المسرح الذي لا نعرفه.. المسرح الشرقي / الهند أنموذجا

المسرح الذي لا نعرفه.. المسرح الشرقي / الهند أنموذجا

العدد 887 صدر بتاريخ 26أغسطس2024

الهند أحد البلدان الشرق اسيوية الذي ينعم بالتراث والتاريخ والأساطير والتقاليد وتعدد الأديان والثقافات فضلا عن انه بلد زاخر بالظواهر الفنية والاحتفالية، ومزيج من الثقافات المتنوعة، كما أن الهند حافلة بالأعياد السنوية والمهرجان المجتمعية والدينية والفلكلورية، وكل هذه الميزات ساهمت بتشكل جذور الثقافة المسرحية الهندية على امتداد سنوات مضت، فالثقافة الهندية ضاربة في الجذور الإنسانية، وتمتد لألاف السنوات تاريخياً، مما يعز المكانة الجغرافية والدولية لهذا البلد، فهو أيقونة للتعايش وحوار الثقافات والحضارات نظرا لما يتمتع به من تنوع كبير على جميع المستويات، ولان الهند اليوم احدى واجهات العالم على المستوى الابتكاري والعلمي والثقافي، وبعد ان كان هذا البلد تحت وطأت الاحتلال لسنوات، اصبح في السنوات الأخيرة من اهم البلدان الذي يتصدر المشهد العالمي، لما فيه من اكتشافات وتطورات تسير في سرعة البرق وتلفت انظار العالم اجمع حول هذا البلد، مما يفضي الى ضرورة إعادة قراءة ثقافة وفن هذا البلد وتقديم جديده واكتشافاته على المستوى المسرحي، مما دعا الباحث اختيار الهند المعاصرة أنموذجا للبحث والتقصي عن ما لا نعرفه عن المسرح، فمن اهم المدلولات الثقافية المعاصرة هو ممارسة اركيولوجية معرفية للتراث المرجعي الذي استند عليه الفن المسرحي الهندي وصولاً الى المعاصرة وماذا يقدم الان في مسارح الهند، ذلك ان ثمة قطيعة ثقافية بيننا نحن العرب وبين بعض البلدان على المستوى الثقافي والفني، فمثلا لا نعرف من الهند المعاصرة سوى سينما بولييود، وهذا القصور الثقافي التواصلي بين البلدين يتعارض مع مفاهيم حلقات التداخل والتواصل الثقافي والحضاري، وبغية ربط الثقافات المسرحية بوحدة جمالية واحدة قوامها لغة المسرح والجمال فان الباحث سيتقصى ما لا نعرفه عن هذا المسرح، ابتداء من العودة للمرجعيات والفلسفات والتراث الذي كون هذا المسرح، بوصفه يرتكز على ذخيرة شعبية متأصلة في جذوره التاريخية والحضارية ومستندة الى المفهوم الديني في تقديم الاستعراضات والأداء في أماكن وفضاءات مفتوحة ومتنوعة، وسنستعرض عبر هذه الورقة ما لا نعرفه عن المسرح الهندي ابتداء من جذوره الأولى وحتى مرحلة الاكتشاف والتجريب في اعماله المسرحية، فتعد الهند منبعاً للمسرح في اسيا وعلى الرغم من أن ظهور المسرح الآسيوي لم يكن متزامناً مع المسرح القديم في اليونان وروما، إلا أنه يستحق النقاش هنا بدلاً من أن يكون ملحقاً لتاريخ الدراما الغربية. فغالبًا ما يُعتبر المسرح الهندي الأقدم في آسيا، اذ طوّر رقصاته ودراماه في القرن الثامن قبل الميلاد. وبالنسبة الى الكتب المقدسة الهندوسية فقد خاضت الآلهة والشياطين معارك قبل إنشاء العالم، والرب طلب من الآلهة إعادة تمثيل المعركة فيما بينهم من أجل الترفيه الخاص بهم. مرة أخرى هُزمت الشياطين، ووفقا للأسطورة، أمر براهما بدمج الرقص والدراما؛ بالتأكيد الكلمات “الرقص” و“الدراما” هي نفسها في جميع اللهجات الهندية،وباتت لغة الرقص تهيمن على المسرح في الهند شيئاً فشيئاً. ولعل اول ملمح هو  (المسرح السنسكريتي) اننا نتقصد اختيار الجذور التأسيسية للمسرح الهندي، ذلك انها كانت تحمل معها مؤثرات واضحة على مسرحهم المعاصر حتى وان كان المسرح المعاصر انسلخ بعض الشيء عن القوالب المؤسسة للمسرح الهندي الا انه حاول ان يجدد ببعض الاشكال والرؤى التي حملتها الجذور المسرحية الهندية، لعل اول مظاهر الفن المسرحي يكمن في ما يسمى باللغة السنسكريتية او الأدب السنسكريتي، فللمسرح الشرقي – الهندي تقاليده المتمثلة بالدراما السنسكريتية التي ظهرت نحو 320 ميلادية وأخذت مادتها من ملحمتين هما: المهابهاراتا ورامايانا المكتوبتين 500 سنة قبل الميلاد وتستخدم الشعر الملحمي، لذا يعد المسرح السنسكريتي أول شكل من أشكال المسرح الهندي القديم, وقد ظهر بعد تطور المسرح الإغريقي والروماني، فيما يهم جوهريا في هذا الصدد هو ان الكاتب المسرحي السنسكريتي يرى ان هدف العرض المسرحي في المقام الأول ماهو إلا وسيلة لاكتشاف الرازا أو السعادة القصوى. اما الملمح الثاني هو (فن الكاطاكالي الهندي) والكاثاكالي كلمة هندية تعني “الحركة التي تحكي قصة” أي “الحكاية الممثلة”، وهو نوع من المسرح الراقص معروف في الجنوب الغربي للهند وله أصول دينية، فهو خلاصة تجمع بين أنواع الرقص الديني المتعددة والرقص الشعبي الذي كان معروفاً في كل مقاطعة من المقاطعات وهو فن كلاسيكي منحدر من ولاية كيرالا، يقوم  على عد المسرح هبة الهية منبثقة من الثالوث الهندوسي البراهما، الفيشي، الشيفا، واعتبار العرض المسرحي بمثابة (قربان بصري) ومن عناصره الأساسية (النص/ الإضاءة/ الأزياء/الشخصيات/ الموسيقى والاغاني/التمثيل) اما الملمح الثالث (المسرح الشعبي الهندي) وتدريجياً تنوعت أشكال المسرح الشعبي بالهند على غرار المسرح الشعبي براجستان أو (Bhavai) الذي يعتمد على ممثلين متجولين وهو يعود إلى القرن 14 قبل الميلاد. اما الملح الأهم (المسرح الهندي الحديث ومابعده)  اذ يمكن إرجاع التطور المبكر للمسرح الهندي الحديث إلى أعمال بهاراتندو هاريششاندرا وهو ممثل مسرحي ومخرج وكاتب مسرحي مقيم في فاراناسي (باناراس)، وهناك أيضا الكاتب المسرحي الشهير روبندرنات طاغور، الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1913، أفضل كاتب مسرحي هندي معاصر. وقد كتب مسرحيات باللغة البنغالية. وبدء توطين المسرح الغربي في الهند مع الاحتلال البريطاني أواخر القرن الثامن عشر من خلال قدوم ممثلين من بريطانيا للترفيه عن جنودهم، ولكن نهضة الفنون المسرحية في الهند تعود الى اواسط القرن التاسع عاشر من خلال التطورات الحديثة التي ظهرت في الهند ولم يكن هذا كله معتمدا على الحكومات انذاك، رغم ان الحكومة انذاك ادركت مسؤوليتها في هذا المجال في مجال النهوض الفني والبعث الثقافي، ومنها تشجيع تبادل الافكار والآراء لتحسين الاساليب الفنية ونشر المصادر الخاصة بالفنون الجميلة الهندية ومن ضمنها الكتب والقواميس المصورة، ثم تجيء حقبة مسرحيات ما بعد الاستقلال اذ ان المسرح الهندي بعض الأحيان والفترات الزمنية عانى من قمع كولونيالي تحت سلطة المحتل الإنكليزي، خاصة خلال القرن التاسع عشر فسيطرت ثقافة الإنكليز على مسرح الهندي وحياتهم برمتها،وهذه الاعمال والانواع التي قدمت آنذاك لا ترتبط بتقاليد المسرح الهندي العتيدة كما يقول مؤرخيها.ان سبب التعارض بين الفكر الهندي  ومسرحيها وبين المسرح الغربي حسب ما يذهب لذلك مؤرخي ومنظري المسرح الهندي أن المسرح الهندي هو خلق شعور بالسعادة أو ما يسمى (رازا) عن طريق تصوير المواقف المختلفة والحالات الذهنية والمشاعر للوجود الإنساني، بينما هدف الدراما الغربية إظهار صراعات الحياة في اشكالها المختلفة أو صراع الالهة مع الإنسان أو الإنسان مع الانسان، اذ ان الإنكليز مارس سطوتهم الثقافية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر لفرض مهيمنات ثقافية على المجتمع الهندي من خلال المسرح، وكانت المسرحيات التاريخية في فترة ما قبل الاستقلال تركز على استحضار الكبرياء الوطني.اما العروض المعاصرة فكانت اغلبها تعتمد على العروض العيانية البصرية التي تثير الدهشة من خلال الحركات والرقص والاستعراضات المستمدة من الطقوس الهندية.


حيدر الأسدي - ناقد وأكاديمي ( العراق )