العدد 882 صدر بتاريخ 22يوليو2024
العيش في المزيج هو العيش في خشبة المسرح، مع كل ما تقدمه من وسائل مادية مفهوم محدد للأداء : بالنسبة للمتفرج قطعة من العقار يسميها لفترة من الوقت، تجريدا ماديا وأيديولوجيا للمسئولية في أحداث المسرح أو من أجلها، فهم الأداء باعتباره تقديم لخيال قابل للتكرار، ويتم تقويمه بشكل أساسي من أجل قوته العاطفية، وبالنسبة للممثل فان الشعور بخدمة النص، والتمثيل باعتباره فن الإلقاء الملائم لمنتج ذو شكل ملائم – الشخصية – يتم استحضاره من خلال عملية دقيقة تحدد التقديم العاطفي والجسدي للممثل مع محددات ذلك الوجود الخيالي، وهو ما أسماه ستانسلافسكي « الحياة في الفن» . بالطبع في أشكال المسرح الأخرى، سوف توجد تمازجات ربما تكون ممكنة . ومع ذلك فان ما يجعل الآلية الواقعية للمسرح الغربي مفيدة لفوكونية وتيرنر هي شروط إخضاع الممثل للشخصية، والواقعي للخيالي، والانتاج للاستهلاك : المحو التأسيسي الواقعي لبنية الأعراف التمثيلية التي تجعل المزج ممكنا (6).
وفي الجهود المبذولة لتحديد الجوهر الفيسيولوجي الإدراكي الذي يحفز تجربة المسرح الثقافية، فربما ليس من المستغرب أن تميل دراسات المسرح الإدراكي إلى استبعاد أو تجاهل البعد التقليدي للأداء، وتأطيره باعتباره وسيلة شفافة للعمليات الفطرية الطبيعية التي تدعمها . ويظهر هذا الاتجاه في التأطير التحليلي للعلاقة بين والممثل والشخصية والمتفرج، وهو أطار واضح بالقدر الكافي في أعمال فوكونيه وتيرنر، ولكنه مطروح بشكل أكثر الحاحا في الدراسات التي تتضمن التعاطف المستمدة بشكل فضفاض من المحاكاة المرآتية العصبية . وفي أقصى معاني علم الأعصاب، يشير التعاطف إلى حقيقة أن الخلايا العصبية للمراقب تنشط في فس مناطق المخ عندما يلاحظ نوعا معينا من الفعل الحركي، كما هو الحال عندما يؤدي الفعل : تقول بعض الدراسات ان العملية مماثلة التي تطبق على الهدف المرتبط بالفعل الحركي – من خلال نظام عصبي مختلف – ربما تترجم المشاعر المرصودة إلى نظام حركي حشوي يعبر عن نفس المشاعر . وعلى الرغم من أن هذه النبضات تعمل على مستوى اللاوعي ظ, بحيث يتم اشراكها بشكل سريع ودقيق ومباشر في في التجربة الواعية، فيبدو أن المحاكاة العصبية تلعب دورا مهما في تحريض الاستجابات العاطفية والعمليات المنطقية للتفاعل والحكم واتخاذ القرار ولا يمكن فصلها عنها . في حين أننا قد لا نعي اطلاق الخلايا العصبية المرآتية، فان عرض السلوك العدائي، أو نظرة التهديد تتم محاكاتهما لأول مرة في الخلايا العصبية المرآتية التي تبدأ النقل الكيميائي العصبي، وهي ردود فعل مثيرة يمكننا التعرف عليها : الخوف والرغبة في القتال أو الهروب، وأكثر من ذلك القرار المتعمد لصرف الغضب، وأن نكون أكثر حذرا في المرة القادمة وما إلى ذلك، هي أفعال تنبع من الاستجابة الفيسيولوجية الأولية الواعية .
هنا يعمل التعاطف إلى حد كبير كمحاكاة ما دون الوعي في دراسات المسرح الإدراكي، ومع ذلك يندمج بسرعة في فهم محدد ومألوف للأداء، وأن ما ينجح في المسرح يتشكل من خلال التماهي العاطفي الواعي بين المتفرج والشخصية . المسرح في تفسير ماكوناتشي ليس موجودا فقط لتوفير الفرص لمثل هذه الاستجابة ولكنه يفعل ذلك بطريقة مألوفة من خلال نوع السلوكيات العاطفية والجسدية المرتبطة بالواقعية المنسوبة إلى ستانسلافسكي والتي أصبحت منحرفة الآن في التدريب المسرحي الأمريكي . ففي مشهد محوري في مسرحية « الخال فانيا «، على سبيل المثال، سيقوم المخرجون الأذكياء لحجب المشهد لتعزيز مسيرة ايلينا المنهكة والآسرة عبر المسرح أثناء مغادرتها لتلبية احتياجات زوجها، وبالتالي سوف يختبر معظم المتفرجين بشكل مباشر ارهاق ايلينا وغضبها واحراجها من خلال نظامهم المرآتي العصبي وأيضا الشعور بغرورها لأنها تستمتع بتأثير جمالها على الرجال . وبالنسبة لماكوناتشي، فان امتداد التعاطف العصبي من رد الفعل اللاواعي إلى شكل التطابق الواعي يجعل عملية التعاطف تلقائية غالبا، وكما في وصف ستانسلافسكي، يمكن توجيه تعاطف المتفرج التفاعلي اللاشعوري من خلال الفعالية الواعية للممثل والمخرج . وفي نفس الوقت، فان احساس ماكوناتشي بما يفلح في المسرح يجعل ممارسات ستانسلافسكي طبيعية، ويحث على اصولها الإدراكية كمبدأ للتنظيم : ينقل احساسا معينا بالجدوى المسرحية، والنجاح الفني، والدلالة المسرحية الملائمة . ومع ذلك، فان التقنية النفسية الواعية للممثل ليست موهبة أصيلة . فتجربة المشاهد التلقائية مع تجسيد ايلينا للارهاق ( أو تجسيد الممثلة ) هو نتيجة لتقنية مطورة بثراء، وحساسية عاطفية منقولة من خلال فهم معاير للهدف المحدد بشكل مفرط في الفعل الدرامي في المسرح ( القفزات والفراغات في سطور الدور غير مقبولة ) الذي يتم تسخيره لمجموعة من الأهداف الجمالية والممارسات التفسيرية (في ضوء الظروف والأجزاء والمهم والذاكرة العاطفية والمهام الفائقة من خلال الفعل ) التي يتم نقلها من خلال تطوير القدرات النفسية والعقلية المتميزة، التي يدعمها فهم للعمل الدرامي، يتم الترويج له على نطاق واسع في الغرب باعتباره علامة على النجاح المسرحي . يويتم توجيه الاستجابة العصبية الطبيعية للمتفرج ضمنيا من خلال الصور المسرحية والوتيرة ومن خلال السجل الصوتي والايمائي للسلوك المتبنى بما يتناسب مع المسرح الآن . وتعتمد هذه العملية التلقائية على طريقة معينة للفهم والتفسير وتعزيز امكانيات خشبة المسرح .
ان تقديم المسرح وتلقيه هي أنساق زائدة عن الحاجة، والتأكيد على أن تقاليد الأداء غير مرئية، وهي السمة المميزة للواقعية المنسوبة إلى ستانسلافسكي والتي كررها كل من ماكوناتشي وفوكونيه وتيرنر، توفر وسيلة لتحقيق الاستقرار والحد من الممارسة التفسيرية المثمرة، وهي بالطبع تقصرها على الفطرة السليمة المنقولة في نماذج المسرح الواقعي وبرامج التدريب التي دعمته لما يقرب من قرن من الزمان . نظرا لأن التعاطف مع الشخصيات، بالنسبة لمعظم المتفرجين في معظم الأوقات ، هو ما ينبغي لهم ويجب أن يفعلوه، فان هذا الميل الفطري يتم اشباعه بشكل أفضل عند عرض الأداء لهذه الكيانات المتماسكة والهادفة والمألوفة . ونادرا ما تكون هناك حاجة إلى أدلة مضادة أو مزيفة، ولا يتم تطبيق أي منها لأنها لا تخطئ – التعاطف يبدأ كغريزة حيوانية، وبالتالي فان التفسير من خلال المحاكاة هو في الأساس عملية طبيعية تتحكم في كتابتنا الصعبة، اذ يمزج الجمهور عموما بين الممثل والشخصية معا في صورة واحدة ومبدأ واحد ومفهوم واحد للهوية لكي يتمكنوا من الانغماس العاطفي في الأداء – فالانغماس العاطفي هو الذي يحدد الأداء, وهو القاعدة الحديدية لما ينجح . والتفسير يولد التنظيم : كل هذا هو الفطرة السليمة للممثلين والمخرجين، ولاسيما أولئك الذين تدربوا في الولايات المتحدة الأمريكية والذين ينتمون إلى فكرة المسرح المتمحور حول العاطفة – ويمكن أن نقول مسرح رأسماله العاطفة - لاستهلاك الشخصية .
يحدث التعاطف المسرحي بيئة تقليدية، بيئة تميز سلوكياتها التأسيسية عن تلك التي تحدث خارج المسرح . فكر في الخداع المطلوب في المسرح الواقعي والتدريب على الصوت والكلام والأقنعة وأنماط الحركة الشكلية والرقص وتقسيم الشخصية بين الراوي وممثلين متعددين يلعبون نفس الشخصية ومضاعفة الأدوار والتمثيل بين نوع الجنس والسود : يتضمن التمثيل المسرحي عرضا مرئيا ومميزا للسلوك البشري والمهارة الفنية التي لا تحدث في مكان آخر، وتوفر مشهدا سلوكيا معينا لا يحدث في مكان آخر أيضا . ومع ذلك، فقد مالت المقاربات الإدراكية للمسرح إلى تأكيد الدور الشفاف للتقمص والتعاطف على حساب طرق أخرى في اعداد شخصيات الأداء . فمثلا، يشرح ماكوناتشي أن الرغبة البريختية إلى اعلاء عقلانية المتفرج على استجابته العاطفية كانت في غير محلها لأن المستوى المتواضع للانغماس العاطفي ضروري لتأكيد كل الاهتمام المنطقي في قاعة المسرح . والمطلوب بعضا من الانتباه العقلاني أيضا لجعل المشاركة العاطفية ذات معنى : والا فان الاستجابة في كثير من مصطلحات الدراسات الإدراكية سوف تقتصر على دوافع البقاء الأساسية – القتال والهروب والغذاء والتزاوج . ومع ذلك لم يتجاهل بريخت التقمص باعتباره استجابة مرحب بها في المسرح، بغض النظر عما اذا كان يخلط أحيانا بين التقمص ( الشعور بما يشعر به الآخر ) والتعاطف (الشعور بالارتياح تجاه الآخر ) . ان درس تجربة الاغتراب له علاقة غالبا باستخدام الاثارة العاطفية المباشرة لاستدعاء التحليل والحكم : فريق جاليليو العلمي يحتفل بمقاومته للتعذيب في محاكم التفتيش، على الأقل حتى تقرع الأجراس : كاثرين تقرع طبولها الانتحارية التي تنقذ المدينة ولكنها لا تغير شيئا . ان اغراء فعل الخير فظيع : اذ لا يمكننا أن نفهم أو نشارك أو نستمتع بالكامل، أو نتغير، بمنطق بريخت المسرحي، الا اذا احتفلنا أندريا بشكل غير عقلاني، ومع العلم بالكيفية التي سوف يفشل بها جاليليو، الا اذا وقعنا في اغراء جروشا . وبهذا المعنى، فان مسرح بريخت متناغم مع المنظور الإدراكي ف التفاعل مع بين (ما يسميه) التقمص واظهار الاستجابة العاطفية والمنطقية . وتسلط قراءة ماكوناتشي الخاطئة لبريخت الضوء على الذي تعمل من خلاله دراسات المسرح الإدراكي حاليا, والتبادل البلاغي بين أيديولوجية المسرح الواقعي والمسرح الإدراكي .
وفي هذا المرحلة يكتسب دور ستانسلافسكي كمنظر نفوذه الأعظم، وربما الأكثر اثارة للجدل . ان فكرة أن يعمل المسرح كنظام معرفي زائد عن الحاجة، هو النظام الذي تدعم فيه عادات وعمليات السلوك خارج المسرحية وتفسر أعمال المسرح المناسبة وتبررها ( من قبل الممثلين والمتفرجين على حد سواء ) ، تميل إلى تعزيز الشعور بالمسرح باعتباره اعادة تقديم عامة للسمات الانسانية المنقولة في الكتابة الدرامية، والتي تتجسد من خلال شكليات واقعية بالأساس، باعتبارها جمالية ذات طابع مسرحي . وكما رأينا فيم يتعلق بفوكونيه وتيرنر، فان هذه الدينامية واضحة ولاسيما في في الاعتبارات الإدراكية لفن التمثيل . ومن خلال تبني روندا بلير لرؤية مرتبطة بهذا الفكر، تقترح أن البحث الحالي في علم الأعصاب الإدراكي لا يوفر فقط رؤى جديدة في الكيفية التي ترتبط من خلالها عمليات المخ، التي هي جزء من الجسم، بالوعي ومن ثم فهي تحمل امكانية تعميق فهمنا لمناهج التمثيل، ولكنها تؤكد بالفعل على بعض على بعض المبادئ الأساسية في رؤى التمثيل ومعلميه في القرن العشرين – ولاسيما ستانسلافسكي وورثته . كيف يمكن للاعتبار الإدراكي في عمل الممثل دوره الذي طوره ستانسلافسكي في القرن الماضي أن يحدد الطبيعة (الانسانية ) للأداء المسرحي ؟
كجزء من الاستمرارية التي تضم ارفنج وأنطوان وبيلاسكو و براهام، لم يكن ستانسلافسكي المدير الوحيد الذي أزحم مسرحه في بداية القرن العشرين بأشياء ؛ حيث أثبتت ممارساته أنها كانت مبتكرة في التجسيد المتبادل لداخلية الممثل كجزء من الحدث المسرحي، وهو الأمر الذي يشير إلى الالتزام الأخلاقي بالتوضيح العاطفي الذي يميز العمل باعتباره فنا رومانسي . فالممثلون يجب أن يعلموا أنفسهم, ويبنون مخزونا من التعلم وتجارب الحياة اليومية، ولكن على خشبة المسرح، يجب أن ينسوا ما تعلموه وأن يكونوا بديهيون . وبدلا من نشر علامات الشخصية بدهاء، فان منهج ستانسلافسكي النفسي البدني يطور مفهوم حيوية الممثل العاطفية في الأداء من خلال التصميم المألوف للذاكرة العاطفية، التي تنشط التذكر العاطفي والشخصي بشكل غني للممثل واستجابته لمحفزات البيئة الدرامية والمسرحية، مع اسقاط الطابع الداخلي للشخصية، والذي يُفهم على أنه ذروة السرد التتابعي المبتكر والمعد لتعزيز قصد المؤلف غير القابل للتحقيق بشكل درامي . وفي هذا الصدد، نشأت ممارسة ستانسلافسكي ضمن الميل المحدد إلى المعقول، وهو نظام يفترض المسرح، ويضعه ضمن دراسات المسرح الإدراكي . ومع ذلك، بقدر ما يشبه نهج ستانسلافسكي المنطقي تجاه العاطفة الديناميات النفسية لمعاصره القريب سيجموند فرويد، رغم عدم توافقه معها تماما، فانه يظل متميزا بشكل مدهش عن مفاهيم النفس والعقل والعاطفة الناشئة في البحوث الإدراكية، التي توفر مع ذلك مبررا لسلطة ستانسلافسكي السائدة في دراسات المسرح الإدراكي . من هذا المنظور كان ضبط التفاعل البيولوجي بين المشاركين في المسرح هو لحظة عبقرية ستانسلافسكي التجريبية، وحدسه الواضح بأن الوعي ليس مجردا أو عملية أثيرية في عقل غير مادي، بل هي عملية الجسم الذي يساعدنا على مناقشة وسيلتنا خلال ظروف معينة في حياتنا، وبنفس الطريقة يجب على الممثل أن يشارك الشخصية في ظروف معينة بشكل واع وجسدي لتحديد مسارها خلال الشخصية .
....................................................................................
• نشرت هذه المقالة في كتاب Routledge Companion to Stanislavski الصادر عام 2013
• ويليام بيل وارزين يعمل حاليا أستاذ بكلية برنارد في جامعة برينستون وله العديد من الكتب والدراسات في مجال المسرح والدراما.