«المغـــامرة» فرجة شعبية مكتملة العناصر والأركان

«المغـــامرة» فرجة شعبية مكتملة العناصر والأركان

العدد 863 صدر بتاريخ 11مارس2024

«المغامرة»، هى اسم على مسمى أحسن المخرج الكبير مراد منير اختياره وتجريده من اسم النص الأصلي، «مغامرة رأس المملوك جابر» للكاتب الكبير سعد الله ونوس، فمغامرة سعد الله ونوس جاءت بها تخصيص لشخص بعينه وحدث بعينه ومجتمع بعينه، بينما مغامرة مراد منير بتخصيص «الألف واللام» دون الإشارة إلى أشخاص أو أحداث أو فترات معينة، جاءت مغامرة عامة ومشتركة لكلا من المتلقى ايا كان نوعه وجنسه ووطنه، وبين المخرج وتجربته الإخراجية الجديدة والجريئة فى الدمج ما بين العبث والتجريب والواقع الحالى، فقد كانت دعوتى لحضور العرض المسرحى من قبل ذاك المخرج العبقرى شخصيا بكل ما يحمله تاريخه من نجاحات كبيرة هى مغامرة فى حد ذاتها، فالكتابة عن مخرج بحجم مراد منير وبحجم عبقريته والمتوقع مسبقا لما ستشاهده من جماليات وإسقاطات ودلالات وؤى إخراجية مبدعة، هى بكل تأكيد مغامرة نقدية صعبة ومرهقة بكل المقاييس وبكل ما تعنيه كلمة «المغامرة» من تحديات ومخاطر، من أجل مقالة نقدية تحليلية وافية نستكشف فيها ثراء ما تحمله السطور من معانٍ عديدة وراءها لمخرج صاحب قضية.
العرض ذات نفسه يعد مغامرة كبيرة لكل صناعه بدءا من المخرج حتى الممثلين وكل الفنيين فيما وراء الكواليس، لعرضه على مسرح السامر فى إعادة افتتاحه بعد غلقه لأكثر من ثلاثين عاما، وبعد تطويره سواء على مستوى الشكل المعمارى أو التكنولوجى، ولكنها كانت مغامرة ناجحة بمحتواها المتلائم مع خصوصية مسرح السامر الشعبية والتراثية، وبالأسماء الكبيرة لكل من مؤلفها ومخرجها، وبأعضاء فرقة السامر بما يملكون من كنوز ومواهب.
ويعد مسرح السامر أصل المسارح المصرية لكونه المسرح الوحيد بالوطن العربى المنوط بتقديم الأعمال التراثية والفولكلور والكوميديا الشعبية، وكانت تقام عليه حفلات أضواء المدينة وكانت برامج التليفزيون تستخدمه بديلا عن الاستوديو، وكانت تقام عليه مهرجانات الثقافة الجماهيرية خصوصاً مهرجان المائة ليلة مسرحية، ويقع المسرح على مساحة 1800 متر مربع، وبه صالة بمساحة 600 متر، تسع لـ‏‏350 مشاهدا، وكان في وضعه القديم عبارة عن مبنى مغطى بخيمة، وافتتح في 9 سبتمبر 1970 بقرار من الرئيس الراحل محمد أنور السادات وكان المخرج عباس أحمد هو أول مدير لفرقة مسرح السامر، وبعدها صدر قرار سعد الدين وهبة رئيس هيئة قصور الثقافة السابق عام 1971 بتشكيل هيكل فرقة السامر، بقيادة عبد الرحمن الشافعي، وتوقف المسرح عام 1975 بعد تأثره بحريق خيمة مسرح البالون، وعاد مرة أخرى على يد الرئيس الراحل أنور السادات وافتتحه عام 1978 بعد ترميمه وبنائه دون أدنى تعديلات أو تجديدات، وبعدها تم إعادة افتتاح المسرح بمسرحية “عاشق المداحين” من تأليف يسري الجندي وإخراج عبد الرحمن الشافعي، حيث كانت قد قدمت الفرقة قبل هذا التاريخ ما يقرب من العشرين عملا مسرحيا، ثم تكرر إغلاقه مرة أخرى ولكن كان السبب هذه المرة هو تداعيات زلزال 1992 المدمر والتصدعات التى أصابت المسرح وكأنه موعود دوما بالإغلاق، وأخيرا تم افتتاحه العام السابق 2023 بعد 31 عاما من إغلاقه على يد المخرج القدير هشام عطوة رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة السابق صاحب المجهود الوافر فى هذا الحدث الكبير وبحضور كل من عمرو البسيونى رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة الحالى والفنان تامر عبد المنعم رئيس الإدارة المركزية للشئون الفنية، بعد ترميمه وإعادة بنائه بأحدث وسائل الحماية التكنولوجية ضد الحرائق والكوارث، وبشكل جديد ومغاير تماما عما سبق مع الاحتفاظ بطابع المسرح التراثى الشعبى، وقد شهد حفل افتتاح المسرح تكريم أسماء الفنانين الراحلين عبد الرحمن الشافعي، ومحمد أبو العلا السلاموني، وحسين العزبي، وعبد الستار الخضري، وأحمد خلف، فضلا عن الفنان المخرج إميل جرجس، وعباس أحمد، وحمدي الوزير، كما تم تكريم أيضا عدد من الفنانين من رموز المسرح من بينهم سعيد صديق، وجلال العشري، وماجدة منير، وقد سبق لهم التألق على خشبته قبل ثلاثة عقود عبر عروض  «منين أجيب ناس» و«عنترة»، و«ليالي الحصاد»، و«الغوري»، و«السلطان الأخير».
ومسرحية المغامرة من إعداد وإخراج مراد منير هى مأخوذة عن مسرحية «مغامرة رأس المملوك جابر» أحد أهم وأشهر المسرحيات لسعد الله ونوس (1941-1997) وهو مسرحي سوري شهير، ومسرحياته كانت فيها هناك دوما نقدا سياسيا اجتماعيا للواقع العربي بعد هزيمة عام 1967، كما ساهم ونوس فى أواخر السبعينات في إنشاء المعهد العالي للفنون بدمشق، وعمل مدرسا فيه، كما صدرت له مجلة حياة المسرح، وعمل رئيسا لتحريرها في أعقاب حصار بيروت عام 1982، ثم غاب ونوس عن الكتابة لعقد من الزمن وبعدها عاد إليها في أوائل التسعينات، في 15 مايو 1997، توفي ونوس بعد معاناة طويلة مع مرض السرطان، وقد قدم مسرحيته مراد منير فى افتتاح السامر مؤخرا برؤية جديدة وجريئة ومغايرة تماما عما قدمها من قبل عام 2000 على المسرح القومى ومن بطولة الفنان أحمد بدير، حيث قدمها هذه المرة بوجه جديد وشاب من بطولة الممثل الواعد والكبير بموهبته يوسف مراد منير مع مجموعة منتقاة بعناية من خيرة مواهب فرقة السامر، وهى مسرحية سياسية صالحة بجدارة لكل الأزمنة، قدم فيها ونوس السلطة الفاسدة والشعب السلبي والخيانات في سبيل كرسي الحكم مهما كانت النتائج والتنازلات المطلوبة، وتدور المسرحية حول المملوك جابر ذاك الشاب الطامح للثروة والمنصب والذى يجد ضالته فى الصراع الدائر بين الخليفة والوزير، فيصبح كل ما يعنيه هو كيف يستفيد من هذا الصراع، لذا يسارع إلى الوزير الذى يريد أن يتواصل مع ملك العجم من أجل الاستقواء بالخارج وخيانة الخليفة وهزيمته، ولكنه لا يتمكن من إرسال رسالته له بسبب الحراسة المشددة على حدود البلاد والتفتيش الدقيق للداخل والخارج، وبكل شجاعة يعرض عليه المملوك جابر حيلة شيطانية لنقل رسالته، حيث اقترح عليه أن ينقلها عبر رأسه بعد حلاقة شعره كاملا وبعدما يعود شعره للنمو تختفى الرسالة، ومن ثم يستطيع المرور بين جنود الخليفة دونما أي إخطار حتى يصل إلى ملك العجم ليتمكن من قراءة الرسالة بعد حلاقة شعر رأسه، ويعجب الوزير بالفكرة وبالفعل ينقش رسالته على رأس المملوك جابر، لكنه يختمها بجملة «وكى يظل الأمر سرا بيننا اقتل حامل الرسالة من غير إطالة»
 لم تكن مصادفة اختيار المخرج الكبير مراد منير لنص “رأس المملوك جابر” لإعادة إخراجه من جديد بعدما أخرجه من قبل على المسرح القومى فى مطلع الألفية الثالثة من بطولة أحمد بدير وفايزة كمال وحسن الأسمر وغيرهم، بل كان قمة الذكاء منه اختيار ذاك النص ليقدم فى افتتاح مسرح السامر بعد عمل إعداد جديد له تحت اسم “المغامرة” ليتماشى مع ظروف العصر السياسية لواقعنا العربي الحالى والمشابهة مع الظروف السياسية والخط التاريخى للراوية الذى دارات أحداثها الحقيقية فى بغداد فى حقبة تاريخية قديمة فى العصر العباسى، مثلما يحدث الآن من الصمت العربي أمام ما يحدث فى غزة من إبادات جماعية بشرية خوفا على ذات السلطة والثروة أيضا، إذن هى مغامرة أعدها مراد منير برؤية إخراجية مجردة وتجريبية وفرجة شعبية من خلال الحكى والتمسرح بالتواصل مع الجمهور وإدماجه معهم فى الأحداث حتى تكون محصلة كل تلك المفردات هى اكتمال عرض مسرحى يصلح لكل العصور، فالمخرج مراد منير هو واحد من المخرجين القريبين من الناس والمهموم بهم ويسعى دوما من خلال فنه إلى إحداث الفارق والتغيير بإعادة إحياء الوعى المجتمعى، فمسرح مراد منير ليس مسرحا ترفيهيا بل مسرح سياسى شعبى يتماس مع قضايا الواقع ويجعل من جمهور العرض شريكا معه فى هذا التفاعل من خلال مدرسته القائمة على المسرح داخل المسرح، والتى يعد المخرج مراد منير واحدا من أهم مخرجى المسرح من يجيدون لعبها باحترافية عالية، ومن أجل ذلك التفاعل ما بين العرض وجمهور المسرح قام منير بإعادة كتابة النص باللهجة العامية دون الخروج عن مسار الحكاية أو تعديل ملامح الشخصيات الرئيسية، ولكنه قدمه برؤية إخراجية مغايرة عما قدمها قبل ذلك فى عام 2000، ففى النص الأصلى لسعد الله ونوس جعل من الأحداث كلها تدور من خلال مقهى للحكى يجلس عليه الرواد ليتحاكوا عن أحداث تلك القصة التاريخية، بينما فى مسرحية مراد منير السابقة لتلك المسرحية الأخيرة على المسرح القومى جعل تلك الأحداث التاريخية تدور من خلال فرقة مسرحية تجسدها فى البروفات، أما فى التعديل الأخير على مسرح السامر وفى وجهة نظرى هو أقواهم تأثيرا وتفاعلا وإبداعا حيث وضع مراد منير فرقة موسيقية بقيادة محمد عزت مطرباً وملحنا على يسار المسرح سوف تكون شريكا أساسيا فى بنية العرض، وعلى الجانب الآخر فرقة الممثلين الذين سوف يؤدون الأدوار، وما بينهما فضاء الحكاية التى كتبها سعد الله ونوس، والعرض قائم على ألعاب الأطفال يلعبونها ثلاث بنات مثل الكراسي الموسيقية ونط الحبل وهم الذين يقدمون العرض، كما أن المسرح هنا بكل كواليسه مكشوف بالكامل لكل جمهور المتلقى، حيث يرى الجمهور الممثلين وهم يغيرون ملابسهم أثناء التنقل من شخصية إلى أخرى، وهذا منهج متبع عند بريخت ومعروف مسرحيا من أجل كسر حائط الإيهام ما بين خشبة المسرح والمتلقى، مما يساعد على جعل الجمهور جزءا من العرض ومشاركا في اللعبة المسرحية، وواعيا ومدركا لكل أبعادها مما يسهم فى يقظة جمهور المتلقي واستيعابه الكامل لكل رسائل العرض المسرحى المطلوب إيصالها له، وفى تلك التجربة الأخيرة لمراد منير على مسرح السامر نستطيع أن نقول إنه قدم للمتلقى كل صور الفرجة الشعبية بكل ما يعنيه ذاك المصطلح من معانٍ، من أغاني واستعراضات وديكور وملابس وكارتون، والتي تجذبه إلى التفاعل مع قضايا الواقع ومع كل ما يحدث على خشبة المسرح، ولكن المبتكر والجديد هنا لدى المخرج الكبير مراد منير هو أنه قدم كل تلك الصور الشعبية بشكل جديد ومغاير عما نعتاد مشاهدته من قبل، حيث قدمها فى قالب بريختى عبثي مغلف بطابع المسرح داخل المسرح، والمعتاد لدينا فى كل نصوص الفرجة الشعبية هو تقديمها أما بشكل كلاسيكى أو تجريبي، ولكن وحده مراد منير هو فقط من يستطيع أن ينجح فى تلك المغامرة الإخراجية الجديدة على جمهور المتلقى والنقاد، وفى نفس ذات الوقت تجد تفاعل الجمهور حاضرا بقوة مع كل أحداث العرض المسرحى.
ودوما مراد منير يميل فى كل عروضه إلى عرض قضايا الواقع من خلال إسقاطات تاريخية أو تراثية كما فعلها من قبل فى أغلب عروضه وبالأخص فى عرضه المسرحى الأشهر «الملك هو الملك» والذى لاقى نجاحا منقطع النظير، نتيجة ما أحدثه من تفاعل قوى ما بين جمهور المتلقى وما قدمه لهم من فرجة شعبية.
وفى العرض المسرحى «المغامر» نجد أكبر مثال على ذاك، حيث نجح مراد منير فى عمل إسقاط هام على حال وواقع العالم العربى اليوم، من خلال حكاية تاريخية حدثت بالفعل فى الماضى، أراد منير من خلالها أن يبرز معاناة شعوب تلك الدول الآن، بعد أن قتل فيهم الحكام روح السؤال وتعلموا الخوف والهروب والانزواء بعيداً، وأقصى ما يمكنهم فعله هوممارستهم لدور المتفرج.
استعان مراد منير باثنتين من الممثلات لتقوم كل منهما بدور الراوى بديلا عن دور الحكواتي فى النص الأصلى، حيث يتماشى ذلك مع رؤيته الإخراجية التى بدأ بها النص بلعبة الكراسى الموسيقية وتبادل الأدوار بين أكثر من ممثل وممثلة، فرأينا على المسرح أكثر من ممثل واحد يقوم بأداء عدة شخصيات بدلا من شخصية واحدة فقط، حيث إن فكرة تبادل الممثل لأكثر من دور هى فكرة قامت عليها الرؤية الإخراجية لمخرج العرض، على اعتبار أنه يقدم لجمهور المتلقى لعبة مسرحية وليست مسرحية بالشكل المألوف لديهم، بل هى لعبة يلعبها الممثلون مع بعضهم البعض ويشركون فيها معهم جمهور العرض، لذا كان كل شيء مكشوفا أمام المتلقي بدءا من ملابس الشخصيات حتى فكرة تغيير موتيفات الديكور كانت أمامهم بدون إظلام للمسرح ولا توقف للعرض، مما يؤكد على حرص المخرج على كسر الإيهام بينه وبين جمهور المتلقى، وإثارة الوعى لديهم بأن ما يرونه أمامهم هى مجرد لعبة مسرحية عليهم الخروج منها بعدة رسائل موجهة لهم دون الاستغراق فى العرض، مما قد يعرضهم هذا التركيز والاندماج مع أحداثه إلى عدم الانتباه للرسائل المرجوة من العرض المسرحى.
حرص مراد منير فى إخراجه للعرض المسرحى “المغامرة” أن تكون أغلب اختياراته من فناني فرقة السامر المسرحية، من أجل استغلال حماسهم لصالح العرض نتيجة سعادتهم لعودة مسرحهم السامر للعمل من جديد بعد غياب دام سنوات طويلة، واشتياقهم للوقوف على خشبته مما سيسفر ذلك عن طاقة تمثيلية كبيرة ستتجلى فى صورة إبداع على خشبة المسرح، وهذا ما حدث بالفعل حيث تألق جميع ممثلى العرض بلا استثناء سواء من كانوا بالفرقة أو من الخارج، وبالطبع هذا ذكاء يحسب لمخرج العرض.
واستطاع مراد منير بخبراته الكبيرة أن يضع كل ممثل وممثلة فى مكانه الصحيح بالعرض، بعدما كان لتدريبه وتوجيهاته لكل ممثل الصغير منهم قبل الكبير، أثرا كبيرا على إتقان أدائه وتقمصه للشخصية من منظور شعبى، فمسرحيات التراث والسير الشعبية تحديدا غير باقى الأنواع تتطلب ممثلين ذوى قدرات خاصة فى التمثيل والغناء والرقص، لذا رأينا هنا يوسف مراد منير بطل العرض المسرحى فى شكل وثوب جديد مختلف كلية عما رأيناه من قبل فى كل العروض السابقة التى شارك فيها ممثلا، وقد أبهرنى هنا توحده الكامل مع الشخصية روحا وجسدا وأدائا، مما نجح معه فى أن يأخذ جمهور المتلقى معه فى زمن غير زمنهم ليفصلهم عن الواقع الحالى نتيجة صدقه الشديد فى التوحد مع شخصية المملوك جابر تلك الشخصية المركبة والمعقدة والتى يبدو ظاهرها غير باطنها تماما، حيث إنها شخصية فضولية ووصولية تدعى الإخلاص للوزير من أجل مصالحه الخاصة وطمعه فى الثروة والنفوذ بينما هى فى الباطن شخصية خائنة للوطن، وهذا التغيير الكامن والمذهل الذى ظهر عليه يوسف منير يعود بالطبع الفضل فيه لعبقرية مخرج العرض فى تمكنه من غرس قواعد تقمص تلك الشخصية الشعبية المركبة فى عقل وروح من جسدها، فوجدنا يوسف منير وهويرسم البسمة على وجوهنا مثلما يرسم الدمعة فى عيوننا بنفس الإتقان والحرفية، كما وجدناه يبدو كالفراشة على المسرح يمثل ويرقص ويغنى ويتفاعل مع جمهور العرض بحرفية مدهشة لا ينجح فيها إلا الممثل الجرئ صاحب الذهن الحاضر وسريع البديهة ليختتم العرض بمشهد دراماتيكى حيث لحظة إعدام المملوك جابر وفصل رأسه ليتضح من خلال ذاك المشهد والكريشندو التصاعدى فى الانفعالات مدى ما وصل إليه يوسف منير من حرفية وإتقان فى تقمص الشخصية واتباع تعليمات المخرج صاحب الخبرات التدريبية.
كما وجدنا ليلى مراد وهى تؤدى شخصيتين بالرواية ألا وهما شخصية الراوية والزوجة جانيت وشتان الفرق بين تمكنها فى الفصل بينهم والتفرد فى كل شخصية عن الأخرى، ومعايشتها المدروسة لمشهد مآساوى لشخصية الزوجة الفقيرة التى ينصحها زوجها بالذهاب إلى الجار وهو يعى جيدا ماذا يريد منها، ولكن رغبة منهم فى إطعام طفلتهم التى كادت تموت من الجوع يقرران التضحية فى مشهد مؤلم ومرير، بجانب المشهد الذى يقف فيه الجميع أمام فرن العيش يطالبون بالخبز ويبثون مخاوفهم من الأيام القادمة نتيجة صراعات على الحكم والنفوذ لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فى إسقاط بديع من المخرج على الواقع الذى نحياه الآن حيث الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى تأثر بها العالم أجمع من غلاء وأطماع وحروب ونزاعات، واستطاع الممثل حامد سعيد رمانة ميزان العرض أن يعطى ثقلا كبيرا لأدوار الشر فى العرض المسرحى بأدائه العبقرى لثلاث شخصيات تمثل محور الشر فى الراوية وأدى كل واحدة منهم بأداء مختلف عن الأخرى وإتقان منقطع النظير نجح من خلاله أن يصدم جمهور المتلقى فى النهاية عندما يعلمون أنه هو وحده من جسد الشخصيات الثلاثة (الوزير، الخليفة، منكتم بن داوود ملك العجم) نتيجة تألقه فى اداء كل شخصية منهم بتفرد واختلاف بعيد ومتقن ومدروس، ولطالما هناك شر كان لا بد ان يقابله خير من الناحية الأخرى حتى يتولد الصراع، لذا جاء أداء الممثل أشرف شكرى هنا فى دور (البهى) الذى يحذر الناس من التواكل والاستسلام رمزا وأيقونة للأمل فى وعى الناس والتفافهم حوله، والذى حقيقة استطاع شكرى بخبراته الطويلة وهو أحد رموز فرقة السامر ان يلمس بآدائه واحساسه الصادق بالشخصية مشاعر وقلوب جمهور المتلقى، كان اختيار مصرية بكر فى دور الراوى وزمردة اختيارا موفقا وناجحا حيث تمتلك مصرية وجها حسنا ذا كاريزما ملكية ساعدها كثيرا فى مصداقية جمهور المتلقى لأدائها لشخصية زمردة، كما تألق جميع ممثلى العرض الضخم كل منهم فى شخصيته وبالأخص أحمد فتحى من جسد دور (منصور)، إيهاب عز العرب (محمود – الزوج)، لمياء العبد (نورا)، عبد الله مهنا (أحمد)، فاطمة زكى (وجدان) وتلك الأخيرة لديها مخزون من الانفعالات الصادقة والوجه المعبر فى آداء أدوار البسطاء والمقهورين.
فى المجمل نجح مراد منير أن يقدم لنا فرجة شعبية مكتملة العناصر والأركان، تليق باسم مسرح السامر وكل رموزه على مر تاريخه، وعودته من جديد تحت إدراته الحالية للمخرج الخلوق عادل بركات الذى لا يتوانى عن تقديم كل الدعم للفرقة ولزوار المسرح من جمهور ونقاد بكل حب وإخلاص، بداية من ديكور إبراهيم المطيلى الذى أحسن استغلال الموتيفات فى الفضاءات المسرحية لتعبر عن أكثر من معنى وحالة، وملابس ناجح أبو المجد التى جاءت متسقة مع تاريخ وصفات كل شخصية وزمنها، أشعار أحمد الشريف التى عبرت بصدق من خلال تيمة الانكسار والحزن عن الحالة المسرحية والمعاناة التى يعانيها البسطاء فى ظل تلك الصراعات، كما اتسمت كلماتها بالطابع الشعبى والتراثى المأخوذ من التاريخ، ونجحت ألحان محمد عزت التى قدمها بشكل حى على المسرح مصحوبا بفرقته الغنائية، أن تعطى لتلك الأشعار رونقا وتفاعلا مع الجمهور وتأكيد التيمة الشعبية، نهاية إلى الاستعراضات التى صممها محمد بيلا ببراعة منقطعة النظير لتعبر من خلال دراما حركية واعية وصعبة ومركبة ومدروسة عن كل ما يدور فى ذهن المخرج من إسقاطات على الواقع الحالى، وبالأخص مشهد الدراما الحركية الأخير لشخصية «البهى» بعد أن نجح فى إثارة وعى الشعب وتكاتفه معه ضد الظلم والطغيان، ليختتم العرض المسرحى على هؤلاء البسطاء ويتوسطهم البهى وهم فى كتلة واحدة موحدة بشكل بديع وغير ممزقة ترفع أياديها معلنة الرفض والتمرد والعصيان، فقط يؤخذ على العمل أنه كانت هناك به بعض المشاهد ذات الحوار الطويل ما بين المملوك جابر والوزير كان من الممكن أن تختزل كثيرا منها، مما يأتى فى النهاية فى صالح العرض وإيقاعه السريع، ولكن الرؤية الإخراجية المبدعة التى تناول بها المخرج الكبير مراد منير للعرض المسرحى، وإسقاطاته العديدة على الواقع العربي من لوحة لأخرى والتى لمست قلوب كل جمهور العرض، جعلت المتلقى لا يلتفت إلى طول تلك الحوارات، ويدرك أنه أمام مخرج إنسان مهموم بكل قضايا البسطاء الراهنة ويسعى بصدق أن يعبر عنهم وعن أحوالهم ومعاناتهم فى فرجة شعبية أشبه بالملحمة، تعد بمثابة مغامرة إخراجية جديدة للتفاعل مع جمهور المتلقى تخلط ما بين العبث والتجريب والمسرح داخل المسرح.


أشرف فؤاد