صدي الصمت حديث مؤلم عن بقايانا

صدي الصمت حديث مؤلم عن بقايانا

العدد 610 صدر بتاريخ 6مايو2019

ولأن الإنسان هو ذاك المخلوق القادر على السعي لفناء نفسه بنفسه، تاركا بقاياه تتباكى فوق قبره لعنته وصلفه، كان المسرح - إن أردنا التركيز وخرجنا من التعميم - هو الوسيلة المثلى في أيدينا للحفاظ على بقايانا من الاندثار الذي سعى إليه الكبار طواعية وتناسوا عمدا أن من يدفع ثمن الصلف والعنت هم البسطاء، وأن ملح الأرض هم دائما الوقود المغذي لآلة الحرب التي ما أن تضع أوزارها حتى تتأجج لتربح قروشا قليلة أو كثيرة ليس مهما، المهم أن تلك القروش في كل الأحوال لا تملأ كروش السادة الوجهاء.
على خشبة مسرح قصر ثقافة بنها وضمن فعاليات المهرجان الختامي لنوادي المسرح قدم مبدعو نادي مسرح الدقهلية عرضهم المسرحي “صدي الصمت” تأليف قاسم مطرود وإخراج عبد الباري سعد، الذي عد صرخة اعتراضية/ ثقافية/ فنية ضد آلة الحرب وما يستتبعها من نتائج شديدة القسوة والقتامة، معتمدا على كسر الإيهام لتعرية الوهم الكامل المسيطر على العقول والأفئدة، فحافظ مبدعو العرض على يقظة الجمهور طوال العرض سعيا لقراءة المتلقي العرض قراءة متأنية في أغلب الأحوال وربط الأحداث المتفرقة/ المتشابكة/ المتداخلة/ المتنافرة ربطا استقام له الفكر واطمأن له الفن، فخرجت اللوحة المسرحية متقنة بدرجة كبيرة وعكست وعيا بمفردات العرض المسرحي ومناطق الحكي والسرد والتجسيد سواء بسواء.
بدأ العرض المسرحي “صدي الصمت” لنادي مسرح الدقهلية براوٍ/ دراماتورج - لا ينقصه الحضور أو خفة الظل - مهد للحدث بلغة عربية سليمة، فنجد أننا في منزل سيدة مغتربة ولا تعرف لغة البلدة التي تقطن فيها بعد أن هربت من بلدتها الأم لاندلاع الحرب فيها، وهي امرأة وحيدة مات عنها ابنها الشاب في الحرب الدائرة في بلدتها، وحدث أن طرق بابها جارها المغترب هو الآخر الذي قُتل ابنه الشاب في بلدته من جراء الحرب وزاده الأمر عناء أن الأب/ الرجل ممنوع عليه العودة لوطنه حتى لو عاد دقائق قليلة لزيارة قبر ابنه المغدور بسبب الحرب. وإمعانا في المأساة جرت الأحداث كلها في منزل السيدة وأماكن أخرى افتراضية بين الرجل والمرأة، مع ملاحظة أن الرجل والمرأة ينتميان للدولتين التي دارت بينهما الحرب التي أتت على ابن الرجل وابن السيدة، بالإضافة إلى أن الرجل والمرأة لا يعرفان لغة بعضهما البعض فكان التواصل عن طريق الحوار الملفوظ منعدما، إلا أن تواصل الروح بين الرجل والمرأة الغريبين بات موجودا وفارضا نفسه بقوة على المشهد، فهذا الرجل وتلك المرأة ما كانا إلا بقايا وطن استبيحت أرضه وإنسانيته بفعل الحروب حتى إن تلك الحروب حرمت الرجل وحرمت المرأة من بقاياهما (الذكرى والأرض والولد)، فكان الرجل والمرأة ومأساتهما التي طرحاها على منصة التمثيل بقايانا في مجتمع شوهته الخلافات والحروب.
اختفت لغة التواصل لفظا بين بقايانا حتى إذا دنا الإحساس من مكانته العليا اتخذ طريقا ممهدا للتواصل حتى مع غياب اللغة، فكان الإنسان قرين الإنسان ونديمه وونيسه حتى عدت بقايانا بذرة غرست في أرضنا علنا نتواصل في زمان آخر يعلمنا بديلا عن ذلك الزمان الذي يجهلنا عمدا.
اعتمد المخرج في تمرير أفكاره الرافضة للحرب وما ينتج عنها على خبرات تمثيلية راسخة، فظهر الراوي/ الدراماتورج - أمير عبد الواحد - مالكا لأدواته واستطاع كسر الإيهام بخفة ظل غير مفتعلة حتى إذا دنا العرض من منطقة شديدة القسوة والمأساة خرج به إلى أفق محايد لإعادة النظر والتفكير فيما يرمي إليه المشهد، ولأن الحوار المكتوب غير قائم على الاسترسال والبناء الدرامي المحكم، فقد أظهر قدرات تمثيلية شديدة الرقي لـ(الرجل والمرأة - زينب سمير ومحمد علي) سواء بسواء لاستطاعتهما المحافظة على إيقاع الحدث دون افتعال أو بكائية.
وجاءت سينوغرافيا العرض - ملاك رفعت - محققة لفكر نوادي المسرح من حيث ثراء الصورة بأٌقل الإمكانات المادية المتاحة، فنحن أمام رجل في أقصى عمق اليسار على كرسيه المتحرك ولا ينبث ببنت شفة معلقا المحاليل، وكأنه الوطن في نهاية أيامه دون أن يسعى أحد لإنقاذه أو إزهاق روحه، وعلق على (البانوراما) إطارا مفرغا للصور لا يعكس صورة أحد إنما هو فارغ لقتل صاحبه غيلة، وزادت الصورة عمقا بمنضدة من جزئين يجلس عليها الرجل والمرأة ليتسامرا حتى إذا اختلفا شقت المنضدة نصفين لشرح حال بلدتيهما، ولما دنا الحكي من أملهما أن تضع الحرب أوزارها التحم جزءا المنضدة.
واستطاعت الإضاءة - إسلام أبو عرب - تأكيد الرموز والدلالات السيميولوجية المركبة للعرض المسرحي خاصة مع التنوع في استخدام الألوان وزوايا إسقاط الضوء والخروج من التقمص والتشخيص للحكي والسرد والروي ببساطة ونعومة أكدت الوعي بالدلالات.
كان الرجل والمرأة والجارة والأبناء موتى في بلادهم وفي البلد التي لجأوا إليها، وانقطعت وسائل التواصل اللغوي لاختلاف الألسنة حتى مع اتفاق الالم والأمل على حد سواء، فتحولوا من كينونتهم (كإنسان) إلى كينونة أدنى (بقايا إنسان)، وأصبحت منصة التمثيل للعرض المسرحي “صدى الصمت” لنادي مسرح الدقهلية حديثا مؤلما عن الموتى... (بقايانا).
 

 


محمد النجار

mae_nagar@yahoo.com‏