العدد 772 صدر بتاريخ 13يونيو2022
عالم خاص من الفن والثقافة أضاء ليالي مقهى «استرا» في منتصف الستينيات من القرن العشرين، امتزجت فيه روح الشعر بالغناء والموسيقى والمسرح وفن الحكي والواو والزجل وفن القافية والنكت والإنشاد الديني وغيرها من الفنون التلقائية التي كانت تأتي وليدة اللحظة ومعبرة عن روح فنية وأدبية وثابة، استمر نشاطها الأكثر من عشر سنوات شارك في إثراء هذه التجربة عدد كبير من الفنانين أمثال عبدالرحمن عرنوس ولفنانين يونس شلبي ومحمد نوح وأحمد الشابوري وسامح الصريطي ويوسف عيد وحسن السبكي وإبراهيم رضوان والشاعر الراحل عصام عبد الله ولطفي لبيب ومحمود الجندي بالإضافة إلى الماكيير «ميشو» الذي كان يجلس على المقهى يوميا ليحكي النوادر الخاصة والذكريات التي عاصرها مع كبار نجوم السينما المصرية والعربية.
بالإضافة إلى الفقرة التي كان يقدمها الشاعر عبدالرحمن الابنودي بإلقائه المتميز ولكنته الصعيدية
ومن أشهر الشخصيات التي شجعت على استمرار الأمسيات الثقافية شخصية «محمود حجازي» وهو أحد محبي الثقافة وقد ورث فيلا عن أهله بشارع منصور في تقاطع شارع مجلس الشعب، وقد هدمت الآن ـ وكان الرجل ـ على حد تعبير عبدالرحمن عرنوس ـ يغدق على جوعي القراءة والثقافة من أبناء المحافظات الذي كانوا يحضرون أمسية الخميس فتارة يأخذه يقلبون في مكتبته الضخمة التي وضعها في مبنى صغير في حديقة فيلته، يدعى السلاملك ليطلع من يريد على أمهات الكتب فيها، ثم يذهب معهم في اليوم التالي إلى مكتبة «خربوش» التراثية في شارع بورسعيد ويشتري لغير القادرين ما اختاره من كتب لم يقدر أن يدفع ثمنها، وبشرط أن يجهزوا منها ما يفيد الأمسية في سهرة الخميس التالي، وهكذا كان الحال وهج ثقافي عند البعض، وترفيه لفنانين يعودون بعد سهراتهم أو أعمالهم المسائية».
وهذه الحالة التي يشيرإليها عرنوس هي نموذج واضح على العلاقات الإنسانية التي كانت تسود بين رواد المقهى في ذلك الزمن الجميل، حيث النقاشات الدائمة حول آخر الإصدارات من الأعمال الشعرية والروائية والفكرية والتي تعقد لها الندوات والأمسيات، فيتحول المقهى إلى صالون ثقافي يجمع بين تيارات مختلفة فكريا وثقافيا واجتماعيا يجمعها حب الثقافة والإطلاع واحترام الآخر حتى وإن اتسعت رقعة الخلاف الفكري والسياسي.
ويؤكد عرنوس أن دعوته لإقامة مثل هذا النشاط الثقافي ما بين مقاهي «بلودان واسترا وعلي بابا» قوبلت بالانتقاد من قبل البعض والاستهجان من البعض الآخر، فيقول في شهادة عن التجربة نشرت في جريدة «مسرحنا» في (16) يونيه (2008): «وكنت صاحب فكرة هذا النشاط في المقاهي الذي تحمل في سبيل تحقيق تلك الفكرة الكثير من جهلاء المسرح الحاقدين والمستنقدين عشاق الهجوم على محاولات التجديد والبحث عن أماكن جديدة للتنفيس عما بداخلهم، وعما بداخل بعض المواهب التي تحاول البحث عن متنفس يزيج التراكم المعرفي عن محاولات البحث عن أماكن جديدة للعروض.
ولم يكن يدري الحاقدون من جهلاء المسرح عن أخبار مقاهي العروض في باريس مثل مقهى الأبسيدول في عاصمة النور، ومقهى لاماما في أمريكا، وتجارب خارج بروداوي، والمسرح الحر في أمريكا.. التي كان يشجعها عشاق المسرح هناك. كان هؤلاء المستنقدون يعتبرون من يخرج عن خط المسرح التقليدي القائم خروجا عن التقاليد البالية، كما يعتبرون من يدعون إلى التغيير أنه أصيب بالجنون».
ودفاع عرنوس عن تجربته المهمة ليس من فراغ فقد حققت هذه التجربة نجاحا ملحوظا في تلك الفترة، خاصة في التقنية المسرحية، فقد كانت الفترة اللاحقة لهزيمة يونيو (1967) فترة انكسار شديد على المستوى السياسي والاجتماعي ومن ثم الثقافي، ومن هنا ظهرت محاولات لإعادة الوعي الثقافي للخروج من مأزق الهزيمة والبحث عن خطط بديلة للمستقبل، ومن هذا الشتات ظهرت جماعات ثقافية وفكرية استمت بطابع الجماعة في الأداء، وفي المسرح بدأ التفكير في العودة إلى الأشكال المسرحية الأقرب إلى التماس من الجمهور مثل مسرح الشارع، ومسرح الجرن، ومسرح المقهى وقد اتسمت تجربة «مسرح الفنان» بمقهى «استرا» إلى مرحلتين:
المرحلة الأولى اجتذبت عدد كبير من الفنانين، فكان الملحن محمد نوح والفنان الراحل أحمد الشابوري يشدان من أزر المواهب الجديدة حيث كان نوح بعد أ، ينتهي من أدائه في مسرحية «مد.. مدد شدي حيلك يا بلد» تأليف الشاعر إبراهيم رضوان يأتي إل المقهى ليستمع إلى المواهب الجديدة ويشجعها ثم يردد ألحانه على رواد المقهى، وكان من بينهم الصحفي محمد نجيب وفنان الكاريكاتير الراحل رخا الذي كان يدخل في مباريات الشطرنج مع المحامي سعد العمروسي، وكان الكاتب الراحل عبد الوهاب مطاوع يسجل جلسات المقهى في موضوعاته الصحفية بجريدة «الأهرام».
أما فن القافية والمونولوج فقد وجد أرضا خصبة وحضورا جماهيريا داخل المقهى خاصة مع الطريقة الممتعة التي كان يقدم بها سلطان الفار فقراته الأسبوعية التي كانت ـعادة ـ في منتصف السهرة قبل الاستراحة وتناول الشاي، كما كان لإلقاء فن الواو الصعيدي والبحيري مكان في تلك الأمسيات الرائعة، ثم تجئ الفقرة المخصصة للشاعر عبدالرحمن الأبنودي بأدائه الفريد الذي يحمل نكهة شعبية خاصة وبما تتضمنه قائده من موضوعات تهتم بقضايا الناس وتصورها في جمل شعرية صادقة، وكانت هذه الفقرة من أكثر الفقرات جماهيرية حيث كان يمتلئ المقهى بالرواد.
أما المرحلة الثانية فتحول النشاط الثقافي في المقهى إلى ما يشبه مسرح المنوعات حيث كان يشرف عليه في تلك المرحلة د. صلاح الراوي والفنان عادل درويش، وكان الشاعر الراحل نجيب سرور يجئ إلى أمسيات «استرا» ليلقي بعض أشعاره ومقاطع من مسرحياته الشهرية مثل «منين أجيب ناس» و»ياسين وبهية» وغيرها.
وكان عبد الرحمن عرنوس في تلك الفترة قد انتقل نشاطه الفني إلى مقهى «بلودوان» بالعباسية، إلا أنه على حد تعبيره فوجئ بمقال في مجلة «الكواكب» للمرحوم حسين عثمان بتاريخ (18/1/1977) تحت عنوان «الصالون الثقافي للفنان» كتب يقول فيه: «يتحدث الوسط الفني عن تصرف غريب يجري في مقهى يقع في ميدان التحرير، وهذا المقهى يقيم مساء كل خميس عرضا لمنوعات التمثيل، ومن بين فقرات هذا المقهى مطرب قديم يغني أغاني لا تمت للفن بصلة، فضلا عن أنها تدخل تحت قائمة الأغاني التي تخدشا لذوق العام أو الآداب العامة فإنه يغني أغنية مطلعها كل الحمام اثنين اثنين.. ويمنعني الحياء من تكملة الأغنية، وقد كان أول ما خطر لي أن أبحث عن الفنان عبد الرحمن عرنوس الذي ابتكر فكرة العروض المسرحية في المقاهي، وتحويل المقاهي إلى أندية ثقافية لنشر الوعي المسرحي والتذوق الفني بين الجمهور، واختار لفكرته اسم «الصالون الثقافي لمسرح الفنان» وتحمس الكثيرون لهذه الفكرة النابعة من قلب صادق يخفق بحب الفن فلما ظهر هذا المطرب القديم ليغني كلاما لا يعبر عن علاقة المقهى بالفن بحثت عن عرنوس فاكتشفت أنه ترك المقهى بعدما خرج عن الهدف الذي كان يستهدفه عبدالرحمن عرنوس وانتقل على مكان جديد في ميدان العباسية هو كافتيريا بلودان وأصبحت ندواته الفنية التي يعقدها كل أسبوع تؤمها شخصيات بارزة في الشعر والأدب والفن والمجتمع.. ولا يكتفي بالعروض الفنية بل يخصص مكانا لعرض أعمال الفنانين التشكيليين.
وقد عاد عرنوس إلى «استرا» ليستعيد نشاطه الفني مرة أخرى فغلب على هذه المرحلة الاهتمام بالمسرح كجزء من برنامج الأمسية وفقرة من فقراتها التي زادت عن المرحلة الأولى، فكانت هناك فقرة عن الفن التشكيلي كان يقدمها د. سمير سعد الدين ـ أستاذ التصوير ـ وكانت هذه الفقرة تحت عنوان «عيون الكاميرا» يتحدث فيها عن التراث المعماري المصري بما يتضمنه من آثار إسلامية كالمساجد والتكايا والمشربيات.