العدد 932 صدر بتاريخ 7يوليو2025
لم يكن الكاتب المسرحى الجنوب أفريقى “اثول فوجارد” الذى رحل عنا قبل أيام عن عمر ناهز الثانية والتسعين مجرد عملاق من عمالقة المسرح فى جنوب افريقيا. وتوالت الإشادة عليه باعتباره أديبًا ساهم فى تشكيل الحياة الاجتماعية والثقافية فى بلاده.
خصص فوجارد الأبيض البشرة معظم إنتاجه المسرحى للهجوم على النظام العنصرى فى بلاده. وهذا الأسلوب بدأ فى سنوات الحكم العنصرى ولم ينته حتى الآن رغم مرور أكثر من ثلاثين سنة على سقوط الحكم العنصرى عند وفاته.
وفى ذلك يقول إنها تجربة مؤلمة عاشتها بلاده وعلينا الا نتوقف عن استخلاص العبر منها خاصة أن هناك بقايا لهذا النظام لا تزال متجذرة فى المجتمع الجنوب أفريقى وإن كانت غير ظاهرة.
عنف وقسوة
يذكر له النقاد أنه كان يهاجم نظام الحكم العنصرى بعنف وقسوة تصل احيانا الى درجة المباشرة غير المقبولة فى العمل الدرامى بوجه عام.
ومن هذه المسرحيات “عقدة الدم” و”الأستاذ هارالد“ و”الأولاد”. وفى هذه المسرحيات كان يؤكد أن نظام الحكم العنصرى شوه الطابع الانسانى. وقد عرضت المسرحيات الثلاثة فى برودواى.
وتتناول مسرحية “رابطة الدم” علاقة أخوين غير شقيقين من السود. تتدهور العلاقة بن الشقيقين؛ لأن أحدهما كانت بشرته أقل سوادًا من بشرة الآخر إلى درجة تقترب من البياض. وكان هناك من يتعامل معه على أنه أبيض. ودفعه ذلك إلى معاملة شقيقه الآخر كشخص أقل منه. وقد جسد فوجارد شخصية الابن شبه الأبيض فى أحد العروض.
ويقول جايتون ماكنزى وزير الثقافة فى جنوب أفريقيا إن بلاده ابتليت بلعنة العزل العنصرى، لكنها وجدت من يتصدى لهذا الوباء ويشرح مخاطره على البلاد ويقترح السبل الكفيلة بالخروج منه ونحن ندين بالكثير لهذا الأدب الذى رحل الى العالم الآخر.
ومن الطريف أن الكثيرين من متابعى أدب فوجارد خارج جنوب أفريقيا أصيبوا بالدهشة والذهول عند وفاته عندما اكتشفوا أنه أبيض، وكانوا يحسبونه من السود.
التحدى
وفى سنوات الحكم العنصرى كان يتحدى الحكومة وقوانين العزل العنصرى وتعامل مع ممثلين وكتاب سود يشاركونه فى كتابة مسرحياته. بل إنه كان يجسد بعض شخصياته على المسرح فى عهد النظام العنصرى مثل شخصية الأخ غير الشقيق فى مسرحية رابطة الدم. وتعد هذه المسرحية الأولى من نوعها فى جنوب افريقيا التى يمثلها طاقم مختلط من السود والبيض. كما أدار ورشة مسرحية لتدريب المسرحيين السود.
وبسبب معارضته العنيفة لنظام الحكم العنصرى تعرض لاجراءات قمعية ورقابية عديدة امتدت الى أفراد اسرته. وفى عهد ذلك النظام شملت سحب جواز سفره لأربع سنوات. وكثيرًا ما كانت الشرطة تداهم منزله وتعبث بمحتوياته وتراقب اتصالاته الهاتفية وغيرها.
إلا أن الأمر لم يصل إلى اعتقاله أو أى من أفراد أسرته بل كانت الإجراءات القمعية من نصيب السود الذين يتعاون معهم فقط.
دافع
وفى تعليق طريف له على هذا الوضع قال وقتها إن أفضل أشكال الفن المسرحى فى أفريقيا جاءت من جنوب أفريقيا، بسبب النظام العنصرى. ذلك أن المظالم الرهيبة والوحشية التى ميزت سياسات النظام العنصرى ولم يكن لها مثيل فى أى مكان بأفريقيا جعلت المبدعين يصلون الى درجة من النضوج الفكرى والادبى للتعبير عن هذه المظالم. واضاف انه كان يسعى من خلال كتاباته فى المسرح وغيرها الى تدمير دائرة العنف المصاحب للعنصرية. وأفضل سلاح للقضاء على هذا العنف هو الحب الذى دعا إليه فى اعماله.
ومثال ذلك مسرحية الاولاد التى رشحت لإحدى جوائز تونى فى الولايات المتحدة لكنها لم تفز. تدور أحداث المسرحية عام 1950 فى مقهى بين ابن صاحب المقهى وهو من البيض واثنتين من العاملات السود فى المقهى. ويبدأ الابن فى اساءة معاملة السيدتين ثم يكتشف ان اباه انجبه منهما بطريقة الارحام المستأجرة! (هكذا تقول المسرحية بشكل غير منطقى) ورغم ذلك يستمر فى التعامل معهما بجفاء.
ورغم الفكرة غير المنطقية فقد أشاد بالمسرحية القس ديزموند توتو عند عرضها الاول عام 1983 باعتبارها تتحدث عن الاصل الواحد للإنسان وعن الاوضاع المزرية لحقوق السود فى جنوب أفريقيا وانعكاساتها اللبية على العلاقات الانسانية.
وقالت عنها مجلة تايم إن فوجارد أدان فى هذه المسرحية عورات النظام العنصرى التى تفضى الى افقار الروح وتشويه القيم الاخلاقية وهى اضرار لحقت بالسود والبيض على حد سواء فى عهد النظام العنصرى.
أصول متنوعة
وفوجارد من اصول متنوعة. ذلك أن أباه عازف بيانو متخصص فى موسيقى الجاز من أصول إنجليزية وأيرلندية. وكانت أمه أفريكانية من أصول هولندية والمانية وتدير متجرًا صغيرًا.
ويقول إن بداية إحساسه بمعاناة السود كانت مع زيارة ضاحية صوفياتاون فى جوهانسبرج التى كان السود يقيمون فيها فى مطلع شبابه فلمس الاوضاع المزرية التى يعيشونها هناك بفعل سياسات النظام العنصرى. وبعد سنوات قليلة دمر النظام العنصرى الضاحية وأجلى عنها سكانها من السود وأعاد بناءها لتصبح حيًا للبيض.
وشعر بمعاناة السود أيضًا عندما عمل فى مكتب مفوض المحكمة الوطنية فى جوهانسبرج والتى كانت مسئولة عن اصدار الاحكام ضد السود بمعدل حكم كل دقيقتين على حد تعبيره. وكانت نسبة كبيرة من هذه الاحكام بالجلد ويتم تنفيذها بوحشية. وكان يحاول تخفيفها بقدر الإمكان عن طريق التلاعب فى الإجراءات.
وقاده ذلك إلى تنمية قدراته الإبداعية ليعبر عن معاناة السود بأفكار غير تقليدية أحيانا، كما فعل فى مسرحية الولد.
ويقول انه التحق بكلية الادب فى جامعة كيب تاون لدراسة الفلسفة. وترك الكلية فى السنة الاخيرة قبل التخرج عندما شعر بأنه لن يستفيد من دراسته وسينفق وقته فى دراسات اكاديمية ويبتعد عن مشاكل الحياة الحقيقية.
وحتى عام 1956 كان نشاطه المسرحى محصورا فى التمثيل. وبدأ يتجه الى الكتابة المسرحية بعد زواجه من الممثلة شيلا ميرنج. وقد انهار زواجه وانتهى بالطلاق وتزوج من أخرى هى ميرا فورى بعد ان تجاوز الثمانين.
وجذبت موهبة فوجارد الانظار خارج جنوب افريقيا وانتدبته جامعة كاليفورنيا – سان ديجو لتدريس الكتابة للمسرح والاخراج والتمثيل. وتحولت بعض مسرحياته الى افلام. وحصل على جائزة تونى عن مجمل ابداعاته.
وظل فوجارد يمارس نشاطه فى الكتابة والتمثيل على المسرح حتى السنوات الاخيرة من حياته. كما شارك فى التمثيل فى السنيما احيانا.
وشارك فى تمثيل فيلم غاندى. وكانت اخر مشاركاته فى التمثيل المسرحى فى مسرحية “ظل الطائر الطنان”وهى ايضا من تأليفه. وتم اطلاق اسمه على احد مسارح كيب تاون.