فاترينة إزاز التحليق في الأحلام والحياة

فاترينة إزاز التحليق في الأحلام والحياة

العدد 575 صدر بتاريخ 3سبتمبر2018

تلجأ طفلة هاربة من العالم الخارجي للاختباء في فاترينة ملابس، وتنجح في إيقاظ المانيكانات من سباتهم والتواصل معهم وإكسابهم مهارات جديدة، كأنها زرعت ببراءتها قلبا في كل مانيكان ليحس ويشعر ويحب ويبغض ويحلم كيفما شاء، حينها يتحول المانيكان إلى بشر والطفلة إلى مانيكان وتنقلب الأدوار فيفكرون تفكير البشر وتظهر في جمل حوارهم بعض السمات التي كانوا يبغضونها كالأنانية والكذب والميل للعنف، ويسقطون جميعهم في حب الطفلة حلم ويتصارعون من أجلها. حينها يتحولون مرة أخرى إلى مانيكانات لكن الطفلة تسقط مغشية عليها ولا يملكون لإنقاذها سوى الانتحار بإلقاء أنفسهم وتهشيم أجسادهم الصلبة حتى يهم أحد لإنقاذ الطفلة، لكن مع انتحار آخر ثلاثة لا يأتي أحد.
«فاترينة إزاز» ليست فقط نصا لأحمد سمير أو عرضا لعلاء رجب، إنما هي بالفعل فاترينة على المسرح كأي فاترينة عرض يمكن أن تجدها في الواقع، فالملابس المثبتة على الاستاندات وصفوف الأحذية ولافتات التخفيضات، والمانيكنات؛ أي عبارة عن فاترينة ملابس طبيعية تماما؛ لكن بلا زجاج مادي.
هناك ارتباك في كثير من المفاهيم الدرامية لدى كثير من الأعمال المقدمة على مسارح الثقافة الجماهيرية عموما، وعلى مسرح قصر ثقافة بني سويف شاع مؤخرا التخبط بين إدراك طبيعة الدراما المسرحية وإيحاءات الخطاب الفني وتقريرية الرسائل الوعظية التي نراها في كثير من عروض. مفاهيم الكوميديا الكثيرة التي يتم اختصارها في فهم خاطئ للكوميديا اللفظية أو كوميديا «الإيفيه» على أنها مجرد ثرثرة كلامية عشوائية ومفتعلة بلا أي دافع درامي سليم. وأيضا الخلط بين الطبيعية في الفن والواقعية الاشتراكية أو الواقعية الرمزية، فمنطلق الطبيعية كان من الواقع لكنها لم تحاول أن تقدم جديدا، بل تقر الواقع كما هو من خلال التصوير والوصف، بعكس الواقعية التي تعمل على خلق واقع مواز وبلورة مفاهيم ودلالات جديدة.
فقر الإنتاج في المسرح المستقل خاصة في الأقاليم التي لا يتوافر فيها سوى مسرح قصر الثقافة وهو ما يفرض قيودا لجعل المسرح خدمة عامة دون أن تدخل الحركة المسرحية حيز الصناعة والاحتراف. ولكن هذا ليس مبررا للتراخي وإلقاء عبء الاستهلاك الدرامي والتنميط الفني على كاهل الإنتاج. فعندما تتوفر إرادة واعية ستطوع أدق الموتيفات لصياغة عالم كامل من الجمال والإبهار. وأعتقد أن علاء رجب في هذا العرض طرح مثالا حقيقيا لتوظيف رؤية جادة في حيز إنتاجي ضئيل للغاية، نجح أن يثير عددا من الإشكاليات الفلسفية العميقة. ملابس الممثلين منذ بداية العرض، عمدت إلى التنوع الطبقي الاجتماعي، فابن الذوات والشحات والكلاسيكي والمودرن، وفتاة ترتدي ملابس برجوازية قليلا وأخرى صعيدية، كل مثبت عليه سعره، فتشعر مع بداية تحرك الدمى وتحادثهم مع بعضهم أنك أمام اشتباك بين شرائح المجتمع، حيث تم توظيف الصراع الحقيقي كإسقاط رمزي في حوار الدمى.
هل أضاف كسر الإيهام جديدا؟ إن الإسقاطات الرمزية التي فاض بها العرض وفّت مسألة حث الجماهير على التمرد والتغيير فما الداعي إلى النظر إلى الجمهور وتوجيه رسائل مباشرة لهم كما جاء في آخر العرض على لسان الشخصيات؟
عندما قدم الممثلون أدوار مانيكانات، جاءت الحركة كالدمية، آلية ونمطية، متناسبة مع شخصية كل ممثل، وهذا يوضح مجهودا كبيرا في الإعداد والتدريب على التمثيل بهذا الأسلوب المناسب تماما لحالة الدراما. أما المستوى الحواري فكان حوارا عاديا كما هي طريقة الكلام العادي. إلا أنه وضح في بعض الأحيان تعمد «فانكي (محمد محسن) ونيجرو (محمد البرنس) تأخير بعض الجمل والثأثأة كأنهما دميتين بالفعل على المستويين الحركي واللفظي.
من المميز في هذا العرض أن عناصر التمثيل الرئيسية فيه من سن 15 - 20، وهذا أعطى للعرض روحا طازجة وحالمة، وبشّر بطاقات تحمل الكثير لفن المسرح، لا على مستوى التمثيل فقط، بل حتى كلمات الأغاني أعدتها ضحى الأصفهاني من الفئة الجديدة أيضا والقادمة بقوة.
على مستوى الأفكار ورد الحديث عن أن الحلم يجعلهم يشعرون ويفكرون ويكتشفون آفاقا جديدة للحياة أكثر من 14 مرة طوال مدة العرض وفي مواضع مختلفة دون تطوير لهذه الفكرة أو تصعيدها لمستوى درامي جديد. أيضا التأكيد على أن البشر تسببوا في التوزيع غير العادل اجتماعيا بوضعهم الأسعار على كل قطعة، والتأكيد على معاملة البشر للدمى بإهمال واستعباد أكثر من مرة؛ صاغ للبشر دورا في أنهم الصانع الحقيقي للعنصرية؛ إلا أن وقفة نيجرو الخشبي «محمد البرنس» ليشق قميصه فيظهر داخله الأبيض مع أطرافه السوداء ليصرّح بأن هذا «عنصرية» جاءت مباشرة وفجة ومكررة في الإطار الرمزي الذي اتبعته الدراما في أغلب العرض.
الاستعراض الغنائي الذي استنطق الشخصيات في مونولوجات غنائية سريعة؛ جاء بعد نحو ثلث العرض فكان مكررا للتمهيد الطويل الذي أفرزت فيه كل شخصية معاناتها وأبعادها النفسية سابقا، وإن كان ينبغي علينا الإشارة إلى طبقة صوت الطفلة «رزان» التي كشفت عن طاقة غنائية مميزة بالإضافة لتنوع أداءها التمثيلي فهي حالمة وخائفة وطفلة تريد القفز واللعب ودمية متخشبة الملامح بلاستيكية المشاعر.
تركز الممثلون في الثلث الأخير من المسرح فقط، ولم تساعد الإضاءة في تقليص هذا الفراغ أو شغره. ولعل وضع دمى الفتاتين في بداية العرض كان محاولة لتقليل هذا الفراغ، لكن وعدم إشراكها في الحوار بأي طريقة من الطرق، وعدم حركتها تماما، جعل وجودها وجودا مجانيا تماما لا طائل منه، وخروجها بعد أكثر من ربع ساعة من العرض لم يخل بالإيقاع الدرامي أو البصري بأي من الأشكال، بالعكس فإن ذلك أعطى مساحة بصرية أكثر جمالية لبقية الأبطال أن يستحوزوا بتكتلاتهم على بؤرة الصورة المسرحية.
اقتباسات موسيقية صاحبت المونولوجات الداخلية لكل شخصية، مما جعل الموسيقى مباشرة ومجانية، فالشخص الذي يتحدث عن أنه حزين بهذه المباشرة لا يحتاج موسيقى شديدة الشجنية، ولعل التناغم الموسيقي الذي جاء مصاحبا لفانكي «محمد محسن» وهو يستقبل بملامح بلاستيكية بلهاء رغبة «سلوبتة» الجادة في أن يقفز ليُثبت لها حُبّه مع الموسيقى الحالمة التي هي ضد الإيفيه الكوميدي في تلك اللحظة. كانت هذه اللحظة بتناقضاتها الأربعة هي الأكثر توهجا دراميا والتي وظفت فيها الموسيقى بشكلها الأصح كدراما موازية للنص وليست تفسيرا لحوار الشخصيات.


محمد علام