لمن ينتمي المسرح؟ الكورالية القديمة مقابل الدراما الحديثة (1-3)

لمن ينتمي المسرح؟    الكورالية القديمة مقابل الدراما الحديثة (1-3)

العدد 713 صدر بتاريخ 26أبريل2021

يستكشف هذا المقال المدى الذي بلغه التهميش النسبي للمسرح في مجالي الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع نتيجة افتراضات محددة حول المسرح أصبحت طبيعية في القرن العشرين، ولاسيما فكرة المسرحية كنص له، والأداء باعتباره تحقيقا لها . واليوم، ما تزال كلمة «مسرح» توحي للكثيرين الذهاب لمشاهدة مسرحية أو تقديمها، وترتبط كلمة «الدراما» بالواقعية النفسية أو عموم ألإنسانية المتخيلة أو بعضا منها . ولكن أصبح كلا هذان المفهومان سائدين في عام 1880، عندما أصبح المسرح والتمثيل مرتبطين بالنصوص الأصيلة والمؤلفة بشكل متزايد : النصوص الجادة والمحترمة في النهاية والتي تتمحور حول موضوع علي خشبة المسرح، وهو الموضوع الذي يتحدى القدرات التحليلية والتفسيرية للجمهور الشامل الذي يتضمنه. وأينما وجدت الكتابة، فان الأداء مهما كان تعريفه الواسع، سوف تكون له علاقة، بشكل أو بآخر، بالتوصيف النصي والتسجيل والمحاكاة. ورغم ذلك، فقد تميزت الدراما الأدبية (أو الدراما الحديثة، والدراما الجديدة، أو الدراما ببساطة)، التي ظهرت مع الاهتمام الأوروبي أواخر القرن التاسع عشر بالدراما الاجتماعية الصادقة والطبيعية، بتحول كبير في أفكار المسرح المرتبطة بالطقوس والأحداث العامة. وما تزال هذه النقلة تؤثر في التوجه إلى المسرح اليوم، ولها تأثير عميق علي مقاربات تاريخ المسرح. ولا ينبغي أن نفترض أن شروط المسرح الحديث شروط معيارية، كما تجادل زوي سفينسن Zoe Svendsen . ولكننا يجب أن ننظر أيضا إلى تضمينات هذا المنظور فيما يتعلق بالكيفية التي نشاهد بها المسرح في الأزمان والعصور الأخرى .
 تزامن هذا التحرك نحو وجهة نظر مركزة موضوعيا للمسرح مع الاهتمام المتزايد بعلم النفس وتعتيم قاعة المسرح وما يصاحب ذلك من فصل بين الجمهور والمؤدين (الحائط الرابع). وقد تم تعزيز التأكيد المتطابق علي «الشيء« الذي يتم أدائه، وعدم التركيز علي المشاهدين من خلال التطورات اللاحقة في الحداثة والقومية والسينما . وما تزال المناقشات الأكاديمية الحالية في عدة مجالات تتأمل وجهة نظر الفطرة السليمة للأداء علي أنه تقديم لشيء موجود مسبقا – سواء كان نصا أو قصة أو فكرة . وأن فكرة الأصل الذي لا يمكن تحقيقه بالكامل، ولكن يتم تقريبه فقط بشكل لا متناهي هي فكرة ثقافية وتاريخية تخص أوروبا الغربية وأواخر القرن التاسع عشر، كما سبق أن اقترحت في موضع آخر . ويستخدم هذا المقال مثال المسرح اليوناني القديم لتوضيح كيف أن التركيز علي الموضوع الأدائي قد عمل علي مفهوم المسرح ووظيفته في عصور وأماكن أخرى باعتباره النموذج التمثيلي للجمهور أو المجتمع أو المشاهدين والتفاعل معهم .
 وقد وجه تأثير الدراما الافتراضات المعيارية والأكاديمية والشعبية حول الممارسات المسرحية في فترة ما بقبل هذا التغير، وخارج التقاليد الغربية. ومن المهم أن ندرس التأثير الاسترجاعي للنموذج الدرامي الحديث (والغربي)، وأن ننتبه للتأريخ الذي شاهد الممارسات المسرحية السابقة من خلال عدسته . وقد كان تأثيره منتشرا، علي الرغم من التصحيح الذي طرأ علي وجهة نظر المسرح هذه في شكل دراسات الأداء، التي تطورت من الأنثروبولوجيا، وتعتبر المسرح للوهلة الأولى مساحة للتأمل الذاتي للمجتمعات المشاركة فيه . ففي مناقشات المسرح، يتم السعي إلى نص من نوع ما أو توقعه – أو أن لم يكن الأمر كذلك، فعلي الأقل يكون الحدث مقيدا ببداية ونهاية موقوتة، أو بخشبة مسرح محدودة معماريا، أو قصة تتمحور حول شخصيات فردية، وأفعالهم، ومن التقديم عبر ممثل، يتوافق مع أفكار اللباقة النفسية التي يفترض أنها عامة . وقد عملت هذه النظرة علي تقليص إمكانياته التأويلية والمجازية كما أوضحا فلاين وتينيوسفي مقدمتهما من خلال مناقشة العروض ذات الصلة. ونظرا لأن المسرح، باعتباره رمزا وممارسة للجماعة، فان له علاقة أساسية باهتمامات الأنثروبولوجيا الاجتماعية، كما لوحظ في القرنين التاسع عشر والعشرين، ومرة أخرى في الستينيات. ويجدر بنا أن نسأل لماذا لم تؤدي رؤية المسرح باعتباره أنثروبولوجيا في أعمال كل من ريتشارد شيشنر وفيكتور تيرنر في الستينيات، علي سبيل المثال، لم تؤد إلى إعادة الاستفسار عن المفاهيم والتصنيفات المعنية، كما هو الحال الآن بشكل متزايد، بل إلى انقسام بين الدراسات المسرحية من ناحية ودراسات الأداء من الناحية الأخرى . وتحول المسرح إلى سلعة هو جزء من الصورة، أو رؤية المسرحيات كترفيه تجاري، أو – علي النقيض من ذلك – الأعمال الفنية ذات القيمة الجمالية أو الأيديولوجية المستقلة (وكلتا الفكرتان تحويل إلى سلعة، كما يفعل هذا التعارض المفترض): لكنها أيضا الطريقة الوحيدة التي تخدم بها هذه الرؤية المتمركزة في المسرح جداول الأعمال الصارمة .
 ففي مجال الدراسات الكلاسيكية، مثلا، كان بعض العلماء حريصين بشكل مفهوم علي التأكيد علي الإمكانيات الترانسندنتالية والمستقلة للمسرحيات اليونانية، وأيضا فكرة أصول المسرح في اليونان القديمة، كما انجذبت دراسات المسرح المبكرة، التي كانت حريصة علي وضع معايير لموضوعها، بشكل مفهوم، إلى فكرة أن المسرحيات تنتمي إلى الأدب، كما أنها مرجع للإنتاج المهني الذي ارتبط فيه النجاح التجاري والنقدي بالأهمية . وأي نظام معني بإثبات القيمة المتأصلة وموضوعية الموضوع، إلى حد ما، لديه حافز داخلي للبحث عن العالم الإثنوجرافي والتعرف عليه في علم الإثنوجرافيا، وربما أيضا الترحيب بالإيحاء بأن الإمكانيات الجمالية المتأصلة في الأعمال الموضوعية المعنية تفسر تكرارها. ومع ذلك لا توجد مساحة اجتماعية إضافية يمكن أن تحدث فيها هذه الأعمال، إذ تشارك الأعمال المكررة بالتعريف بوضوح في سياقاتها المحلية والزمنية. والمسرح، في الواقع هو نموذج لهذه العملية، ويستحضر بطبيعته الماضي الجماعي، كما يشير مارفن كارلسون وبول كونرتون وآخرين. وقد تناول مايكل فرايد (من تاريخ الفن)، أو نيكولاس بوريوه (من علم الاجتماع وتاريخ الفن) المسرحي كنموذج مفيد للطبيعة الاجتماعية/ الترابطية الأساسية في جميع الفنون، علي سبيل المثال، وكلاهما تعرضا للنقد من جانب جاك رانسييه في مقالة الأخير عن دور جمهور المسرح ووساطته . ولذلك تستكشف هذه المقالة أيضا دور المؤسسات الفكرية، وجداول الأعمال الصارمة في خلق الإدراك، ولاسيما فعالية أفكار الأصول، والفترات الزمنية، والاستمرارية التعاقبية، التي لعبت فيها الدراما اليونانية الدور الرئيس . فقد أتاحت الدراما اليونانية في تلقيها الحديث تصورات تاريخية قوية لتسلسل الموضوعية . وغالبا ما تخفي مراجع تاريخ المسرح الافتراض غير المدروس بأن هناك مجموعة موحدة أو عابرة للتاريخ من الممارسات ذات المغزى هي نفسها موجودة في السياقات الثقافية المتنوعة، مثل المنافسة في مهرجان الأيام الخمسة في القرن الخامس قبل الميلاد في أثينا، أو في القرن التاسع عشر في بريطانيا، أو في الحاضر العالمي . وأيا ما كان يحدث في الأكروبوليس في القرن الخامس قبل الميلاد، فقد كان مكانا خياليا يتم فيه بناء كل فكرة عن المسرح ومنافستها .
 ما يلي يلامس لحظتين رئيسيتين من إبداع ما يعد، بالنسبة لنا الآن، المسرحيات اليونانية، والمقارنة بين المنافسة الكورالية الموسمية الأصيلة في المهرجانات الدرامية في القرن الخامس قبل الميلاد، وما تلاها من إعادة للأداء في القرن الراب قبل الميلاد، والاكتشاف الثوري في أواخر القرن التاسع عشر بأن النسخ الأصلية المزعومة لهذه النصوص يمكن أن تكون ذات مغزى للجمهور في العصر الحديث، والتي ساعدت جنبا إلى جنب مع عروض مسرحيات شكسبير الأصلية في خلق شروط تلقي لترسيخ الدراما الناطقة باللغة الإنجليزية . ففي بريطانيا في مطلع القرن العشرين أصبحت المسرحيات اليونانية التي تم تجسيدها حديثا كجزء من التحركات لتوسيع نطاق التعليم للجميع، وتطوير ذخيرة مسرحية وطنية عالية الجودة، في نفس الوقت الذي سعى فيه علم الأنثروبولوجيا، في خطوة متناقضة، للتخلص من المثالية الكلاسيكية المتمركزة حول أثينا، والاستفسار عن سيطرة اليونان الكلاسيكية علي الهوية الغربية الامبراطورية . وقد كانت الاكتشافات الأوروبية اللاحقة للدراما الأثينية من قبل علماء الأنثروبولوجيا البنيوية مثل ليفي شتراوس وجان بول فيرنانت وفيدال ناكيت، كنموذج للمباديء الاجتماعية والأنثروبولوجية، موجودة جنبا إلى جنب ( مع بعض الاستثناءات) مع خيوط العلم ودراسات المسرح المرتبطة بمشاهدة المسرحيات اليونانية كموضوعات جمالية مستقلة مرتكزة علي النص . ويشير هذا السرد عن المسرح اليوناني الأصيل، والذي لم يتم استجوابه بشكل أكثر شمولا، إلى أهمية وضع سياق تاريخي، ليس فقط للأحداث نفسها، بل أيضا لتعقيد المواقف الاجتماعية الموضوعية التي تنسب إليه تعريفها المتطور وقيمتها . فعلم الجمال وعلم الاجتماع ليسا مرتبطين بتجربة الذات الفردية المتجسدة في البنيات الأوسع للتاريخ .
 وربما يكون أحد أمثلة هذا التفاعل من وجهة النظر التي تتمحور حول الموضوع في المسرح هو حقيقة أن علماء الدراسات الكلاسيكية لم يدركوا إلا مؤخرا نسبيا الأهمية الحاسمة للتمييز بين الدراما الأثينية في التنافس الكورالي والتشكيل اللاحق لجزء واحد من حفنة الأحداث باعتبارها نصوص معاد أداءها (الدراسات التي تشكل منعطف كورالي) أو أن الدراسات المسرحية أدركت مؤخرا نسبيا أهمية تضمين ما يسمى «دراسات الهواة» في نطاق اختصاصها . ويساهم كلا الخطان الصارمان الآن في الجدال الحالي الأوسع حول الحدود المفاهيمية للمسرح والمسرحي . وقد كان نقد النموذج الدرامي موجودا منذ بدايتهما . وقد تم تصنيف ممارسو المسرح، مثل بريخت وأرتو وبيكيت، الذين اعترضوا صراحة علي آثاره غير السياسية، وتأكيده علي النص كتحفة فنية، وسرده المتمركز حول الأفراد، فضلا عن الظروف أو النظم الاجتماعية، وسلامته البعيدة كطقوس برجوازية، ضمن التلقي التاريخي الذي حول نصوصهم زمنيا إلى نصوص مكررة. وقد تحدت التغيرات الأخيرة في الممارسة المسرحية فكرة المسرح، نظرا للتعبير التاريخي الذي قدمه هانز سيز ليمان في كتابه «المسرح بعد الدرامي» 2006 . ولكن هناك نوعا جديدا من التساؤل عن مفاهيمنا عن المسرح وتاريخ المسرح يوجد في شكل حاضر رقمي عالمي يلفت الانتباه إلى توسيط الجمهور والجماعية والتفاوض مع قوى اللعب الفاعلة في عمليات الاختيار والتسجيل والتكرار . وحيث ندد أرتو بقدسية الموضوع الجمالي في عام 1938 من خلال الانتقاص من قيمة النص كتحفة فنية، فان عصرنا الحالي يشهد نهاية الموضوع الجمالي تماما، كما توحي المصطلحات الرسمية في سجلات قضية الكابيتول . فلم يعد الأمر مجرد موضوعات، بل وسيلة تُباع وتُشترى . ففي بيئة رأس المال المعترف به، تعد الألفة سلعة أساسية : تشكل الكتلة الحرجة من الاهتمامات النقدية وجودا افتراضيا . في العالم الرقمي المهم هو من يعرفه . ومن وجهة النظر هذه فان الحشود المفاجئة وأشكال التخريب الجماعي الكرنفالية الأخرى ذات الأبعاد السياسية هي مسرح بامتياز، كما بعض المتخصصين، وظهور شاشات الصوت، بالإضافة إلى الشعبية غير العادية لمجموعة متنوعة من محتوى شاشة البديل البديل الحي في دور السينما المحلية في بريطانيا 2009، إلى أهمية الديناميات العلائقية التي كانت فاعلة في أحداث سابقة محددة مؤقتا وندرة دو العرض السينمائي. لذلك فان رؤية المسرح كممارسة اجتماعية معقدة هو تصحيح في الوقت المناسب لمفهومه كموضوع جمالي. والمسرح والأداء كظاهرتين جماعيتين تتعلقان بالتعددية والغموض هما أداة مفيدة للتفكير بها بشكل متزايد .
 وربما هناك مثال آخر لهذا التأريخ المركز علي الموضوع هو أن معظم العلماء في أي مجال لن يناقشوا الدين والسياسة مثلا، بدون الحكم، علي الأقل، علي مشكلة اللغة والطبيعة الثقافية لمثل هذه المفاهيم . ولكن لم ترتبط نفس الحساسية بمصطلح المسرح الذي يستخدم غالبا وكأن مرجعياته يمكن افتراضها عموما . ومع ذلك كانت أسئلة المسرح بالنسبة للأثينيين القدماء أسئلة تتعلق بالدين والسياسة . وتميل لغاتنا الأوروبية الحديثة لفصل التجارب التي تم التقاطها بعد ذلك علي أنها لا تنفصل في الشكل الأسطوري ومفهوم ديونيسيوس. فلم يكن ديونيسوس، إله الإيهام التمثيلي، والحالات العقلية المتغيرة، والسلوك الجماعي (تجمع العقائد الثلاثة معا) وترتبط ارتباطا وثيقا بالموت والحياة الآخرة ليس آمنا أبدا: ولكن الناس عادة ما يمارسه الناس ويعايشونه معا .
 وتميز الدراسات الكلاسيكية الحالية دور كتاب «فن الشعر» لأرسطو في ترسيخ موجودا منفصلا للنصوص في الدراما اليونانية عن الأصول الكورالية السياسية الجوهرية . ولم تكن الدراما الأثينية هي التي كان يحاول أن يفسرها أرسطو، ولكن إعادة العرض الواسعة لعدد ضئيل من نصوصها خارج أثينا بعد قرن . وكما يقول مارتن ريفرمان :
 لقد أدت الدراسات السياقية للدراما الأثينية إلى ثورة جذرية
 جذرية في المسرحيات باعتبارهـا أحداثـا كورالية إلى حــد كبير، وبالتالي وضع الكوراس (مرة أخرى) في المركز التفسيري للنصوص الدرامية . وتمثل هذه الرؤية خروجـا حادا عن تقالـيد طـويلة من المعرفـة العلميـة التي استنارت بكتاب أرسطو “فن الشعر”، وتشكلت من خلال فكـرة أن الدراما الأثينية وصلت إلى مستواها الكامل عندما انفصلت عن أصولها الكورالية .
ويمكن اعتبار هذا الانفجار في في عروض الدراما اليونانية في الستينيات، ولاسيما من خلال جماعات المسرح الراديكالي والمسرح ما بعد الكولونيالي والجماعات الأصيلة التي تتخذ من مناهج المسرح الجماعي والبدني، في حد ذاته، رد فعل ابداعي مستمر لهذا التقليد المستغل في موضوعية النصوص الدرامية اليونانية القديمة : الممارسات الابداعية التي أدت دورها في احداث تغيير في المعرفة . وما يلي ينظر إلى الطبيعة الكورالية الأصيلة للدراما الأثينية ودور أرسطو الحاسم في توجيه الانتباه بعيدا عنها، قبل التحول إلى ما يسمى العروض الأركيولوجية للنصوص الدرامية الأصيلة للدراما اليونانية (وشكسبير) في بريطانيا في عام 1880، والتي أجادل بأنها تميز ظهور الافتراضات المعيارية الحديثة حول المسرح .
الكورالية المفقودة والموجودة: أو كيف أصبحت التراجيديا اليونانية يونانية وتراجيدية علي حد سواء
من المثير للسخرية أن الدراما الأثينية أصبحت نموذجا لفكرة المسرحية المرتكزة علي نص والمسرح المرتكز علي المسرحية : في القرن الخامس قبل الميلاد، كانت المسابقات الدرامية الأثينية، التي أصبحت آثارها النصية فيما بعد مسرحيات يونانية، أشكالا طقسية جماعية ذاتية الاستفسار، طورت ووسعت الإمكانيات المجازية والمادية للأداء الكورالي التقليدي . ويحتاج فهم الظروف الأصيلة التي أظهرت هذه النصوص، ليس فقط نبذ مصطلحات مثل «المسرح» و«الدراما»، بمعانيها المختلفة التي تراكمت فيما بعد، ولكن أيضا نبذ أي أفكار عن النص والمؤلف، كما قال أودون لونجو في كتاب زيتلين ووينكلر الصادر عام 1992 بعنوان «لا علاقة لديونيسيوس: الدراما الأثينية في سياقها الاجتماعي Nothing to do with Dionysus: Athenian Drama in its social context» .
 فالموكب الكبير وهو أحد أجزاء تلك العروض الثابتة التي كانت نقطة النهاية له (فما نسميه الآن «الدراما» كان يطلق عليه في البداية « الجوقات الدائرية»)، وكذلك عروض السير لأيتام الحرب الأثينية بالدروع الكاملة التي كانت تتقدمهم في اليوم الأول من عروض الكوراس الترتيلي (dithyrambs) من كل مقاطعات أثينا العشر، يمكن وصفها جميعا بأنها نوع من الرقصchoreuein . وما يشار إليه الآن بعنوان “ أوديب الطاغية Oedipus Tyrannus”، والتي كتبها الجنرال الأثيني سوفوكليس، هي الربع الذي دخل به المسابقة المكونة من أربعة أجزاء التي خسرها، وقد تمت الإشارة إلى أنها رقصة تقدمها المدينة بمشاركة نفس الإثني عشرة شابا الذين يؤدون ثلاث تراجيديات ومسرحية ساتيرية في يوم واحد. وقد كان هذا الإنجار القوي في حد ذاته جزء الإعجاب theama. وقد كان قائد الجوقة أو المدرب هو المنتصر المسمى في النقوش، مع أسماء الكتاب التي لم تظهر قبل 448 قبل الميلاد . وقد كانت ديونيسيا أو المدينة الأكبر هي الإنفاق الرئيسي في العام (تكلفتها هي نفس تكلفة غزو صقلية، مثلا، وقال أحد المعلقين القدماء أن تكلفته الباهظة جعلت أثينا تخسر الحرب البيلوبونيسية) وكان الحضور إلزاميا. وبأسلوب الإجراءات في المحاكم الأثينية، والتي كانت تناقش بضمير المتكلم بصيغة الجمع، عبرت هذه العروض عن صوت «نحن« بدلا من صوت الفرد الذي يتحدث باسم المدينة أو بالنيابة عنها . وقد كان المشاهدون هم المؤدين، والمدينة هي المكان : فلا يوجد شيء « خارج خشبة المسرح» في المهرجان الدرامي الأثيني . وكانت المدينة نفسها، في المجال المرئي للمتفرجين، هي المشارك الجغرافي في السرد .
.............................................................................
كلير فوستر تعمل أستاذا بجامعة كمبريدج منذ 2014, وهي الشريك المؤسس لشبكة الأداء متعدد المجالات في مركز بحوث الفنون بنفس الجامعة
هذه المقالة تمثل الفصل التاسع من كتاب “الأنثروبولوجيا والمسرح والتطور Anthropology, Theater, and Development “ والذي أعده الكاتبان Jones Tinius , Alex Flynn عام 2015.


ترجمة أحمد عبد الفتاح