نهاد صليحة.. سيدة النقد المسرحي

نهاد صليحة..  سيدة النقد المسرحي

العدد 853 صدر بتاريخ 1يناير2024

ربما كان اسم الناقدة الراحلة نهاد صليحة هو أبرز الأسماء النقدية المسرحية النسائية خلال الأربعين عاما الماضية، نظرا لما قدمته من جهود واضحة في هذا المجال، على مستوى النقد المتابع للتجارب المسرحية الجديدة، وعلى مستوى ترجمة الكتب التي تنتمي إلى” المسرح التجريبي” في العالم، مما جعل الأجيال الجديدة تتعرف على رؤى مختلفة من فضاءات المسرح المغايرة، فتكتشف طرائق متعددة لتطوير الحركة المسرحية.
وُلدت نهاد صليحة عام 1945، ونالت درجة الدكتوراه في مجال الدراما من جامعة إكستر بالمملكة المتحدة، وتدرجت بعد ذلك في مناصب التدريس المختلفة في أماكن متعددة، حيث درست كورسات في الدراما بأقسام اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وكذلك قامت بتدريس مادة المسرح بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، ثم التحقت بأكاديمية الفنون لتعمل أستاذًا مساعدًا للنقد والدراما بالمعهد العالي للنقد الفني عام 1977، إلى أن عملت قبل رحيلها أستاذًا للدراما والنقد بأكاديمية الفنون المصرية، وصولًا إلى منصب عميد المعهد العالي للنقد الفني.
في كل مؤلفاتها النقدية ومنها:  “المسرح بين الفن والفكر”، “أضواء على المسرح الإنجليزي”، التيارات المسرحية المعاصرة”، “التفكيك والأيديولوجيا”، “أمسيات مسرحية”، “الحرية والمسرح”، “المسرح بين الفن والحياة”، و”المسرح بين النص والعرض”، نجد ذلك الخيط الواصل ما بين المسرح والتجريب، من خلال بحثها الدائم عن معنى التجريب وتجلياته في المسرح العربي خاصة أنها كانت ترى أن التجريب لفظة جديدة تعبر عن ممارسة جدلية قديمة تتحقق بصورة دورية في لحظات ثورة العقل الإنساني وتنوير الوعي في مجال المسرح العربي.
كما كانت تؤكد على أن التجريب في الفن مرتبط بالأساس بطبيعة المكان والزمان، حيث تقول في كتابها “عن التجريب سألوني”: “إن البعض ينسون وهم يتحدثون عن التجريب في المسرح أن العالم ينقسم إلى دول متقدمة ودول نامية لكل منها احتياجاتها الثقافية التي يفرضها واقعها التاريخي، والتي تعزز أشكال تمردها بما فيها تمردها الفني، وينسون أيضا أن الثورة التجريبية في الفنون الغربية جاءت وليدة ثورة ثقافية جذرية لم نمر بها نحن، ثورة غيرت صورة العالم الموروثة وتجلت في رفض مؤسساته الفكرية والاجتماعية والفنية، بل والدينية والأخلاقية، كما تجلت في تبني النظرة النسبية والتاريخية، وفي ذلك الموقف المنقسم بين الرفض والترحيب بالثورة العلمية والتكنولوجية”(1)
انطلقت الرؤية النقدية لنهاد صليحة من ضرورة وجود مسرح له خصوصية، ينتمي إلى الواقع المعاصر على مستوى الشكل والمضمون، مسرح يغاير –تماما- المسرح التقليدي ويثور عليه، بل يحاول من خلال طرق فنية متعددة هدم هذا المسرح بفضاءاته الخطابية الكلاسيكية، وبناء تجارب تقوم على التجاوز والتماهي - في الوقت نفسه-  مع قضايا الإنسان المعاصر.
لذا وقفت د. نهاد بجوار تجربة المسرح المستقل في مصر ودعمتها نقديا ومعنويا، وعملت على اكتشاف الطاقات الكامنة في أبناء هذا الجيل، فنراها تكتب عن تجاربهم مساندة لهم، بل وتبحث عن آليات لدعم هذه التجارب لوجستيا، مثل التوسط لهم لتقديم عروضهم على خشبة مسرح “الهناجر” كما حدث مع تجارب فرقة المسحراتي، وفرقة القافلة وفرقة أتيليه المسرح، وفرقة الحركة وغيرها.
ونادت نهاد بضرورة أن يكون التجريب في المسرح العربي نابعا من طبيعة المكان وليس بمجرد الانبهار بالتجربة الغربية – في هذا الصدد -، ولذا كان تحبذ أن يبدأ التجريب في المسرح العربي من فكرة” الاحتفالية” حيث تقول:
“تنبع خصوصية هذه الصيغة العربية الجديدة-  التي ربما اتفقنا على تسميتها بالاحتفالية المكانية-  من اتكائها بالدرجة الأولى على محور المكان وتهميشها لمحور الزمن، فإذا كانت الواقعة المسرحية هي تشكيل جمالي جدلي مؤقت في الزمان والمكان، يتحقق من خلال حضور العنصر البشري، فإن الواقعة الاحتفالية تنشط تشكيليا وجدليا على محور المكان، وتسعى إلى تثبيت عنصر الزمن في حاضر مستمر مفترض- هو حاضر اللعبة المسرحية أو زمن العرض”(2)
وترى نهاد أن التجريب العربي ينطلق من التراث كموضوع للبحث عن الهوية، ثم ينتهي إلى الحاضر كفعل جمالي جماعي، وهذه الصيغة الفنية ترتبط –بشكل تكاملي- مع المكان وطبيعته، لتأكيد قيمة الانتماء في الزمان والمكان.
ولعلها كانت تشير دائما إلى بعض التجارب المهمة في هذا المجال مثل تجربة المسرح الاحتفالي في المغرب، وتجربة روجيه عساف في لبنان وقد كتبت كثيرا من المقالات والدراسات حول هذه التجارب.
ومن ثم راحت” صليحة” تتحدث في بعض مؤلفاتها عن أهمية الارتجال في المسرح التجريبي العربي، مستشهدة بعروض المسرح الجوال، في القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، من خلال عروض الأراجوز والمحبظين ودور هذه العروض التراثية في إثراء المسرح الجديد شرط الاستلهام الإيجابي لهذا التراث.
ولهذا تؤكد صليحة على أن “الارتجال فن عظيم لكنه يتطلب موهبة ومرانا وخبرة ودراية بأصول اللعبة حتى لا يختل إيقاع العرض”
وتميزت الرؤية النقدية لدى نهاد صليحة بالاتساع نظرا لتعدد روافد ثقافتها وكذلك اطلاعها على أحدث المناهج النقدية في العالم، بالإضافة إلى متابعتها الدائمة للعروض المسرحية في العالم وفي المنطقة العربية كذلك، وبالمثل صداقاتها المتعددة مع رموز المسرح العالمي الحديث مثل بيتر بروك، ومارفن كارلسون وميكا كولك ومارجيت ليتفن وجينكا هينلي، وكانت تدعو معظم هؤلاء لحضور عروض مسرحية يقدمها شباب المصري والعربي، حتى تساعد هؤلاء الشباب لأن يقدموا تجاربهم في نطاق من المتابعة النقدية العالمية.
وكانت د. نهاد تقوم بالترجمة الفورية للعروض حتى يتمكن الضيوف من فهم فحوى المسرحيات المعروضة.
كما كانت د. نهاد أكاديمية بارزة دأبت على مزج ثقافتها النظرية الرصينة المتبحرة بالممارسة العملية على كل مستوياتها، حيث تولت تدريس النقد والدراما بالمعهد العالي للنقد الفني في أكاديمية الفنون وقد تولت عمادة هذا المعهد حتى عام 2004 م، وقد تم تكريمها في كثير من المحافل الفنية الدولية.
 كانت البداية النقدية الحقيقية لنهاد صليحة في  فترة الثمانينيات من القرن الماضي، حيث انطلقت موهبتها النقدية مؤكدة على خصوصية صوتها النقدي الذي تميز منذ اللحظة الأولى بعدة سمات منها:
أولا: المزج ما بين النظريات الغربية والتحليل النقدي وفق ما تمليه الظاهرة المسرحية، مع مراعاة البيئة المكانية والزمانية للعرض المسرحي.
ثانيا : الإحاطة الشاملة بكل عناصر العرض المسرحي، فتقدم رؤيتها عن النص المسرحي وعن الإخراج وعن الأداء التمثيلي، وعن فنون السنوغرافيا وغيرها من العوامل المساعدة في تنفيذ العرض.
ثالثا: التواصل الدائم مع كل الأجيال المسرحية المتواجدة على الساحة الفنية، وكذلك المتابعة الدائمة لكل العروض على اختلاف مستوياتها الإنتاجية، سواء كانت عروضا تابعة للبيت الفني للمسرح أو لمسرح القطاع الخاص، أو للفرق المستقلة.
رابعا : انحيازها للهامش المسرحي، وقد ظهر ذلك جليا لتبنيها لكثير من تجارب الفرق المسرحية المستقلة، وقد سعت د. نهاد صليحة لتطوير منظومة المسرح المستقل، من خلال مشاركتها الفعالة في تأسيس أول مهرجان لفرق المسرح المستقل عام .1990
خامسا: كانت نهاد صليحة من المتحمسين لإقامة مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وراحت بحماس شديد تتابع عروضه وتشارك في ندواته، نظرا لأنها كانت أحد أكثر الداعين لوجود مسرح تجريبي في العالم العربي.

الهوامش:
نهاد صليحة: عن التجريب سألوني- الهيئة المصرية العامة للكتاب-  القاهرة- 2015- ص17.
عن التجريب سألوني: مصدر سابق- ص34.


عيد عبد الحليم