار شابا يافعا يواجه الباشا لمنعه من الاستيلاء غلى أرض عمه، ويرفع الفأس فى وجهه، فيرديه رجال الباشا قتيلا، تاركا بهية لمصيرها المجهول، وكذلك سلطة الأسرة التى تقف حائلا دون زواج «حسن» المغنواتى من «نعيمة» التى ارتبطت به واختاره قلبها ليكون زوجا، أو سلطة الشقيق فى “شفيقة ومتولى” الذى يفرض على “شفيقة” الزواج من رجل لا ترضاه، ما جعلها تفر من البلدة إلى مصيرها المأساوى الذى ينتهى بقتلها على يد شقيقها، رغم أنه هو الذى دفع بها إلى هذا المصير، ليؤكد المؤلف فى نصه هذا على أن السواقى تدور وتستمر فى الدوران ناسجة فى كل يوم حكاية جديدة مشابهة، ومع الدوران تزيد مساحات الدم الملطخة لتلك السواقى، وتنزف دما وتنهى حياة بشر بدلا من أن تمنح بدورانها المياه شريان الحياة، طالما نواجه الظلم بالصمت دون القضاء علي.
وفى عام 2007 يأتى النص الثانى للمؤلف «سلاطين الهلايل» الذى يعود فيه إلى السيرة الهلالية ليعيد أيضا قراءتها وتفسيرها، جاعلا من رحلة الهلالية أو تغريبتها من أرض الحجاز إلى تونس الخضراء بعد الجدب الذى ساد حول مضاربهم، بحثا عما يضمن لهم استمرار الحياة، وحين يصلون إلى تونس التى تستعصى عليهم أبوابها لمدة طويلة، ولا يستطيعون فتحها إلا بعد أن يقتل «دياب بن غانم» ملكها الزناتى، مما يجعل دياب يتوحش على الجميع فارضا سيادته، ومعلنا سلطته، بعد أن يستطيع التخلص من سادة الهلالية بالخيانة والغدر والقتل، ويستحل نساءهم، ويستهزئ بسادتهم (السلطان حسن، الجازية، خضرة الشريفة، وفارسهم أبو زيد الهلالى) بل ويستهزئ بتاريخهم التليد فى السلطنة والفروسية، والمؤلف يماهى فى هذا النص ـ بشكل غير مباشر بل من داخل نسيج العمل الدرامى ـ وهذه إحدى ميزاته ـ بين الحالة الإنهزامية التى وصل إليها الهلالية، وأطلال مجدهم الغابر، وتسيد «دياب» عليهم “ وهو ليس من الهلالية، وإنما تربطه معهم صلة قربى من بعيد، هبط عليهم والده، وعاش فى كنفهم (كأبناء عمومة) وولد دياب بينهم وعينه على السلطنة دائما حتى فاز بها ـ يماهى الكاتب ـ بين تلك العلاقة، وعلاقة العرب بالكيان الصهيونى الذى يستفحل وضعه فى المنطقة على حساب العرب المشغولين بالصراعات فيما بينهم، واستضعافهم نتيجة هذا التشرزم، ليحذر فى نصه من هذا الـ “دياب” وتربصه.
ويعود الكاتب مرة أخرى إلى نفس الموضوع فى عام  2017ليكتبها ثانية بمسمى آخر «تغريبة بنت الزناتى» ومعالجة أخرى وهو نص العرض الذى فاز عنه بالجائزة فى دورة هذا العام للمهرجان القومى للمسرح المصرى، وفاز العرض أيضا بجائزة أفضل إخراج لمخرج صاعد، وجوائز أخرى فى مجال التمثيل، فيه يؤكد الكاتب مرة ثانية على خسة «دياب» /الكيان الصهيونى، ويستعرض نذالاته المتوالية مع الهلالية / العرب الذين  قبلوا بوجوده بينهم، وفى معالجة ثالثة لنفس الموضوع يكتبها المؤلف باسم «أبواب تونس « عام  2019ليؤكد مرة أخرى على انشغاله بتلك القضية الوطنية التى تشغل كل عربى، ويماهى فى تلك المعالجة الأخيرة بين “سعدى بنت الزناتى” وبيت الأرض العربية المحتلة، وبين دياب الذى لا يكل من محاولات متعددة لاغتصاب «سعدى» ومحاولات الكيان الصهيونى لإلتام الأرض العربية، ويصدر معالجاته الثلاث لهذا الموضوع الواحد بمسمى شامل هو» سلاطين الهلايل « ليؤكد انشغاله بهذا الموضوع المصيرى فى سياق الصراع العربى الصهيونى الدائم الذى لم ولن تنهه معاهدات أو تطبيع علاقات.
وفى العام 2009 يصدر «بكرى عبدالحميد” عمله المسرحى الثالث ـ قبل إصدار المعالجة الثانية والثالثة للهلالية ـ هو نص «نصب تذكارى» ويستدعى فيه أيضا التراث، وإن كان هذه المرة تراثنا التاريخى لمصر القديمة فى لحظة تاريخية فارقة، تلك التى قرر فيها إخناتون / أمنحتب الرابع أن يقود ثورته على رجال الدين من كهنة «آمون» الذين استفحلوا، واستوحشوا باسم الرب فى الاستيلاء على أرزاق العباد بما فرضوه باسمه من قرابين هى أقرب إلى الجباية، واستحلالهم حرائر النساء اللاتى يرسلن إلى المعبد لإمتاع الكهنة، وفرض سلطتهم على الفرعون ذاته، لتكون دعوة “إخناتون” بتوحيد الإله بدلا من الآلهة المتعددة، والتى لكل إله منها معابد وكهنة وقرابين تقسم ظهور الشعب، فيدعو إلى عبادة الإله “آتون” / قرص الشمس الذى يشمل الكون  بأذرعه /خيوط أشعته مرسلا عبرها الدفئ الذى تنمو الخيرات على الأرض بفضله، ولا يركز المؤلف فى معالجته تلك على دعوة «إخناتون» التوحيدية من حيث جانبها الدينى، بل يقرأها فى إطارها السياسى والاجتماعي السياسى، وتخلص الفرعون من سلطة الكهنة على الشعب الرازح تحت نير ظلمهم للناس، ويحذر من سلطة رجال الدين حين يحيدون عن سلطتهم الدعوية وتتحول إلى سلطة دنيوية تتوغل فى القلب، وتتحكم فى طرائق الحياة والأرزاق، وتستحل ـ باسم الدين ـ ما ليس لهم.
وتتوالى أعمال المؤلف المسرحية الأخرى مثل «الغفير، قول يا مغنواتى، عيون بهية، للموت رائحة أخيرة، فهرنهايت 211، كلاكيت مش آخر مرة، وأبين زين أبين” وأعمال أخرى كثيرة، فى معظمها يستلهم التراث الشعبى والتاريخى وغيرهما.
ويخوض المؤلف تجربة مختلفة فى الكتابة المسرحية، هى تجربة إعداد الروايات وصياغتها فى نصوص مسرحية، ومن أهم كتاباته فى هذا المجال صياغته المسرحية لرواية «دعاء الكروان» لعميد الأدب العربى الدكتور «طه حسين» ورواية «شيئ من الخوف» للأديب «ثروت أباظة” ووقد عرضت الأولى فى فرقة ثقافة الداخلة بالوادى الجديد عام 2019 من إخراج المتميز “أسامة عبدالرؤوف” أما الثانية فقد تم عرضها فى فرقة ثقافة “كوم امبو” بأسوان إخراج الراحل “سامح فتحى” فى 2015، أما باقى النصوص فقد تم عرضها فى العديد من قرق الثقافة الجماهيرية، والجامعات، وفرق وزارة الشباب، وأخيرا عرفت نصوصه طريقها للبين الفنى للمسرح كـ «تغريبة بنت الزناتى» وفى مجال الإعداد أيضا قام بالإعداد المسرحى لرواية «منافى الرب» للروائى المتميز «أشرف الخمايسى» وهى رواية تحتاج إلى جرأة من يتناولها بالصياغة المسرحية، حيث تجوب فى الزمان والمكان لأزمنة وأمكنة متعددة، بالإضافة لخصوصية بيئة أحداثها، وهى واحة “الوعرة “ إحدى واحات الصحراء الغربية التى يعيش فيها بطل الرواية «حجيزى» البناء الذى قام ببناء معظم بيوت الواحة، بالإضافة لإكتسابه معرفة كبيرة بالتحنيط الذى ورث معرفته عن والده، وقام بتحنيط الكثير من الحيوانات والطيور، وقد امتد به العمر حتى وصل المائة وأصبح هاجسه الذى يؤرقه دائما هو عدم رغبته فى الدفن التقليدى بعد موته، فهو لا يخاف الموت فى حد ذاته، وإنما لا يستطيع التسليم لفكرة أنه بعد أن قام بالبناء والتعمير فى الصحراء الممتدة يدفن فى قبر مظلم بعيدا عن الأحبة الذين عاش معهم، هو محب للحياة والناس والونس ويخشى الوحشة لدفنه بعيدا عن ونس الأحباب، مما جعله يهرول خلف أحد الأباء المسيحيين حين سمعه ذات مرة يتحدث عن الخلود فى العقيدة المسيحية، وكاد أن يتحول إلى المسيحية لولا اكتشافه أن المقصود بالخلود هو خلود الروح، وليس خلود الجسد، ورغم صعوبة هذه الرواية فى بنائها السردى، وأفكارها المطروحة إلا أن الكاتب «بكرى عبد الحميد» يستطيع صياغتها فى عمل مسرحى بديع، مستفيدا من مهارته فى الكتابة المسرحية، ومعرفته الجيدة بلغة خشبة المسرح (حيث يقوم بالتمثيل أحيانا مع فرقة الأقصر القومية المسرحية، فهو من أبناء الأقصر ولا زال يقيم بها) 
إن من يدخل عالم تلك الرواية أو يتعرف على تفاصيلها الفنية والبنائية، لا يستطيع إلا أت يشعر بالإشفاق على  من يتناولها لتحويلها إلى عمل مسرحى، إلا أن «بكرى عبدالحميد» يفعلها، ومن البداية يزيل الإشفاق عليه حين يستعير نفس اسم الرواية لنصه المسرحى، ويزيله بـ (كتبها للمسرح) محددا دوره بالنقل من الوسيط الروائى إلى الوسيط المسرحى، ويفاجئ المتلقى بوجود كل الشخصيات ـ على كثرتها ـ فى الفضاء المسرحى، ولا تغادره طوال الوقت، ليتجاوز بتلك الحيلة تعدد الأمكنة / المشاهد، والأزمنة، وعبر معرفة المؤلف الجيدة بلغة خشبة المسرح، يعتمد على الإضاءة والظل، والإظلام التام فى عبور تلك الأزمنة والأمكنة المتعددة، إذ أن المسرح بإمكاناته، وآلياته المحدودة لن يساعده فى تحقيق تغيير المشاهد والأزمنة المتعددة إلا بتلك الحيلة التى لجأ إليها، كما أن تلك الحيلة التى احتال بها كاتب ذاك النص المسرحى أو معده ستساهم فى إعطاء المخرج الذى يتصدى له الفرصة فى اللجوء إلى أكثر من ممثل للقيام بأدوار بعض الشخصيات الرئيسية فى مراحلها العمرية المختلفة دون مشاكل تقنية، ومستخدما فى ذات الوقت تقنية المونتاج السينمائى فى انتقاله من زمن إلى آخر، أو، من مكان إلى آخر، وكذلك من وإلى نفس الشخصية فى مراحلها العمرية المختلفة وفقا للسياق الدرامى المطروح فى تجربته الممسرحة تلك، ويستفيد فى عمله هذا من تقنية سينمائية أخرى، إذ هو لم يبدأ بمشهد مسرحى تقليدى، وإنما قدم ملخصا شديد التكثيف لأحداث النص المسرحى كـ “تيرلر” على غرار مايحدث فى إعلانات الأفلام بالتليفزيون كعامل جاذب للمشاهد للذهاب لتلك الأفلام، وهو (بكرى عبدالحميد) سباق فى تلك التقنية التى لم يسبقه فيها أحد.
ليقدم «بكرى» فى النهاية نصا مسرحيا متكاملا فى عالمه، بنائه، وتقنيات مسرحة سينمائية متفردة تساهم فى نسب النص إلى المسرح الرقمى.... كل ذلك وغيره مما يجعل منه إضافة حقيقية إلى مكتبة النصوص المسرحية العربية.
وبكرى عبد الحميد بأعماله التى ذكرنا بعضا منها، والتى ينسجها دراميا بهدوء ووعى ومعرفة بلغة خشبة المسرح ويطرح فيها قضايا ملحة، ـ فى تلك الأعمال التى استلهم فيها التراث الشعبى وغير الشعبى فهو دائما يلجأ إلى التراث ليربطه بالواقع الآنى، ويطرح من خلاله رؤيته لذلك الواقع الآنى المحلى والإقليمى ـ مما يجعله واحدا من الكتاب المتفردين، الذين يعيدون للنص المسرحى أهميته، بعد أن هزلت كتابات الكثيرين ممن يكتبون للمسرح خلال العشرين عام الماضية.
 


أحمد هاشم