العدد 795 صدر بتاريخ 21نوفمبر2022
هناك علاقة بين النقد المسرحي وبين علم الجمال، علاقة تكامل وكل منهما بحاجة إلى الآخر لخدمة الإبداع الفني والمسرحي بأشكاله المتنوعة، فالنقد يتناول جزيئيات العمل الفني ويستغرق في تفاصيل دقيقة لها علاقة بعناصر بنائه وتحقيقها وما إلى ذلك، وعلم الجمال يهتم بالقوانين العامة للخطاب المسرحي، ويساهم في تصحيح مقولات النقد المسرحي ومفاهيمه وقيمه الجمالية والتعبير ببناء جمالي مميز ومنسجم لطبيعة القيم: الجميل والقبيح، الكوميدي والتراجيدي. وتتجلي أهمية دراسة جماليات القبح نقديا وفلسفيا في النص المسرحي لا كقيمة متناقضة للجمال بل كوجه آخر مكمل له والأداة التي تمكننا من معاينة القيم الجمالية واستخلاصها لأن الضد يظهر حسنه الضد. وذلك استنادا إلى القيمة الجمالية لثنائية القبيح والجميل في التراجيديا والكوميديا وعلاقته بالتذوق والتفضيل الجمالي وبعض مترادفاته في الفنون.
ويعتبر الكاتب المصري إبراهيم الحسيني من بين الأسماء المميزة التي تعرفها الساحة الفنية المصرية والعربية في العقود الأخيرة، وبالرغم من غزارة إنتاجه وحصوله على الكثير من الجوائز و تصنيفه في مصاف الأسماء الكبيرة الناضجة، إلا أنه يصنف في خانة الشباب.وخصوصا في اعتماده على نوع مميز من السخرية واستفزاز المتفرج بشكل عقلي ومدروس يستحق الدراسة.
ولقد تطرقت الكثير من المقالات النقدية والدراسات الأكاديمية والجامعية لأعماله وحاولت سبر أغوار أسلوبه الفني المبدع، وتأصيل “مدرسته” الخاصة في فن الكتابة المسرحية.
وهنا سنتطرق إلى أحدث مسرحياته التي نشرت في إصدارات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي الأخير ـ الدورة 29 وذلك بعد فوزه بالمرتبة الثانية في مسابقة النصوص القصيرة علي مستوي الوطن العربي وهو النص الموسوم ب: وصفة للاستمتاع بالقتل.(الجزء الثاني من نصوص تجريبية، شتنبر 2022)
تشكل الكتابة المسرحية عند الحسيني مجالا خصبا لدراستها من جوانب عديدة للنبش في عوالمه الفكرية والفنية التي يوصلها إلى قارئه بشكل فني مبدع ومدروس يحقق شرطا اساسيا وهو التجريب النصي والخروج من القواعد التقليدية في الكتابة.
حقق النص شرط الكتابة بحدوتة محورية تم تكثيفها بشكل علمي وممتع للوصول إلى الغرض الأساسي من الكتابة تجاه المتلقي المعاصر. الحدوتة التي قد تبدو متداولة لكن المؤلف برع في كيفية علاجها وفاجأ القارئ بمدى تمكنه من آليات الكتابة المسرحية التجريبية الناضجة. وسنحاول أن نلامس بعض النقاط وأهم الركائز التي اعتمدها النص ورأيناها أساسية، على أمل فتح نقاش بنّاء حول التجريب النصي الجديد داخل مصر والعالم العربي في النصوص القصيرة.
قراءة في العنوان:
هو عنوان لإحدى اللوحات السبع بالنص والتي ارتأى الكاتب أنه المناسب للنص بأكمله، بما له من حمولة جامعة وملامح استهزاء واضحة في تناقضات قد لا تجتمع إلا لمن هم في صنف غير البشر. فلا عاقل قد يستمتع بقتل ما إلا إذا كان يعاني من اهتزازات نفسية ما.
عنوان مركب من ثلاث مقاطع: بنيوية، الأول هو “وصفة” بمعنى أننا أمام مرض ما يحتاج لعلاج ما. وهو مرض رمزي يعالجه الكاتب بطرق ما داخل مسامات النص المكتوب. والثاني للاستمتاع وهو مكون من جار ومجرور يحمل بعدا يحقق رغبة ما وهي الاستمتاع والتلذذ بفعل ما. والأخير القتل وهي الكلمة الفاصلة التي تهدم ما سبق لنعرف قبل أن ندخل عوالم المؤلف أننا أمام خلخلة نفسية ما يجب علينا أن نسرع لكي نطلع عليها في نصه الجديد هذا. فمن هذا الطبيب الذي يمكنه تقديم وصفة ما لتذوق القتل؟ وكيف يكون الاستمتاع بقتل ما؟ ولما هذا القتل وكيف هو ومن سيقتل من؟
العنوان يبدو صادما لكننا عندما نطلع على النص كاملا نعرف الغرض الأساسي من هذه التسمية، وبالتالي وضعه في سياق أحداثه وصراعه، مع استفزاز ضمني للمتلقي الخامد خلف شاشة هاتفه أو لوحه الرقمي. لذا يحمل العنوان كثيرا مقومات الجروتسيك الذي سنتطرق له لاحقا.
بنية الحوار في النص “الحسيني”:
الحوار مفهوم يقوم على علاقة تبادلية بين شخصيات لها ارتباط بموضوعه / البناء الحكائي المدعم بلغة الحوار، والذي هو أساس أفعال وسلوك مشتركة تبين الأحداث وصفة المتحاورين، بطريقة يتم التأكيد من خلالها على الكلمة الرابطة بالموجودات البشرية، والتي تكون حوارا قد يتيح للمتلقي مشاهدته بعيدا عن السمع، نكتشف من خلال ذلك أن اللغة أو النطق بالكلام ليس أداة توصيل حقيقية، بل هي أفعال تؤكد أن الحوار يتضمن شيء ما. فالحوار المسرحي لدي الحسيني لا يعتمد على الكلام فقط، بل تتداخل فيه عناصر أخرى من مثل: الايقاع، الموسيقى، اللون، الإضاءة والحركة. فلا ركود في لغة المسرح. ومن يعرف المؤلف وسبق أن قرأه يعرف أسلوبه الحواري وطريقة حكايته لهذا الحوار بعناية.
يستهل الحسيني نصه بحكمة البطل:
«آدم : كابوس آخر [يتحسس نفسه] ما زلت حيًا للأسف، كل الأدوية منتهية الصلاحية [بسخرية] للأسف نموت كل لحظة إذا أردنا الحياة، ونحيا قهرًا إذا أردنا الموت! هل يجب على أن أتناول مائة قرص المرة القادمة؟»
لنتعرف بسرعة على نوعية الشخصيات التي سيعرضها النص علينا، وعلى بعدها النفسي الواضح من صياغة المقطع أعلاه. الحوار كما هو معروف وإن في نص قصير يكون مع النص، وذلك أن لكل لغة تقول لنا شيئا ما، أي أن كل حوار مع النص هو حوارا بين شخص وآخر، لا يمكن أن يتجاوز ما يقوله النص إلى ما وراءه. معتمدا بذلك على اللغة، والأفعال المشفرة داخل مضمون النص، الذي رسمه المؤلف برؤية تحمل قيم إبداعية متعالية المعنى. يقترب منا ويصدمنا كي نتفطن لحالنا بشكل متواري يثير الضحك المؤلم، تقول نوال:
« نـــوال : صباح الخير يا آدم، معك نوال من الشركة الاستثمارية للانتحار وخدمات ما بعد الموت، هل جربت وصفتنا الجديدة للانتحار؟ «
نعم وصفة متوفرة وناجعة لتسهيل عملية الإنتحار. نعم الإنتحار مرض العصر الذي أودى بالكثير في صمت، يخرج مؤلفنا مباشرة كي يرى آخر طريق اليأس الذي يفقد المرء حياته بدون فائدة. لذا يوجد ببنية الحوار عملية آلية الإتصال تنقل فكرة المؤلف إلى النص ثم إلى القارئ. وهنا يكون النص وسيطا يحمل ما يفكر فيه المؤلف إلى القارئ، على ضوء ذلك لا يمكن أن يعامل النص على أنه الآخر والذي يكون طرفا في عملية الحوار.
وإن كان الحوار الخارجي تسيطر عليه المشهدية، سمته التناوب يدل على أنه ينتقل مباشرة في حديث معين بين طرفين، ليعبر عن مستوى الشخصيات من الناحية الفكرية والنفسية، ويقدم الحدث والحكاية والزمن بأحداثه فهو حلقة من الإتصال وإن كانت على المستوى اللفظي وذلك لأن القارئ المحتمل أو المتفرج يتجاوب مع المتحاور مستخدما لغة غير منطوقة.
« كـامــل : [بملل] لا شىء غير رائحة الموت، لقد أفسدت تلك الرائحة طعم قهوتى الصباحية، لكن يمكننى أن أخبرك أننى لاحظت تغيرًا بسيطًا، يقال إن الحرب توشك على الانتهاء، أما المعارك بين بلطجية الشارع فتزداد، لقد قتل أحدهم خمسة أشخاص من أجل رغيف خبز، وعم عبده المكوجى جدد محله واستبدل صبيَّهُ «سلامة» بروبوت يقوم بتوزيع الملابس.»
تقدم شخصية كامل (ابن البقال) هنا- مثلا- صورة عامة ومعبرة عن الوضع السائد الذي أنتج أحداثا معقدة بالنص. مما يثبت أن مهمة الحوار في المسرح هي نسج علاقات مع عناصر أخرى تبتي النص، فهو عنصر مستقطب حول الشخصيات والزمان والمكان. ينشأ عن الحوار الخارجي نتيجة موقف فكري بين المتحاورين.
عوالم الشخصيات في عالم الحسيني المسرحي :
تنوعت شخصيات النص عند إبراهيم الحسيني إلى رئيسية من مثل بطل تدور حوله الأحداث كما آدم الذي رسمه بأبعاده كشاب يعيش مأزق العصر القابع بين الواقع والافتراضي. فدرس حركته وأسلوب تفكيره. والملاحظ أنه يعتمد على البعد النفسي كما عادته، حيث نقص وعيش في هلوسات ما. ونظرة للحياة والمتع وغيرها.
بشخصيات بسيطة ونمطية بالنص تطل علينا بكل شرورها، وعقدها وتتأثر بأبعادها المادية والاجتماعية والنفسية. فــ «آدم» شخصية محورية يلعب دورا أساسيا وفعالا في أحداث متشابكة يمثل تركيبة معينة من أبعادها الثلاثة (مادي،اجتماعي ونفسي). وهنا نشير إلى أن الكاتب يتقن رسم شخصيات انهزامية في كل نصوصه ليحملها عناء الصراع والتوتر والتناقض الدرامي المنطقي الذي يلعب بكل الأحداث. فآدم شخص ضعيف ومنهزم يبحث عن ما هو يسير لكي يحقق متعه ونجاحه بدون أدنى مجهود. وجدير بالذكر أن آخر ما نوقش عن أعمال الكاتب هو رسالة الماجستير بجامعة بابل العراقية تحت عنوان لافت وهو: أبعاد الشخصية الانهزامية في نصوص إبراهيم الحسيني المسرحية، للباحثة ميعاد عبود. مما يبرز أنه في أعمال كثيرة حضرت الإنهزامية في صراعاتها اليومية وتقبل واقعها بدون أي كفاح أو حركة. فآدم هنا جمع بينالشخصية المنطوية، أي الرّاغبة في العزلة والإنفراد. وكما معروف يتميز الشخص المنطوي بانحسار عواطفه، وقسوة قلبه، وبرودة مشاعره. كما وأنه لا يبالي للآخرين، ولا يتأثر بالتعليقات الموجهة اليه. يفضل العمل الفردي، والتّخصصات التي تدعم ذلك المجال. وبين الشخصية النرجسية، والتي تعرف عند الشخص الذي يهتم بنفسه كثيراً ويكثر من تقدير ذاته، لكنه يتعامل بالسّطحية في التعامل مع الأمور، أي من خلال محاولة استغلال نقاط ضعف الآخرين، والتسلط عليهم. يحب استغلال الآخرين والإستفادة منهم لتحقيق مكاسب شخصية.
كما حضرت شخصية «نوال» كمواجهة لآدم، ومصارعة له. ورسمها الكاتب بدقة لتحقق هدفها وتخلق خيطا دراميا مناسبا. وأهم مايثير هو حضور شخصيات من نوع خاص، سقطت بعناية من بين ثنايا لوحات عالمية أرّخت لمعضلة الحرب. ليكون التجريب التخييلي والتقارب الفني بين لوحات تشكيلية عالمية وبين واقعنا. وليس غريبا فقد سبق للكاتب أن وظّف فنونا أخرى في نصوصه كالموسيقى وغيرها.
اللوحات التشكيلية العالمية عن الحرب تبث نيران شخوصها بأبطال خفية:
اختار الحسيني لوحات حروب لفنانين مختلفين من بين أهم الأعمال العالمية التي أرخت لبشاعة الحرب وتركت انطباعات مختلفة لازال المتخصصين يتدراسونها. ستة لوحات معروفة مع لوحة بيضاء تحمل رمزا بإمكانية رسم حروب هذا العصر العجائبية التي قد تكون وباء أو هجوما رقميا افتراضيا علينا بشكل مدمن. هذه اللوحات هي: الصرخة لإدوارد مونش النرويجي، كرونوس يأكل أبناءه للإسباني غويا، مذبحة خيوس للفرنسي دي لا كروا، الحرب للويس جاليت البلجيكي، الطفل الباكي للإيطالي جيوفاني براغولين، والجرنيكا للإسباني بيكاسو.
هناك علاقة واضحة بين الفن والحرب منذ القدم، فالفن والأدب نبتا في وسط حروب فكرية ونظرية. كما وجد بعض الفنانين والأدباء أنفسهم في ظروف صعبة (احتلال، اعتقال، معسكرات موت...) والمسلم به أن أعمالهم شهدت على قوة الحاجة إلى الإبتكار وهي قوة دافعة مبدعة فسرها المتخصصين بأنها حاجة طبيعية للمحافظة على الذات وغريزة إنسانية للبقاء على قيد الحياة في أحلك الأوضاع.
ومنذ القرن التاسع عشر عرف الفن منعطفا في التمثيل البصري التشكيلي حيث حرص بعض الفنانين على إظهار الجانب الكارثي (الغاضب) من الحرب عوضا عن أطرافها أو منجزاتها المخطط لها. إن جماليّة الحرب، في الفن، لا تتجلى من خلال ما تعرضه اللوحة من مضامين حسيّة، وإنّما من خلال ما يتجلى من أبعاد رمزيّة، ذات معنى وجدانيّ، تعبيريّ، ينطويّ عليه الموضوع، وهو لا ينحصر في “تمثيل” الموضوع، وحسب، وإنما بما يقدمه الفنان من مضمون انفعاليّ دراميّ يصوِّر بشاعة العنف، بتعبير واعٍ، يبعث على النّفور، من مشاهد العنف، والارهاب، والموت، والجوع، والاستبداد، فتغدو بشاعة العنف في لوحة “الإعدام” لغويًّا، معادلًا للتأمل في معنى الاستبدال الإمبراطوريّ، والثورة والتمرد عليه، وتصبح لوحة “الصرخة لمونش مرادفًا للرعب والاحتجاج الصارخ ضد المجاعة، والبؤس، والانحدار الإنسانيّ. لنطرح السؤال المنطقي حول تشابهات ذلك الزمن بالراهن الذي نعيشه.
وليس غريبًا أن نرى الغرنيكا لبيكاسو ترمز إلى محاربة الفاشيّة والنازيّة والاستعمار من خلال إظهار بشاعة العنف وجماليته السّوداء، كما حلل المتخصصين في مجال علم الجمال الأسود. فلقد أظهر بيكاسو في لوحته الغرنيكا السلوك الوحشي، بالتركيز على الجثث، واختار الثور ليكون رمزًا للوحشيّة النازيّة والفاشيّة، وقد اختار بيكاسو الأسود والأبيض كألوان تعبيريّة تستمد من الحدث وطبيعته ألوانها التّعبيريّة. وتمتد الأياديّ إلى الأعلى في حركة استغاثة واحتجاج دراماتيكيّ على المجزرة .أكد بيكاسو على أن جماليّة القبح كموقف استيطيقيّ، أكثر منه «جماليّ» بالمعنى اللغويّ للكلمة، ليزيد في تأثير المشهد المأساويّ، ويضع المشاهد أمام مأساة وبشاعة المشهد والمجزرة.
إنّ ما تخلفه الحروب في العهود القديمة، والحديثة، من حالات القتل والعنف والدّمار، ناهيك عن الآثار النفسيّة، في السّلوك والاخلاقيات، بين أفراد المجتمعات، تجعل من الأعمال الفنيّة وثيقة حديثة، وفنية وجماليّة على الحالات النفسانيّة الفرديّة والجماعيّة للأفراد والشّعوب.
وقد جسَّد فرنسيسكو غويا (1746 – 1888) فجائع بلاده تحت الاحتلال الفرنسي العام 1808 في ظل احتلال بونابرت، فصوَّر مشاهد الحرب والعنف والإعدام بأسلوب تعبيريّ خلاق. فالفن حسب غويا هو الذي يحصِّن الإنسان من السقوط في الهاوية والعدم، والفراغ من المعنى الذي تخلفه الصّراعات والحروب التي تستنزف البشريّة. فهل يحق لنا أن نقر بغرنيكا وكرونوس يأكل أباءه هذا العصر بشكل واضح ومؤلم؟
تقوم إشكالية حول استيطيقا الحرب المعاصرة مع العولمة ووسائل الاتصال، وحول الجماليّة التعبيريّة، المتجددة، والمتعددة، في الفنّ التشكيليّ، بمنأى عن النّظرة الجاهزة للحسن والقبح، فالجماليّة الدّراميّة، السّوداء، هي الوجه الآخر للجماليّة الكوميديّة، البيضاء، وتكتسي الألوان، في الحالات كلها (الكوميتراجيديّة، والتراجيكوميديّة) جماليّة في الغنى، واللون، والشكل، إكسترا _عادية، فائقة، في علاقة المريع ـ بالرائع، فمن قال إنّ المريع ليس رائعًا في تعبيريته التّراجيديّة السّوداء، ومن قال إن البياض صفة الجمال الجذل ؟
وتلقي ضوء النقد، والكشف، على أعمال فنية تعبر عن جماليّة السّواد، والعنف، والحرب، والمأساة الإنسانيّة، في النزاع المحاكاتيّ من أجل الوجود والكينونة، وضد العنف، نفسه، والحرب، وإمتداداتها، وتأثيرها على الإنسان ومصيره وكرامته ـ حقه في الحياة… فهل عرفنا الفاشية التكنولوجية الحالية، وهل تفطنّا لنوع الحروب المعاصرة...
الكوميديا السوداء أو جروتسك النص المسرحي «الحسيني»:
تحضر السخرية وما يمكن تسميته الكوميديا السوداء التي تثير الأحاسيس المختلطة بين الضحك أو البكاء على واقع مؤلم نعيشه بدون أي تغيير، في نص وصفة للاستمتاع بالقتل.
الكوميديا السوداء أو التراجيكوميديا- كما هو معروف - التي تتميز بالطابع الجروتسكي بانطوائها على مواضيع صادمة بانتقاد الواقع بكل مستوياته السياسية والاقتصادية والإجتماعية والثقافية وتعريته فكاهيا وكاريكاتوريا ومسخه جروتيسكيا وتشويهه فنيا وجماليا وكشف نواقصه الظاهرة وتشخيص عيوبه المضمرة باستعمال السخرية والهزل والباروديا والكوميديا لرصد الواقع القائم واستشراق لحظات المستقبل الممكنة. فمسرحيات إبراهيم الحسيني وهذا النص بالخصوص، توصف بالكوميديا السوداء القائمة على الصلة الجدلية المباشرة بين الضحك والألم والحزن والسخرية بهدف تصوير تفاهة وفساد الإنسان التي تستلب انسانيته.
الجروتسك في المسرح: يعرفه إبراهيم حمادة بـ “هو اتجاه في الفن الزخرفي يرمي إلى استخدام وحدات بشرية وحيوانية تتصف باللاواقعية وتمتزج تلك الوحدات عادة برسوم أوراق نباتية. ويؤدي هذا المزح إلى ايجاد شكل غريب بشع مخيف أو مضحك. وفي مجال المسرح اللهوي هو قطعة لا واقعية غريبة في تركيبها الخيالي المشتط”. هنا استعمل كاتبنا إبراهيم الحسيني”الجروتسك” لنقد الذات والآخر والواقع بطريقة كوميدية وساخرة قائمة على التهجين والمفارقة والمبالغة والأشكال الغريبة والفوضى والبشاعة الساخرة والغرابة الشاذة والتنافر والتقزز والابتعاد عن مقاييس العقل والمنطق والإسراف في النشاز والخروج عن الواقع والمألوف. الواقع المنزاح عن معايير العقل والمنطق.
ومصطلح الجروتسك ارتبط عند ظهوره بالفنون الجميلة (الحاضرة في نص الحسيني) فيما بعد توسع المعنى واستخدامه الكلمة في علم الجمال كصفة أو طابع لكل ما هو غير منتظم ويتصف بالغرائبية ولكل ما يضحك من خلال المبالغة والتشويه ويتناقض مع ما هو سام ورفيع، أي ان الجروتسيك دخل ضمن التصنيفات الجمالية وحمل بعدا فلسفيا من حيث إنه يناقض ما هو نتاج الثقافة المعترف بها. وفي اللغة العربية لا توجد كلمة تعطي المعنى بكل أبعاده فقد ترجمها البعض لــ: الشاذ أو القبيح، أو بالهزء والقبح معا مع مراعاة أن هذه المفردات كل على حدة لا تعطي المصطلح كاملا. الجروتسك فن درامي جامع للعناصر المتنافرة (كالسامي والمنحط)، (الجميل والقبيح)، (المألوف والغريب)، (الواقعي والفنتازي). إضافة إلى السخرية والمفارقة، والتعبير الكاريكاتوري والهجاء الساخر والمسخ التشويهي والأخلاقي ... وشخصيات الحسيني تعج بهذه التنافرات والتناقضات الساخرة. ومزج جروتسك إبراهيم الحسيني بين الكوميديا والتراجيديا وعلى مستوى الأسلوب بين الجاد والساخر وبين التضادات والمتناقضات واللامنطق والعجائبي والإنكسار النفسي والمواقف الحادة، بهدف استفزاز المتلقي وتسليط الضوء على مأساة الإنسان الذي يعاني من التهميش والإحباط والتنديد بحيوانية الإنسان المعاصر ووحشيته القاتلة والتركيز على القبيح والمسخ والتشويه والفظاعة والغرابة والشذوذ البشري وانحطاط القيم الإنسانية والأخلاقية عبر تقبيح الشخصيات الدرامية وتشويهها ومسخها وبالتالي تطهيرها عن طريق إثارة الخوف والشفقة.
فهل نضحك ونحن نتابع مساعدة خاصة لتحقيق الانتحار، أم نحزن لأننا فعلا وسط غرائبية مجتمعية تتقبل كل شيء إفتراضيا بنهم. وهل نفرح بسهولة تحقيق المتع عند “آدم” أم نحزن لأننا أمام نموذج بشري/ مسخ. الكاتب- مثلا- يتكلم عن القتل كما لو كان يشير إلى روتين يومي غير مؤلم:
( آدم : [بإصرار] لا تحاولى التأثير علىَّ، أريد أن أقتلَكِ وأنتِ مبتسمة من غير حزن أو ألم، لم أنسَ أنكِ منحتِنِى مُتعًا كبيرة.
داريـن : [بسخرية منه] أفرِغْ رَصاصاتِك إذن فى رأسى، وَدَعِ الأيامَ تقرر مَن سيحزن مِنَّا.
[يـُـطلق “آدم” رصاصاته، تتسع ابتسامة “دارين” وهى تسقط على الارض، “كامل” يختطف النظارة من “آدم” ويرتديها، يختفى “آدم” بينما نرى “دارين” ما زالت حيةً، وتراقص “كامل” فى هيام، تحيطهما الورود والطيور الملونة...].)
عبر مسيرتها التطوريّة وظفت كافة أساليب الكوميدية والتهريج، والتلاعب اللفظي، والدعابة الجافة، والأكاذيب والخدع والحيل والتحايل والتنكر. مع أهمية الرسم الكاريكاتوري والتشويه والتقبيح المادي للشخصية الكوميدية لتعميق البعد الكوميدي في عمل الحسيني المسرحي.
ونص الحسيني يوظف مقولة التنافر وعدم الإنسجام بين العناصر لتبرز نسبة كبيرة من القبح، فالشخصية المسرحية الشريرة أو المنهزمة ونماذجها القبيحة بأبعادها المادية والإجتماعية والنفسي تجسد صور القبح الساخرة والعابثة لقسوة وحمق الانسان في عالم رقمي وافتراضي قميء. ولعل من بين أهم أدوار المبدع وضع هدف لإحداث تأثيرات صادمة في المتلقي وذائقته وقيمه الجمالية التقليدية. لنقرأ هذا المقطع ونجس نبض سخريته المؤلمة:
(نـــوال : [بآلية] يمكنك إرسال توقيعك ورقم حسابك البنكى، بعدها سنرسل لك بعض الطرق الآمنة للانتحار على الواتساب، ولك حرية الاختيار، أو اتركه لنا ونحن رهن الإشارة والتنفيذ، شعارنا دوما “عش فى سكون واستقبل قتْلنا لك فى وداعة”.)
الصور والأشكال الجمالية للمسرح هي إحساسات إدراكية وانفعالية ومشاهد ووجوه ورؤى وصيرورات.ستتحقق من خلال التذوق والمعايشة الجمالية الناشئة بين المتلقي والأثر الجمالي ومدى التوافق بين الخصائص الجمالية للموضوع الفني والقيم الجمالية التي يحملها المتلقي بناء على خبرته الجمالية المرتدة إلى الواقع والذات، وهذا وفق مفهوم أفق التوقع ضمن ثلاث ردات فعل هي: الرضا، الخيبة والإشمئزاز بغض النظر عن السجال الجمالي لثنائية الجميل والقبيح.
إن الخطاب المسرحي لم يعد يمارس محاكاة الواقع بل يسعى إلى إنتاج واقع جديد وفق شروطه الخاصة التي تسهم في تنمية المفاهيم الجمالية للمتلقي وتهذيب سلوكه للوصول به إلى مصاف الشخصية المتفردة في تلقي الإبداع، فخطاب الحداثة المسرحي صالح للتعامل مع المناهج التقليدية واستحضار أداوت بديلة تصلح للتعامل معه (التحليل والتأويل). لنحلل هذا:
( كـامــل : فرحت كثيرًا بحصولها على معاشه هذا الشهر [تظهر الصدمة على وجه آدم] نعم مات فى الحرب بعد ثلاثة أيام فقط، لم نعرف كيف مات ولا أين جثته، أولاد الحلال توسطوا لوالدته كى تحصل على المعاش، ثلاثمائة جنيه، لكنها لم تكفها، لذا اضطرت لبيع الجرجير والبصل الأخضر على ناصية شارعنا [مستطردًا] لقد راجت بضاعتها، يبدو أن الناس تحب رائحة البصل كى تقرف بها من يحدثها، إنه نوع من الغضب الصامت، أما الجرجير فيشربونه عصيرًا كى يمنحهم الفحولة بعد أن فرض العجز ثقله عليهم [صمت من “كامل” وشرود من “آدم”] نسيت أن أخبرك أنه بعد الشهر الأول سرق أحد المشردين فيزا المعاش.. حاولنا استخراج أخرى ولم ننجح، طلبوا منا شهادة تثبت أن الست حسنية على قيد الحياة، ولم نستطع أن نثبت ذلك.)
رمزية الطيور في النص:
وظف الكاتب الكثير من الإكسسوارات بالنص أهمها العصافير والغراب وهي طريقة رمزية لحضور الطيور بالعمل. الطيور التي تتميز بقدرة على التحليق عاليا، وتلهم الطيور / البشر وتحفزهم على التطلع صوب الأعلى فعلا ومجازا. ففي هذه الكائنات التي ترتفع في الفضاء ما يثير نفوسنا، ويدفعنا إلى التحليق معها لمعرفة مزيد عن عالم أكبر لا زال يتمثل لنا بشكل ألغاز لا متناهية. وعلى مر التاريخ، كانت الطيور مصدرا للالهام الثقافي والعلمي المستمر، وحملت معها رموز السلام والحرية والأسر والحكمة والهجرة والسلطة والتشاؤم والتفاؤل والوفاء...
وبنص الحسيني نشهد على صوت العصافير وهي تتألم وسط مشهد سوريالي حربي بين الإنسان والآلة والعولمة بشكل عام. تحضر العصافير والورود كأنها دعوة حتمية للرجوع إلى الأصل والطبيعة ومحاولة التعايش بشكل هادىء مع هذه الحرب الافتراضية التي تدور في مخيلة الأجيال القادمة التي تبحث عن الجمال أو المتعة بحركة إصبع.بين الحلم والكابوس والواقع تختلط في رأس البطل السلبي كل العوالم وهو يبحث عن ما هو سهل. كما حضر الغراب برمزيته المعروفة المقابلة للشرور وللفأل السيء والموت.
ختاما، إن التعبير عن “الجمال الفني” عبر موضوعات تبدو غير “جميلة” في عالم الحياة اليومية، إن الجميل ليس هو الجميل الذي تصوره باعتباره مضادا للقبيح بل إن القبيح نفسه يمكن أن يكون موضوعا جميلا بالمعنى الإستطيقي للجميل، عندما يقدم من خلال سياق ومنظومة العمل الفني. فيمكننا الحديث عن “استيطيقا القبح” أو جماليات القبح أو القبح الجميل يقول جورج سانتيانا الفيلسوف الجمالي:
(يفضل عرض الواقع القبيح في شكل جميل عن العرض الجميل للجمال المجرد. فالقبح الطبيعي قد يصبح عنصرا إيجابيا من عناصر الجمال الفني. إن أشد ما في الطبيعة قبحا قد يكتسب في مجال الفن صبغة إستيطيقية واضحة.)