مقاربات حول نظرية الأداء(1)

مقاربات حول نظرية الأداء(1)

العدد 793 صدر بتاريخ 7نوفمبر2022

 علي مدار المائة عام الماضية أو أكثر، كانت التراجيديا اليونانية تُفهم علي أنها ثمرة الطقوس التي كان يُحتفل بها سنويا في مهرجان ديونيسيوس . وقد درس الباحثون كليهما في علاقتهما بالإله ديونيسيوس وعلاقتهما بالعقيدة البدائية للإغريق. وكانت النتيجة مفهوم التراجيديا اليونانية التي تختلف عن تلك التي سادت في عصر النهضة وحتى القرن الثامن عشر . ورأى أنصار النزعة الإنسانية في عصر النهضة وأتباعهم ذلك من منظور حضاري وعقلاني ؛ وفي عصرنا نرى أن الكثير من شكلها ومعناها يرجع إلى مصدرها البدائي والى المهرجان الديني الذي كانت جزء منه . وكان لهذا المفهوم الجديد للتراجيديا تأثير كبير جدا على فهمنا لمصادر الشعر في تقاليدنا، وللشعر الحديث نفسه أيضا، بما في ذلك المسرح والموسيقى .
 ولسوء الحظ، لا يُعرف سوى القليل عن طقوس مهرجان ديونيسيوس بشكل مباشر، أو عن الشعراء السابقين علي أسخيلوس، الذين ابتكروا الشكل التراجيدي تدريجيا من الطقوس . ويختلف العلماء الذين كرسوا حياتهم لمثل هذه الأدلة علي قبولها وعلي تفسيرها . ولكن كانت نظرياتهم موحية إلى أبعد الحدود، ولاسيما نظريات مدرسة كمبريدج، مثل فريزر ( في كتابه الغصن الذهبي)، وكورنفورد، وموراي وزملائهم وأتباعهم . وقد كان لهذه المدرسة أعمق الأثر علي الشعر الحديث وعلي مناخ الأفكار الذي نقرأ فيه التراجيديا اليونانية الآن .
 وقد تعرضت النظرية التي شرحها موراي للنقد من الخبراء الآخرين، وامتلأ المجال كله بمناقشات علمية واسعة بحيث لا يمكن لغير المتخصصين إلا أن ينظر إليها بصمت ملؤه الاحترام .
 وقد حان الوقت لكسر هذا الصمت (1) . ويشير فيرجيسون إلى كتب مفيدة مثل “الآلات الموسيقية Themis“ تأليف جين ايلين هاريسون Jane Ellen Harrison (1912)، وكتاب “مراحل العقيدة اليونانية الأربع The Four Stages of Greek Religion” تأليف جيلبرت موراي Gilbert Murray (1912 – وصدر عام 1925 بعنوان مراحل العيدة اليونانية الخمسة)، وكتاب “أصول الكوميديا الإغريقية  The Origin of Attic Comedy” (1914)، وكتاب كورنفورد هو الكتاب الوحيد المكرس للمسرح، وهكذا يكون الأوسع انتشارا بين رجال المسرح . كم أن الأفكار التي تبنتها الكتب الأخرى معروفة أيضا . ولم تهدف أطروحة كمبريدج لشرح أصول التراجيديا اليونانية والكوميديا فقط ولكنها شرحت أيضا طبيعتهما الأساسية أيضا . وقد وسع نقاد الجيلين الثاني والثالث اقتراحات جماعة كمبريدج المتواضعة إلى أنساق عامة باستخدام الشرح الموسع للشكل الأساسي للمسرح ليس فقط في الغرب ولكن في أماكن أخرى . وكتاب فيرجيسون«فكرة المسرح The Idea of Theater” (1949) هو أميز الأمثلة الأمريكية . إذ يطبق فيرجيسون أطروحة كمبريدج علي مجموعة واسعة من المؤلفين، بداية من سوفوكليس وصولا إلى ت.س. اليوت وبرنارد شو و بيرانديللو. ومقالاته عن أوديب وهاملت هي مقالات كلاسيكية . ولكن كان يمكن أن تكون هذه المقالات مثيرة، وأقل فوضوية، لولا إصرارها علي الطقوسي من وراء الحدث في المسرحيات .
 وأطروحة كمبريدج ليست صعبة . فبدراسة بقايا الطقوس اليونانية، وجد هؤلاء العلماء ما اعتقدوا أنه آثار للطقوس البدائية، والتي أحسوا من خلالها بالتراجيديا اليونانية والطقوس المستمدة منها . وقد بدأ موراي مناقشته المستفيضة :
 تفترض الملاحظة التالية بعض الآراء العامة حول أصـل التراجيديا اليونانية وطبيعتها الأساسية .إنها تفترض أن التراجيديا توجد أصلا كرقص طقوسي، لعبة مقدسة ... علاوة علي أنها تفترض بالتوافق مع الثقل الساحق للتقاليد القديمة، أن الرقص موضوع السـؤال هـو أصلا أو بشكـل أساسي رقـص ديونيسـيوس، يتم أداؤه في عيـده، أو مسرحه ... وترى أن ديونيسيوس في هذا الصدد هو “اله الموت والبعث “، أو اله النبات، مثل أدونيس وأوزوريس .. الخ، الذي يمثل دائرية موت وبعث الأرض والعالم،  أو لأسـباب عمليـة، أرض القبيلة والقبيلة نفسها . علاوة علي ذلك يبـدو واضحـا أكـثر أن الكوميديا والتراجيديا يمثلان مراحل مختلفة في حياة روح هذا العام .
 والمشكلة هي أن افتراضات جماعة كمبريدج لم تتحقق أبدا . وأجري قدر هائل من أعمال التنقيب عن الآثار في اليونان طوال الخمسة وسبعين سنة، ولكن لم يظهر أي شيء يعبر عن جميع عناصر الدراما أو الطقوس البدائية  . وهذا أمر حاسم لأن موراي يؤكد«إذا بحثنا نوع الأسطورة التي تكمن وراء مختلف احتفالات الموت والبعث فسوف نجد معاناة، ورثاء، ورسول، وعويل واعتراف – اكتشاف، وظهور الإله . هذا التسلسل الشكلي، كما يقول دعاة أطروحة كمبريدج هو الحدث الأساسي في الطقوس البدائية، والأجزاء الباقية من تراتيل الجوقة Dithyramb، والمأساة اليونانية . وكانت مساهمة كورنفورد في الكوميديا ورقصات القضيب phallic dances هي ما فعله الآخرون مع التراجيديا وجوقة الترتيل . ويتطابق منطقه . « نشأت الكوميديا الأثينية من الدراما الطقسية التي اشتق منها البروفيسور موراي التراجيديا الأثينية أساسا . ويقدم هاريسون في كتابه«الفن  القديم والطقوس Ancient Art and Ritual«الصلات بابتهاج :
 سوف نجد لحسن حظنا أن ترتيل الجوقة الغامضة، قبل عصر أرسطو، قد اتخذت شكلا أدبيا، وكانت في الأصـل مهرجانــا شبيها جدا بالمهرجانات التي نناقشها الآن (احتـفالات المــوت والبعث والموسمـية). لقد كانت تراتـيل الجوقــة في البدايــة من طقوس الربيع،  وعندمـا أخبرنـا أرسطـو بأن الترجيديـا نشأت من تراتيل الجوقة، فانه يقدم لنا، رغم أن ذلك بشكــل نصف واعي، مثالا واضحا للفن الرائع الذي نشأ من أبســط الطقوس ؛ ويغرس نظريتنا في ارتباط الفن بالطقـوس بشكـل صارم ورسخت قدميه علي أرضية تاريخية .
وقبل مناقشة مدى ثبات قدمي أرسطو علي الأرض، اسمحوا لي أن أصور أطروحة كامبريدج . لقد أدى الطقس البدائي ( الذي يسميه موراي « اللعبة المقدسة ) إلى ظهور عدد من الطقوس البدائية . تطور الأول إلى تراتيل الجوقة التي نشأت منها التراجيديا، وأصبح الثاني الرقصات القضيبية التي تطورت منها الكوميديا . وفي مطلع القرن تُطبق الحجة علي النظريات الأنثروبولوجية عن التطور الثقافي والانتشار . وهي نظريات تأملية مع العديد من الحلقات المفقودة .
 ويأتي أوضح مثال علي شكل الطقوس البدائية من آخر التراجيديات اليونانية المكتوبة، وهي « عابدات باخوس The Bachae “، حيث بداية من السطر 787 وحتى نهاية المسرحية يجد موراي تتابعا كاملا للعبة المقدسة . ولكي يفعل ذلك، فيجب عليه أن يفترض أن«بنثيوس هو شكل آخر لديونيسيوس نفسه” – من خلال شرح لماذا هو الملك الشاب، وليس الإله، الذي تمزق إلى أجزاء . ولا يوجد أي بعث أو تأليه لبنثيوس . ان ديونيسيوس هو الذي يظهر، وليس إشارة، كما يقول موراي إلى التغير الشديد من الشعور بالحزن إلى الفرح، بل الإشارة إلى لعنة مدينة طيبة كلها . وقد جعل استخدام«عابدات باخوس«لحجة موراي  رائحة تكرار المعنى . ولكن جماعة كمبريدج يجب أن تستخدم«عابدات باخوس “، لأن الصلات الأخرى بالطقوس القديمة أضعف . إذ لم يتم اكتشاف طقوس قديمة حتى الآن ، والصلة بين ما يمكن أن تظهر الطقوس أنه موجود وتراتيل الجوقة محل شك ؛ ويمكن تأكيد الصلات بين تراتيل الجوقة والمسرح اليوناني.
     ولطالما طعن علماء الأنثروبولوجيا في نظريات التطور الثقافي . إذ فقدت أنثروبولوجيا جيمس فرايزر, التي تستخدمها جماعة كمبريدج بحرية، مصداقيتها . ومع ذلك، أكد موراي في وقت متأخر من عام 1961 ( في مقدمته لكتاب ثيودور جاستر « الانشاء Thespis” )«ليس من المبالغة أن نقول أننا عندما ننظر إلى بدايات الأدب الأوروبي نجد الدراما في كل مكان، ودائما الدراما المستمدة من الطقس الديني المعد لتأكيد بعث عالم الموتى«. ورغم أن ذلك صحيح فيما يتعلق بظهور المسرح المسيحي من طقوس الكنيسة في العصور الوسطى، فانه لا ينطبق علي المسرح اليوناني أو المسرح الأروربي ( ومشتقاته) بداية من عصر النهضة وحتى العصر الحديث . بل ربما نرى عكس هذه العملية : تضفير دينامي للطقوس والترفيه ( أنظر الفصل الرابع) .
     يعتمد الارتباط بين الدراما اليونانية وتراتيل الجوقة عموما علي تعليقات أرسطو في الفصل الرابع من كتاب أرسطو«فن الشعر Poetics” :
التراجيديا – مثل الكوميديا أيضا – كانت في البداية مجرد ارتجال .نشأت الأولى مع مؤلفي تراتيل الجوقة، ونشأت الثانية من الأغاني المتعلقة بالقضيب، التي مازالت تستخدم في كثير من مدننا .
ورغم ذلك شكك كورنفورد في نسبة هذا الكلام إلى أرسطو:
ما مدى معرفته أو استنتاجه للمراحل المبكرة للكوميديا التي لا يمكننا أن نعرفها . فربما عرف القليل مثلما عرف بويلو  عن بدايات المسرح الفرنسي الحديث .. فإذا كان بإمكان بويلو أن يجهل قرنين من الدراما الكنسية التي كان يوجد فيها عشرات الآلاف من الأسطر، فلا داعي للتساؤل عما اذا كان أرسطو لا يعرف أن مسرحـيات كيونيـدس  Chionides وماجنس Magnes قد احتفظت بآثار الحبكة الطقسية المحطمة ,وأن الآثار الطقسية الأضعف في مسرحيات أريستوفانيس قد نجت .
وقد كان بيكارد من كمبريدج واضحا بنفس القدر، ولكنه يثبت الفكرة العكسية :
 فيما يتعلق بالكوميديا، فمن المشكوك فيه جدا أن أرسطو إذا كان علي صواب فيـما يتعلـق بالتراجيديا، فسـوف تتضح صعوبات وجهة نظره سريعا، باختصار نعترف بأنه من المستحيل قبول كلامـه دون شـك،  وأنه ربمـا كـان يستـخدم هذه الحريـة فـي التنظير التي كان يطلب من المعاصرون أن نقبل بأنه معصوم من الخطأ .  
ويكتشف ت.ب.ل. ويبستر T.B.L. Webster أن أرسطو قدم فكرتين منفصلتين تماما : 1) أن التراجيديا أحد فروع تراتيل الجوقة، 2) ( بعد ستة سطور) تغيرت من الشبقي satiric  وأصبحت تؤدى بشكل وقور فيما بعد ولا يوجد تبرير لمساواتهما . ويعالج موراي هذا التحول الغامض هكذا : سوف يتلاءم مع هدفي .... أن أفترض أن طقس ديونيسيوس قد تطور إلى شكلين متشعبين، مسرحيـة الشبق (Satyr-play) عند براتيناس Pratinas والتراجيديا عند ثيسبيس Thespis, اللتان تم دمجهما في تاريخ معين بموجب القانون .
وهذا ينقذ أطروحة كمبريدج، ولكنها كانت تكهنات. فالحقيقة هي أننا لا يمكن أن نعتمد علي أرسطو، ولا يمكننا أن نقبل ما يقوله وما يصلوا إليه في كمبريدج .
 لماذا اذن تحظى فكرة كمبريدج بهذا الثبات؟ يمكن ضغطها وتقنينها وتعميمها : انها قابلة للتعليم. وتعدل نفسها ذاتيا : حيثما لا يمكن العثور علي التقاليد البدائية، فانها قد تطورت ببساطة من الاعتراف، وحيثما توجد بقايا فقط، فان هذه البقايا آثارها ... وهكذا دواليك . ويبدو أنها تشرح كل شيء : الأصول والشكل وانخراط الجمهور والتطهير والفعل الدرامي – ولاسيما الصراعات والبتر والموت الذين يميزون التراجيديات اليونانية . باختصار، الأطروحة رائعة ووجيهة ونقد تأملي . ولكنها لا تزيد عن ذلك . فالبراهين العلمية التي سعت جماعة كمبريدج اليها من أجل أفكارها لم تكن موجودة . وربما حان الوقت لنبذ أطروحة كمبريدج باعتبارها أطروحة محدودة جدا، وأنها لم تعد تلاءم مفاهيم المسرح الحالية .
فلا يبدو أن الطقوس كما تفهمها جماعة كمبريدج مرتبطة بشكل وثيق بالمسرح اليوناني – أو الاليزابيثي أو الحديث (7) . إذ يجب تحريف معنى الكلمة بدافع الفائدة إذا كان لنا أن نطبقها علي مسرحيات مثل«سبعة ضد طيبة» و«فيلوكتيتس» و«عابدات باخوس» و«الملك لير» و«الأم شجاعة» و «في انتظار جودو» و«المغنية الصلعاء» و«أنياب الجريمة«أو أي مجموعة عشوائية أخرى من المسرحيات المتميزة . وحتى إذا حددنا الاختيار في عصر واحد، فسوف تكون الصعوبات هائلة. إن تطبيق أطروحة كمبريدج يعني إلزام المسرحيات بسياقات أخرى غير سياقاتها، وأن نقرأ ما حولها وما تحتها. وتطور مسرح الوقائع Happenings، والمسرح بين الوسائطي، وفنون الأداء وما أليها، مازال يثير المزيد من الأسئلة . أما فيما يتعلق بالمسرح في العصر الوسيط والذي كانت طقوس الكنيسة إحدى مصادره، فقد حافظ المؤدون علي الشخصيات والحبكات التوراتية بينما تخلو عن شكل القداس بينما سرعان ما تخلوا عن شكل القصص الجماهيرية والمطرزة بالأحداث العلمانية .
     لن استبدل نظرية الأصول عند كمبريدج بنظريتي .فنظريات الأصول غير ملائمة لفهم المسرح . ولا أريد أن استبعد الطقوس من دراسة الأنواع الأدائية . فالطقوس هي إحدى الفعاليات المرتبطة بالمسرح . والفعاليات الأخرى هي اللعب والألعاب والرياضة والرقص والموسيقى  . والعلاقة التي سوف استكشفها بين هذه الفعاليات ليست رأسية أو أصيلة – من أي شخص إلى أي آخر – بل هي علاقة أفقية : بماذا يشارك كل نوع مستقل مع الأنواع الأخرى؛ وما هي طرق التحليل التي يمكن استخدامها بين الأجيال . وتشكل هذه الفعاليات السبعة معا أنشطة الأداء العام للبشر .  وإذا جادلنا بأن المسرح «متأخر» أو أكثر تعقيدا أو أعلى في سلم تطوري معين، وبالتالي يجب أن يكون مستمدا من أحد السلالم الأخرى. وأجيب بأن هذا له معنى إذا أخذنا المسرح اليوناني في القرن الخامس قبل الميلاد (ونظائره في الثقافات الأخرى) باعتباره المسرح الرسمي الوحيد . ولسبب وجيه، يجادل علماء الأنثروبولوجيا، بخلاف ذلك، مقترحين بأن المسرح – الذي يُفهم علي أنه تجسيد للقصص من خلال المؤدين – موجود في كل ثقافة معروفة في كل الأوقات، كما هو الحال مع الأنواع الأخرى. وهذه الفعاليات بدائية، ولا يوجد سبب للبحث عن الأصول أو الاشتقاقات. ولا يوجد سوى اختلافات في الشكل، ومزج بين الأنواع، وهذه لا تظهر أي تطور طويل المدى من البدائي إلى المركب أو الحديث.  وفي بعض الأحيان يتم دمج الطقوس والألعاب والرياضات والأنواع الجمالية (المسرح والموسيقى والرقص) بحيث يستحيل تسمية أي فعالية باسم يقيدها.  وأن الاستخدام الانجليزي الذي يحثنا أن نفعل ذلك بأي شكل هو تحيز عرقي وليس حجة .
................................................................................
ريتشارد شيشنر يعمل أستاذا بجامعة تيش للفنون بجامعة نيويورك علاوة علي أنه رئيس تحرير مجلة دراما ريفيو Drama Review   .
هذه المقالة هي الفصل الأول من كتابه«نظرية الأداء Performance Theory«الصادر عن روتليدج عام 1988  .


ترجمة أحمد عبد الفتاح