أطياف البهنسا.. والمزج بين الواقع والأسطورة

أطياف البهنسا.. والمزج بين الواقع والأسطورة

العدد 661 صدر بتاريخ 27أبريل2020

يتشكل التراث الإنسانى فى معظمه من حلقات بعضها واقعى وبعضها أسطورى, وبينهما تتسلل الميتافيزيقا لتجد لها دورا يتداخل بين الواقع والأسطورة الى الحد الذى يصعب فصله أحيانا, ويولف الإنسان بين تلك العناصر الثلاثة بما يتلاءم مع تصوراته عن الكون, ويأتى المبدع فى مرحلة ما ليعيد تشكيل وصياغة تلك التصورات وتفكيك عناصرها التى قد يستغنى عن إحداها فى معالجته الجديدة إزاء موقف تراثى محدد داعب خياله, ورأى فيه ما يمكن أن يكون حاملا لرؤيته الخاصة به تجاه إشكالية تؤرقه كمبدع له رؤاه وموقفه تجاه العالم الخاص والعام.
ومن هذا التراث الذى يختلط فيه الواقعى بالميتافيزيقى بالأسطورى, تذخر محافظة المنيا بتراث ثرى, ويلتقط المؤلف “إسلام فرغلى” منه مايبنى عليه أحداث نصه المسرحى” أطياف البهنسا” الذى قدمته فرقة “بنى مزار” المسرحية وأخرجه الفنان “حمدى طلبة” صاحب التجارب المتعددة فى هذا الإطار مما يطلق البعض خطأ مصطلح “مسرحة المكان” والتى يكون بعضها تأليفا جماعيا للمشاركين فىه وبدون دراماتورج كما حدث فى عرضه المميز من عدة سنوات “ليالى الهاية” لنفس الفرقة, إن “حمدى طلبة” مدرك تماما لثراء تراث منطقته القاطن بها, ومعنى به الى درجة الغرام, فقبل ذلك بعدة سنوات قام بإخراج “بحر التواه» الذى كتبه الباحث الجاد والكاتب المتميز المقل فى أعماله “جلال عابدين»المعنى هو الآخر بالبحث والتنقيب فى تراث تلك المنطقة.
وفي عرضه الأخير “أطياف البهنسا” ـ نسبة الى الأميرة بهاء النسا ـ المغزول دراميا بحرفية عالية من وقائع المكان إذ يعود المؤلف «إسلام فرغلى» الى العام 1807 حيث الصراع على أشده بين “محمد على باشا” وبقايا المماليك الذين فر معظمهم الى الوجه القبلى فى محاولة للم الشتات وإعادة تنظيم الصفوف لمواجهة الوالى الجديد “محمد على” الذى أولاه المصريون زمام الحكم عام 1805, وظل صراعه قائما مع المماليك لبسط سيطرته الكاملة على مقاليد الدولة بلا منازع, ويحاول المماليك ـ من جهة أخرى التحالف مع مشايخ وكبار العائلات فى الوجه القبلى, ويرسلون «برديس بك» لعقد اتفاق مع “منصور النقيب” عمدة البهنسا وكبيرها لتمويل تجريدتهم ضد الوالى, يرفض الرجل طلبات المملوك لأن بلدته وأهلها ليسوا طرفا فى الصراع, فيسرها المملوك فى نفسه ليلتقى بـ “شيخون” الشقيق الأصغر للعمدة ويوغر صدره ضد شقيقه, ويمنيه بتولى مكانته بدعمهم إذا ما أمدهم بمتطلباتهم, وإذا أزاح شقيقه وخلى منصبه, فيغذى بذلك حلمه الشخصى بأن يكون كبيرا لا سيما أن “شيخون” كان قد سبق وأذعن لما فرضوه من ضرائب على المزارعين والتجار وأرباب الحرف فى الفترة التى غاب فيها “منصور” فى رحلة حجه لبيت الله, مما أرهق الأهالى وزادههم فقرا.. إن «شيخون» يستدرج شقيقه الى منطقة المقابر ويقوم بقتله, بينما يقوم صديقه «شعلان» بنقل الجثة لبحر يوسف ليتناقل الناس فيما بينهم متسائلين عمن وراء تلك الجريمة؟ وتفر زوجة “منصور” هاربة بطفلها “محروس” ذى العامين خوفا عليه وعلى نفسها, وبينما هى تستريح تحت شجرة “مريم” تصعد روحها الى خالقها, ليجدها المجذوب «أبو طاقية» فيأخذ الطفل ليربيه هو وزوجته ويطلقون عليه اسم “حارس” كنوع من التمويه حتى لا يلاحقه عمه ويقتله, وحين يتم العشرين من عمره يطلعه “أبو طاقية”على حقيقة هويته ويعاهده أن ينتظر الإذن من الله  ليقتص للناس من ظلم عمه على مدى عشرين عاما ظل خلالها عمدة للبهنسا حيث أشاع الظلم وتجبر وأفسد, ويكون القصاص لوالده ولنفسه وللناس, وحين تأتى الإشارة الى «أبو طاقية” فى حلمه يعلن فى الإحتفال بالليلة الكبيرة أمام الناس جميعا حقيقة حارس / محروس الذى يلتف حوله الناس للقصاص ويحكم الفتى على عمه بمغادرة البلدة هو وزوجته “نفيسة” التى غذت طموحات زوجها الشريرة ودفعته إلي الصراع مع شقيقه إنتقاما من “منصور” الذى كانت تحبه, ولم يتزوجها, ويتم تنفيذ الحكم على «شيخون» الذى ظل طوال العشرين عاما يقض مضجعه شبح «منصور» الذى يطارده فى كوابيسه مؤكدا على عودته وها هو قد عاد فى شخص ولده “محروس” الذى يعيد الحق لأصحابه.
 وقد اختار المؤلف إطارا أقرب الى الكلاسيكية القديمة لتكون وعاء لأحداثه الدرامية,  ويقسم المسرح الى ثلاث مستويات متدرجة... المستوى الخلفى للبنات السبع أو (السبع بنات) اللائى يستعيرهن تقنيا من جوقة الدراما الإغريقية حيث يقمن بالغناء والتعليق على بعض الأحداث, ويجعلهن يقمن بفعل رمزى موازى للحدث الدرامى, فهن يقمن بغزل الخيوط ونسجها دثارا يـحتاجه طفل فقير أو غير ذلك ـ رمزيا غزل الحدث الدرامى وبعثرته مع تقدم الأحداث وتوازى بعثرة الخيوط من عصف الرياح فى الليلة التى يقوم فيها شيخون بقتل شقيقه, ثم غزل عباءة منقوش عليها أسد كرمز للقوة, وسيف كأداة لأخذ الثأر والقصاص, يرتديها محروس مع عودته للثأر له ولكل أهل البلدة من شيخون ـ ومن أجمل الأشياء فى هذا العرض أن المؤلف لم يجعل الخلاص من الظلم الواقع مستندا الى فعل فردى المخلص المنتظر كما فى معظم الأعمال الدرامية) ولكن الخلاص هنا كان نتيجة فعل جماعى وهذا ما إشترطه محروس على أهل البلدة بأن يكون الفعل جماعيا حتى وإن كان بقيادته وشتان الفارق بين المخلص الفرد والقائد للجماعة, حتى يستحق الجميع إقتسام كعكة الفوز بالنصر ـ أما المستوى الثانى فتجرى عليه أحداث ما بدار شيخون, وساحة أمام المقابر, وأما المستوى الأمامى لخشبة المسرح فيساره ضريح الشيخ الجمام ووسطه مكان مقتل منصور وهو المكان الذى يشهد لاحقا تنصيب ولده محروس ومحاكمة شيخون, وتلتقط مصممة الفضاء المسرحى والملابس الدكتورة “سهير أبوالعيون” ذلك التشكيل العام للفضاء من المؤلف لتجسده بصريا بالبانوراما الخلفية ستارة ممتدة بعرض الخشبة, ومن أعلى مجموعة من الغزل الخيطى الممتد من أعلى حتى المنتصف متدليا حتى يكاد يتلامس مع رؤوس الفتيات ليشمل غرفة نوم “شيخون” وبعض مشاهد المقابر التى يتحول بعضها مع الأحداث مشكلا فراش “شيخون” القلق المتوتر الذى جافاه النوم وسيطرت عليه الهواجس الكابوسية بعد قتله لآخيه واحتلال مكانه ليؤكد المشهد فى مجمله على وهن مكاسب “شيخون” كوهن الخيوط وعدم تلاحمها فى نسيج مستقر لتوكد “سهير أبو العيون” التى شاهدت لها العديد من التصميمات المسرحية فى عروض مختلفة سابقة أنها فى أحسن حالاتها, وأنها تمتلك خيالا ثريا يمكن له أن يثمر إبداعا بصريا يتعانق مع دراما النص المسرحى حين تعمل مع مخرج كـ “حمدى طلبة” يستطيع تحريض واستثمار تلك الإمكانات وتطويعها لصالح العرض , وقد تعامل المخرج مع كافة عناصره بتلك الكيفية فتتدرج موسيقى وألحان “محمد فتحى عبدالوهاب» فى الوثوب من الخفة والرشاقة فى لحن البداية وغناء البنات ووصفهن: “أبيض ياقلب البنات.. أخضر ياعود البنات.. أحمر ياتوب البنات.. بتطير لما الهوى فات.. تفاح ياخدود البنات.. رمان بنبيع يابنات.. وعنب شفايف البنات.. وحرير ياشعر البنات” إلى الجملة الموسيقية القصيرة المتوترة السريعة الحادة فى لقاء شيخون/ منصور وقتل الأول للثانى عند المقابر الى جملة موسيقية عريضة وقوية ورزينة  فى مشهد تنصيب “محروس” إيذانا بعودة الحق المغتصب بالغدر الى أصحابه, ليعكس وعى «محمد فتحى عبدالوهاب» لطبيعة الدراما التى يطرحها العرض, كما ينعكس جهود المخرج كذلك فى تسكينه لممثليه فى الشخصيات المسرحية وتدريبهم عليها ليأتى «كامل أنور كامل» فى دور «منصور كبير البهنسا الحريص على أهلها والإبتعاد بهم عن صراعات السلطة بين الوالى «محمد على” والمماليك, والفيض عليهم مما عطاه الله من مال وأرض زراعية ونصرة الضعيف, ليعكس آداء «كامل أنور كامل “ للدور فهمه لطبيعة الشخصية ويؤديها بوقار يحسب له, والفنان “عبدالوهاب محمد» فى دور «أبوطاقية» الذى زهد الدنيا بعد أن وصل الى الحكمة فى ضعف الإنسان وفقره مهما حاز من دنياه ويظل فقيرا أمام الغنى الذى لا ينفذ ماعنده, ورغم ذلك الزهد فهو لا يعتزل السعى وراء الحق فحفظ الطفل كأمانة ليؤهله ليوم إعادة الحقوق لأصحابها, ولم ينزلق «عبدالوهاب محمد» فى آدائه الى الإستسهال وتأدية الشخصية بنمطية مستهلكة بل وقف منها موقف العارف بأبعادها وتكوينها الصحيحين, ويلفت الإنتباه إليه”جرجس حنا» فى شخصية «المقدس يعقوب” رغم قصر وجوده على المسرح ونظن أنه يمتلك موهبة ومهارات تمثيلية أكثر من حجم تلك الشخصية, ومن شباب الفرقة «مينا عماد» وهو ممثل يمتلك الكثير من الإمكانات وإن لم يتشبع آداؤه بأبعاد شخصية “محروس” تلك الشخصية المحورية التى تمتد بجذورها فى الدراما بداية من من “هوراس” ابن أجاممنون” الذى أبعدته شقيقته عن المدينة حتى يحل موعد القصاص لأبيه من “إيجبتيوس” ووالدته “كليتمنسترا» فى رائعة «يوربيديس» وتمتد جذور الشخصية حتى «هجرس» فى رائعة «ألفريد فرج» التراجيدية «الزير سالم» وحتى «هجرس» لدى “رأفت الدويرى” فى مسرحيته “الواغش” التى استثمرتيمتها فى عدة أعمال لاحقة بأسماء مختلفة, ورغم قصر دوره أيضا ترك الفنان “محمد عبدالمنعم”  أثرا طيبا لدى جمهوره بآدائه لشخصية “برديس” وكذلك “ممدوح أنور ابراهيم” فى دور الشيخ “هاشم” رجل الدين النافع بعلمه فى حل مشاكل المتصارعين, كما أدى شباب الفرقة “عبدالله فضل,احمد محمدابراهيم, أبانوب بباوى,, ميساء عبدالرحمن, رانيا هشام, خالد شعبان” أدوارهم باجتهاد ملحوظ, وكذلك “ندا أيمن, بسملة محمد, آية محمد, مريم عبدالله, حبيبة عبدالله” اللائى قمن بدور الأطياف, ومثلن الكورس, وغنين فى تناغم, والمفاجأة الحقيقية فى العرض كان الفنان «محمود الشوكى» فى دور “شيخون” تلك الشخصية المركبة المالكة لمجموعة من الأبعاد حسب مراحلها المختلفة, فالشخصية فى البداية تابعة لـ «منصور» حاملة له الحب والإكبار حافظة لوصايا الوالد قبل وفاته, وفى مرحلتها الثانية تخايله أحلام السلطة والإحلال مكان «منصور» حين يغذى المملوك “برديس” تلك الأحلام ويزينها لها مع تردد على إقدام فعل التخلص من الشقيق حتى يأخذ قراره بفعل القتل فى لحظة خارج إطار الزمن مع إلحاح زوجته الراغبة فى الإنتقام من شقيقه, لتكون مرحلته الثالثة طوال عشرين عاما وهى مرحلة كابوسية تطارده الهواجس والندم, مع التمادى فى التجبر الذى يخفى به ضعفه, ليصل الى المرحلة الأخيرة, وهى مرحلة الإنهيار المصاحبة لظهور “محروس” الآتى للقصاص, ويملك الفنان “محمود الشوكى” تلابيب كل تلك المراحل بمهارة تتعانق فيها الخبرة مع الموهبة التى تتفجر مع تلك الشخصية التى قد لا تجيئ للممثل كثيرا فى حياته الفنية وامتلكها «الشوكى» وكأنه كان على موعد معها ليبدع فيها بكل مراحلها مؤكدا على أنه فنان كبير وممثل مسرحى من طراز فريد.
والعرض فى إجماله هو إضافة نوعية للمخرج الكبير “حمدى طلبة” الى جانب الكثير من أعماله السابقة المتميزة.


أحمد هاشم