على هامش الازمة الاقتصادية والسياسية فى لبنان

على هامش الازمة الاقتصادية والسياسية فى لبنان

العدد 708 صدر بتاريخ 22مارس2021

طبيعى ان يثور هذا السؤال  ليس فقط فى ضوء الدور الذى يلعبه المسرح فى حياة اى مجتمع ،بل فى ضوء حقيقة مهمة وبديهية.  كان لبنان مهد المسرح فى العالم العربى حيث حط المسرح رحاله لاول مرة فى العالم العربى فى   لبنان من خلال مسرحية موليير «البخيل» في العام 1848، الذي قام بعرضها مارون النقاش في مسرحه المنزلي في بيروت.
وعمّت الساحة المسرحية اللبنانية بعد ذلك ترجمة واسعة لآثار مسرحية عالمية في المسرح الكلاسيكي الفرنسي والإنجليزي، ومن المترجمين البارزين آنذاك: أديب اسحق، طانيوس عبده، الياس فياض، نجيب حداد... وكتب المسرحيون تجارب باللغة الفصحى شعراً ونثراً مستلهمين التاريخ العربي القديم والبطولات.
إلى الحرب العالمية الأولى بقي المسرح اللبناني منتشراً عبر مصر في معظم البلدان العربية، وارتبطت نهضته في العقود الأولى من القرن العشرين بالمسرحيين اللبنانيين في مصر، ليبدأ الاحتراف بشكله الحديث مع المؤلف فرح أنطوان والمخرج عزيز عيد والممثل جورج أبيض.
 وفى العصر الحديث تعتبر فترة الستينيات حقبة ازدهار المسرح اللبنانى مع ما رافقه من ازدهار اقتصادي، اجتماعي وسياسي مر به لبنان. وخلال هذه الفترة تأسست 3 مسارح في لبنان: مسرح بيروت في عين المريسة، مسرح شوشو في ساحة البرج ومسرح الأشرفية.
رئة
وفي وقت لاحق، تأسس مسرح المدينة الذي لا يزال صامداً حتى اليوم، و»البيكاديللي» الذي كان مقراً لعروض الرحبانية  المسرحية والغنائية و»المسرح الكبير”. وكان اللبنانيون ينظرون الى المسرح باعتباره الرئة التي تسمح لهم  بالتنفس، بخاصة وساحة واسعة  للتعبير عن داخلهم  وعن الواقع الخارجي”.
شهدت هذه الفترة انطلاقة وتحولاً كبيراً في المسرح، وكانت المسرحيات تقدم باللغات الأربع: العربية، الفرنسية، الإنجليزية والأرمنية، وكانت البيئة اللبنانية الحاضنة للتنوع الديني، الطائفي والاجتماعي، أرضاً خصبة للإنتاج الفكري والمسرحي المتنوع والغني بثقافات شتى.
 و خلال هذه الفترة انشأت الجامعة اللبنانية  قسما لدراسة المسرح لصقل المواهب المسرحية فى كافة فروعها مثل التمثيل والاخراج والكتابة  وتخرج المئات من هذا القسم واصبح  بعضهم من الوجوه المعروفة والمواهب الصاعدة.
وفي  1975 اندلعت الحرب الأهلية في لبنان، وبدأ المسرح بالتراجع مع تزايد وتيرة الموت في بيروت التي أضحت «مدينة منكوبة”.وبدأت الفرق المسرحية اللبنانية تسعى الى عرض اعمالها خارج لبنان سواء فى العالم العربى او فى اوروبا او فى المهجر الامريكى.
  لكن الضربة الكبرى التي أصابت المسرح، كانت عقب الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة الحزينة في العام 1982، حيث دُمّرت غالبية المسارح، وكان مصيرها الإهمال لاحقاً.
وبالرغم من كل المآسي التي لحقت بالمسرح اللبناني عبر السنين، إلا أنه بقى في عيون المسرحيين وفى عيون ابناء لبنان انفسهم  عشقاً لا نهاية له كما يقول المسرحي والممثل فادي أبي سمرا.
تأثير كورونا
ومع وباء كورونا   استجدت  ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية  أصابت هذا القطاع بالشلل مع قرارات الإغلاق. وكان المسرح  أواخر القطاعات التي يسمح لها بفتح أبوابها. وجاء انفجار 4 اغسطس الدامى ليوجه ضربة جديدة الى المسرح اللبنانى.
وساعد على تفاقم المشكلة غياب دور الدولة عن تقديم اى دعم لهذا الجانب المهم من جوانب الحياة الثقافية اللبنانية .وباتت الانظار تتجه الى المجتمع المدنى فى لبنان وخارجه للقيام بهذا الدور.
ويتهم “ابى سمرا” الدولة اللبنانية بتجاهل طبعة العمل المسرحى وكون  مهنة التمثيل هي من أكثر المهن صعوبة وجهدا. وهو يتذكر كثيرا من زملائه اصيبوا بامراض من جراء العمل المسرحى وتبعاته ولم يجدوا العلاج المطلوب ورحلوا على ابواب المستشفيات  فى انتظار علاج لم يحصلوا عليه.
 وتؤمن على قوله « آية أبي حيدر» فتقول إن وباء كورونا  وانفجار بيروت ليس وحدهما  السبب في «انطفاء» شعلة المسرح، بل «إهمال هذا القطاع منذ زمن بعيد، وعدم تأمين أبسط ما يلزم من احتياجاته كمسرح وطني، لأن إيجار المسرح اليوم هو عبء على أي  فرقة مسرحية.
وكشفت آية أن العديد من المسارح الوطنية «أصبحت خارجة عن الخدمة» و»في طيّ النسيان»، كالمسرح الكبير في وسط بيروت، الذي توقفت عروضه بعد بداية الحرب الأهلية بسبع سنوات، مشيرة إلى أنه «ورغم إصرار ومجهود المسرحيين على إعادة افتتاحه عوضاً عن إقامة ذكرى تأبينية له، إلا أن المحاولات لم تنجح، وأصبح رهناً للشركات الخاصة، وحتى اليوم لا يزال مصيره الإهمال”.
واعتبرت أبي حيدر أن دور السلطة غائب من الأساس، كما أشارت إلى أن العديد من المدارس الحكومية تغيب عنها حصص التمثيل، كونها من «الكماليات»، ولا تتحمل أعباءها إلا المدارس الخاصة والمرموقة.
سر الحب
 وتمضى قائلة منذ صغري كنت أحب المسرح، فهو يجعل الممثل يعيش فى شخصية اخرى مثل فنون اخرى. لكن ما يرجح كفة المسرح ان الممثل يخرج من الشخصية فى النهاية على وقع تصفيق الجماهير فيشعر بالسعادة.    
 ويتحدث المخرج كريم دكروب، صاحب الخبرة الواسعة في مسرح العرائس والطفل  فيقول ان اللبنانى يدرك اهمية المسرح فى حياته كضرورة انسانية سواء بالنسبة له او لاطفاله. وأوضح دكروب انه اضطر لاغلاق مسرح الطفل الذى يديره  مع بدء ازمة كورونا  في لبنان لضمان سلامة الجميع، واستمر الإغلاق لثمانية أشهر، وعندما عادت الحياة مجدداً الى المسرح، عاد الناس بشغف مضاعف.
 ويعبر  دكروب عن ثقته فى مستقبل المسرح اللبنانى .وفى ذلك يقول «على غرار كل النكسات الماضية، المسرح مرادف للإبداع والابتكار، ورغم العاصفة التي نحن في خضمها الآن، بالتأكيد لا مجال للتشاؤم. سنجتاز الصعاب بالإبداع”
وأشار دكروب إلى أنه في الأزمات فإن أولى القطاعات التي تتأثر هي القطاعات الثقافية، بالرغم من أنها ليس فقط وسيلة إمتاع أو ترفيه، بل هي أساس بناء كل مجتمع وهويته، إلا أن العديد من الحكومات لا تراعي مدى أهميته، وتبقى المأساة تلاحق من اتخذ المسرح سلاحاً وحيداً يواجه به عثرات الحياة. وأضاف ان المسرح  اداة لاغنى عنها من اجل التواصل   لكونه يسمح للأفراد بالتفاعل والتشارك و»على الرغم من زعم العديد بأن عصر المسرح قد انتهى، إلا أنني أقول إنه يولد ويبعث من جديد، ويواكب كل تطور”.  واعتبر  دكروب أن جائحة كورونا قد تستمر لبضع سنوات، لكن المسرح سيتعايش مع كل جدي على غرار كل النكسات الماضية.
شوشو
ويقول انه يستمد هذا التفاؤل من واحد من ابرز المسرحيين وهو الراحل شوشو (حسن علاء الدين)، أحد أبرز المسرحيين اللبنانيين الذى رحل الى العالم الاخر فجأة بعد ازمة قلبية عن عمر لا يتجاوز 37 عاما فى 1975  بعد حوالى ستة شهور من اندلاع الحرب الاهلية فى لبنان (ابريل 1975 ).
 يتذكر دكروب كلمات قالها شوشو فى بداية الحرب الاهلية «بعد الظروف الأليمة التي مرت على لبنان تساءل البعض عن سبب استمراري في العمل على تقديم مسرحية كوميدية جديدة، وكان الجواب بأنني أملك مسرحاً يومياً، وأن المسرح للتسلية والترفيه وإضحاك الجمهور، وأن استمرار المسرح ضروري بصرف النظر عن عدد الحضور، وإلا تحوّل الى مسرح موسمي». لكن شوشو لم يعرف آنذاك أن الظروف القاسية ستستمر وتتسع.
ويعود دكروب ليقول  أنه منذ أواخر خمسينات القرن الماضي شهد لبنان أنواع المسرح كلها، العبثي منها والجاد، وظلّ متماسكاً حتى عام 1975 بفضل الدعم المادي طبعاً لينحسر بعدها الوعي الثقافي ويُوظَّف طائفياً وسياسياً، وصبّ ذلك كله في مصلحة مشهديات مشتتة وعبثية على الخشبة امتدت بالتالى الى الشاشة الفضية.
عودة الروح
ويقول الدكتور ايلى لحود المدير السابق للمركز اللبنانى للمسرح إن   لدى المسرحيين في لبنان رغبة حقيقية للنهوض بالمسرح، فهم يعتبرونه ملاذاً أو حتى «مقاومة» كي لا يسقط بلدهم في فخ الطائفية. ولابد ان تقوم الدولة فى  لبنان بدورها فى  إعادة الروح إلى هذا الفن الذي طالما احتاج دعماً مادياً ومعنوياً.
 ويقول ان هذا الدعم يجب ان يكون فى اطار خطة متكاملة تبدأ  بانشاء قاعات مسرحية. ويشير الى ان  القاهرة وحدها بها 80 قاعة مسرحية. ولا يجب الاكتفاء  بتوزيع الدعم على فرق محدودة . ويجب التركيز على اعادة الجمهور الى المسرح فى عصر يمكنه فيه مشاهدة العمل المسرحى على اقراص مدمجة او عبر الانترنت .  
ويقول الناقد والكاتب المسرحى اللبنانى عبيدو باشا انه لاينبغى فى الوقت نفسه  تحميل المسرح أكبر من طاقته، موضحاً أنه شكل تعبيري لديه قدرات محدودة وأفكار ينقلها أبطاله إلى الجمهور على ضوء قضايا محددة،  لم يحدث أن قامت ثورة بعد عرض مسرحي ما.  وهو يشبه  اصبعا  يشير إلى المشكلة وإلى المتّهم والضحيّة، لكنه في الوقت نفسه لا يهدف إلى تقديم الحلول، وليست مهمته معالجة اليوميات بل قضايا إنسانية كبرى.


ترجمة هشام عبد الرءوف