«التجريب في الثقافة الجماهيرية» ... توثيق لتجارب مهمة

«التجريب في الثقافة الجماهيرية» ... توثيق لتجارب مهمة

العدد 846 صدر بتاريخ 13نوفمبر2023

 كتاب “التجريب في مسرح الثقافة الجماهيرية” للكاتب والناقد أحمد عبد الرازق أبو العلا، كتاب صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة نصوص مسرحية العدد -189  
 ويُعد الكتاب الأول من نوعه في هذا الموضوع، ومرجعا هاما للباحثين والدارسين والمتخصصين، حيث تحدث فيه الكاتب عن مفهوم التجريب بشكل عام، ثم مفهومه في مسرح الثقافة الجماهيرية بشكل خاص، مستعرضا الأشكال التجريبية ومؤكدا على أهمية هذا التجريب المتسق مع ثقافتنا كوسيلة من وسائل الحفاظ على الهوية المصرية.
وهذه القراءة تقدم عرضا مبسطا لهذا الكتاب الذي قد يحتاجه من يبحث في هذا الموضوع.
ويتضمن مقدمة وعددا من الفصول تناول فيها المؤلف بعض الأشكال التجريبية مثل:
«مسرح المكان المفتوح» تطبيقا على العروض التي قدمها المخرج بهاء الميرغني، ومسرح الفلاحين” وتجارب سرور نور وعباس أحمد وعبد العزيز مخيون في هذا المجال، ثم “مسرحة المكان” وتجربة الكاتب هشام السلاموني والمخرج حسن الوزير فيها، فضلا عن الظواهر المسرحية، و”مسرح الشارع”، وتجربة “السرادق” عند المخرج (صالح سعد) المنحاز لتقاليد الكوميديا الشعبية، بالإضافة إلى تجارب (عبد الستار الخضري) المتعددة في هذا الإطار، ثم تناول تجارب الشعبة التجريبية التي شاركت في المهرجان الدولي للمسرح التجريبي في دورته الأولى، وفي ختام الكتاب تحدث عن “نوادي المسرح”.

التجريب لم يكن وليد الصدفة
 أشار المؤلف إلى أن الإيمان بفكرة التجريب وتبنيها لا يأتي لمجرد أن لدينا مهرجانا للمسرح التجريبي، ومن الواجب أن تكون لدينا الرغبة الأكيدة في تطوير تجربتنا المسرحية بما لا يتعارض مع ثقافتنا وهويتنا وإمكانياتنا المادية والبشرية، مؤكدا على أن التجريب ضرورة، خاصة أن المسرح في حاجة إلى تطوير دائم وخصوصا على مستوى التقنيات.
  وأوضح الكاتب أن المسرح في مصر ومنذ الستينيات شهد بعض تجليات التجريب، وكان نابعا من ظروف المجتمع السياسية والاجتماعية، فالتجريب لم يكن وليد الصدفة، وإنما جاء تلبية لاحتياجات، وضرورة أن تكون لمسرحنا هوية تجعله متميزا وقادرا على المنافسة والتواجد والتجاور مع مسارح الدول الأخرى خارج المنطقة العربية، ولكي يكون مسرحنا قادرا على التطور والتغير والمواكبة.
   وأوضح أيضا أن الدخول إلى منطقة التجريب يحتاج إلى وعي وثقافة وموهبة، بهم يستطيع المُجرب أن يحمي نفسه من خطر الذوبان في الآخر “التغريب” بحيث لا يتخلى عن مرجعيته، كما ذكر أنه في بداية الستينيات ظهر «مسرح الجيب» في مصر ليؤكد على أهمية المنحى التجريبي سواء من خلال تقديم نصوص أجنبية، أو نصوص مصرية جديدة ومغايرة عن النصوص المُعربة أو المقتبسة، فضلا عن تقديم نصوص كُتاب من مصر والوطن العربي التزاما بهذا النهج المنحاز للتجديد والمغايرة، مشيرا إلى أن عددا كبيرا من المخرجين تعاملوا مع هذا المسرح وتركوا بصماتهم واضحة على عروضهم المسرحية التي قدموها منذ الستينيات وما بعدها.
  ونشير إلى أن الكاتب في كتابه اعتمد على منهجين، الأول منهما: قدم تنظيرا للتجارب، والثاني: اهتم بالجانب التطبيقي الذي تناول العروض التي عبرت عن تلك الأشكال التجريبية التي ذكرناها آنفا.

مسرح «المكان المفتوح»
فضلا عن المقدمة، الكتاب يتكون من ستة عشر فصلا تعرض فيها الكاتب إلى كافة الأشكال التجريبية في مسرح الثقافة الجماهيرية.
 وتحدث الكاتب عن مسرح “المكان المفتوح « موضحا بعض الرؤى الثائرة على المسرح التقليدي والمنحازة للتجريب في عنصر المكان المسرحي بما يحقق التلاحم بين العرض والجمهور، مشيرا إلى رؤية الكاتب الانجليزي «بيتر بروك» الذي دعا فيها لاتخاذ المساحة الفارغة والتي أسماها «خشبة مسرح عارية» وهو المسرح القادر على التواصل مع الناس والتعبير عنهم.
فيما قال الناقد الانجليزي “بيم ميسون” إن المسرح المفتوح لا بد أن يكون على وعي كافٍ بكل الآليات التي يعمل من خلالها.
 وأشار الكاتب إلى انحياز كل من (بهاء الميرغني) و(محمد أبو العلا السلاموني) للمسرح المفتوح، ونشر الوثيقة التي صدرت فيما يتعلق بتجربة المسرح المفتوح والتي حددت فيها الفلسفة والأسس الفنية التي تقوم عليها، اعتمادا على مشاهدة المؤلف للعروض في مواقعها، فضلا عن مناقشة كافة المعنيين بتنفيذ العناصر الفنية وتركيزها على توضيح مقومات العرض فيما يتعلق بالموضوع والإخراج والسينوغرافيا والنص والتمثيل والموسيقى وغيرها، وفي مجال المسرح المفتوح قدم الكاتب نماذج تطبيقية من عروض المخرج بهاء الميرغني منها “الظلال والعرائس والبشر في عرض أحلام مشروعة، ودون كيشوت” وتحدث عن عرض «شمهورش الكذاب للمخرج رضا غالب، وعرض (ثمن القمر) للمخرج السيد فجل، وعرض (قراقوش والأراجوز) للمخرج سيد هنداوي”.

مسرح الفلاحين
الفرجة والمتعة والرسالة
وفي إطار حديث الكاتب عن «مسرح الفلاحين» أشار إلى أن هذا المسرح  أنشأه المخرج سرور نور الذي أُطلق عليه «عاشق الفلاحين»،  وتظهر أهميته من قدرته على مخاطبة فئة لا تعرف عنه شيئا وهي فئة الفلاحين، وهنا تتجلى أهمية ذلك المسرح حين يكون قادرا على تحقيق عنصري الفرجة والمتعة مع توصيل الرسالة إلى المتفرج والتي يكون أساسها تربويا وتثقيفيا وترفيهيا.
 وأوضح أن تجربة مسرح الفلاحين لم تستمر ولم تثمر إلا أعمالا قليلة صارت تراثا نضرب به المثل حين نتحدث عن تلك التجربة التي انتهت برحيل صاحبها.

مسرحة المكان
كما أشار الكاتب في كتابه إلى تجربة نوعية متميزة أخرى وهي «مسرحة المكان» كما تبناها كتابةً «هشام السلاموني» وإخراجاً «حسن الوزير»، وذكر أن هناك محاولات أخرى قدمت مع تلك التجارب المشار إليها لكنها قليلة للغاية ولا تشكل ملمحا يمكن الاستناد إلى مقوماته وأسسه ومعرفة معالمه.  

مسرح الشارع والظواهر المسرحية
أما فيما يتعلق بـ»مسرح الشارع» فقد تحدث الكاتب عن الظواهر المسرحية التي ظهرت في منطقتنا العربية، والتي كانت تقدم في الشارع ومنها مثلا «الحاوي وخيال الظل والأراجوز والسامر الشعبي وشاعر الربابة والحضرة وحلقات الذكر».
تلك الظواهر التي كانت نواة لنصوص مسرحية قادرة على جذب الجماهير خارج الأماكن المغلقة، وأشار إلى أن مشكلتنا الأساسية أننا لا نملك نصوصا مسرحية قادرة على تحقيق عنصر جذب الجماهير خارج الأماكن ذات الأبواب، وأكد على أنه لتحقيق هذا الهدف لا بد من وجود مؤلفين قادرين على القيام بتلك المهمة إلى جانب الأداء التمثيلي وعناصر الفرجة والاستعراض والموسيقى والغناء وغيرها من الفنون الحركية الجاذبة.
كما أكد مؤلف الكتاب على أن مسرح الشارع له قوانين وقواعد وآليات خاصة، مشيرا إلى أن توفيق الحكيم استطاع توظيف بعض الظواهر المسرحية في المسرح في وقت مبكر حين كتب مسرحيتي «الزمار، والصفقة»، وأنه فكر منذ الثلاثينيات في الأماكن المفتوحة، وقد فتح الباب لذلك.
وأكد الكاتب أنه يمكننا أن نتخذ من الظواهر المسرحية مهما كانت بدائيتها أداة لتأليف نصوص جاذبة يمكن أن تعرض في الشارع، ونتناول من خلالها موضوعات تهم الناس في المقام الأول، ولا تبتعد عن حياتهم ويمكن لها أن تناقش بعض أمورهم، وليس من المهم أن تكون ذات طابع سياسي كما ظهرت في أمريكا مثلا، بل يمكن أن تكون اجتماعية أو إنسانية، المهم أن تتوفر لها مقومات العمل المسرحي المؤثر والفاعل.
وأشار الكاتب إلى بعض التجارب التي قام بها الشباب في السبعينيات في مصر، وإلى تجربة مسرح الشارع في أمريكا، وبعض التجارب التي لم تستمر طويلا؛ لأنها كانت تخرج من عباءة الأحزاب السياسية وهي التي توقفت تماما، وأشار أيضا إلى تجارب بعض الهواة والتي اتخذت من الشارع مكانا للعرض المسرحي مثل عرض “الانكشارية” الذي قدمته فرقة السويس للهواة من إخراج محمد الجنايني عام 2006، وفي نفس العام قدم المخرج عادل حسان عرض “آخر الشارع”، مشيرا إلى أن العرضين استفادا من كل المفردات ذات الصبغة الشعبية اللافتة والجاذبة للجمهور، وأوضح المؤلف أن كل تلك التجارب المتناثرة في التاريخ المذكور لا نعتبر أنها مثلت اتجاها تنبغي متابعته لأنها لم تستمر لعدة أسباب ذكرها المؤلف منها: عدم وجود نص مسرحي مؤثر، إضافة إلى التوجه السياسي الصرف، مع إغفال عناصر الفرجة ما كان سببا لانصراف الناس وعدم استكمال التجربة، فضلا عن عدم وجود الممثل المدرب على الأداء خارج الأبواب المغلقة، وافتقاد روح المغامرة الحقيقية، وتغافل البعد الرابع في المسرح وهو الجمهور لسنوات كثيرة، بالإضافة إلى تقاعس الحركة النقدية عن تقديم تصورات عملية لكيفية التعامل مع أي فراغ مسرحي، إضافة إلى معوقات الشارع.

تجربة ميدان التحرير
كما تطرق الكاتب إلى تجربة «ميدان التحرير» وهي التجربة التي قام بها مؤلف الكتاب الكاتب أحمد عبد الرازق أبو العلا ونظمها حينما كان مديرا عاما لمسرح الثقافة الجماهيرية، وهي تلك التجربة التي تمت في الفترة من 9 إلى 13 مارس 2012 لمدة خمسة أيام، وكان عددها عشرة عروض جاء أصحابها 200 شاب وشابة من محافظات السويس وطنطا ونجع حمادي وبني مزار ومغاغة والمنوفية وأسيوط، على الرغم من ظروف الميدان والاعتصامات والثورة، لكن هذه التجربة استطاعت جذب أنظار كل المقيمين في الميدان بتباين أفكارهم واختلاف توجهاتهم وأهدافهم، وأكد أنه من خلال التجربة استطاع مسرح الشارع بالفعل صرف الناس عن القيام بأعمال الشغب، وأنه قادر على أن يجعل الميدان مكانا هادئا.

نوادي المسرح
الحرية والاكتفاء الذاتي بدون إنتاج
وفيما يتعلق بـ»نوادي المسرح»  أشار الكاتب إلى أنها من أهم الميادين التي تبنتها الثقافة الجماهيرية في إطار التجريب المسرحي، محددا أن هذا النشاط الفعلي بدأ عام 1990، وتوج  بإقامة مهرجانه الأول في العام نفسه، تلك التجربة استندت في عملها إلى دعامتين الأولى: تقديم عروض مسرحية قصيرة وتجريبية، والثانية: تقديم العروض اعتمادا على الاكتفاء الذاتي وبدون إنتاج؛ تأكيدا على روح الهواية والانحياز لمجموعة من الأسس والضوابط التي تنظم عملها ومنها: التمتع بأكبر قدر من ممارسة الحرية، لأن نصوص النوادي لا تخضع للقواعد التي تخضع لها النصوص المسرحية التي يتم إنتاجها في الشرائح المتعارف عليها، ولا يتقاضى المؤلفون أجرا عن نصوصهم سواء الجدد منهم والراسخون، فضلا عن العمل على اكتشاف المواهب المتنوعة في عناصر العرض المسرحي، والتأكيد على أهمية المسرح الفقير غير المعتمد على وسائل إنتاج احترافية بقدر اعتماده على رسالة وثراء المعنى ومتعة الفرجة، هذا المسرح لا حدود للخيال فيه.
وعروض النوادي تتمتع بتحررها من قيود الشرائح الإنتاجية التقليدية، فضلا عن أنها توفر الدورات والورش التي تصقل مواهب الشباب بل والعاملين في هذا النشاط. 
وركز الكاتب هنا على دور دكتور «عادل العليمي» لأنه أول من تقدم بمشروع نوادي المسرح وعمل بالفعل على أن يظهر إلى الوجود.
وعرض الكاتب في كتابه الوثيقة التي تقدم بها دكتور عادل العليمي والتي أشار فيها إلى منهجية عمل نوادي المسرح، والأسس التي يقوم عليها هذا النشاط، مشيرا إلى أن الدكتور سمير سرحان كان أول من أصدر قرارا بإصدار إدارة النوادي عام 1983، وأن عادل العليمي كان أول مدير أدارها في العام نفسه.
وفي نهاية الكتاب، أشار الكاتب إلى العروض المتميزة التي شاركت في المهرجان الدولي للمسرح التجريبي على مدى دوراته منذ عام 1988 حتى عام 2010 ومنها: «الجلاد والمحكوم عليه بالإعدام، وسقراط في المدينة، وهموم دمياطية، والمحبظاتية ولعبة الكراسي” كما تعرض بالنقد لتجارب أخرى بأساليب متباينة منها: “الليلة نلعب، الزغاريد والسامر الشعبي، الفيل يا ملك الزمان مذبحة القلعة، وتجربة المسرح الصوتي”.
 وفي نهاية الكتاب تساءل مؤلفه هل المسرح ضروري في عالمنا؟ وأجاب عن هذا السؤال بعرض كتاب المساحة الفارغة للمخرج بيتر بروك.


سامية سيد