العدد 751 صدر بتاريخ 17يناير2022
لا أذكر بالضبط ، وبدون ضبط أيضا، من ذلك (الجاحد) الذي دعت له أمه واستجاب الله لدعائها بأن وفقه لهذا الاختراع الفلسفي العظيم، كما وفقه في صوغه في حكمته الخالدة: الشيطان يكمن في التفاصيل؟! بارك الله فيك يا أبو الكباتن، وجزاك عنا خيرا كثيرا .
المهم، لماذا رأيت أن أبدأ من هذا الاختراع المدهش، دون غيره، وأنا بصدد الكتابة عن العرض المسرحي “ شكسبير من السبتية” الذي قدمته فرقة صوت بلادي المسرحية الحرة، باسم الجمعية العربية للعلوم والثقافة والتنمية، على مسرح قصر ثقافة بور سعيد، من تأليف أحمد الأباصيري، إعداد و إخراج أحمد لطفي، ضمن عروض مهرجان الجمعيات الثقافية – مسرح الهواة- في دورته الثامنة عشرة؟
الإجابة هي أن العرض يعدُ من خلال فكرته العامة بإمكانية تحقيق عرض مسرحي جيد، فالفكرة لابأس بها، لم لا!
رجل محطم القلب، يعمل مؤلفا مسرحيا، عاشق متيم بشكسبير، يفقد في لحظة زوجته التي أحبها بعد زواجه منها مباشرة، فيدخل في أزمة نفسية بسبب ذلك الفقد الموجع، ما يلجئه نفسيا إلى آلية الإنكار، إنكار تلك النهاية المأساوية، والعيش بوهم أن زوجته “ أمل “ - وللاسم دلالة، توازي دلالة اسمه سيد- لاتزال حية، فيروح يستعيد علاقتهما معا فترة ما قبل الخطوبة، وبموازاة ذلك يعمل من خلال مسرحية يؤلفها ويعيش أحداثها مع شخصياتها على تغيير النهايات المأساوية لعدد من العلاقات الشكسبيرية، ليجعلها سعيدة، فيستعيد مجددا ثنائيات: كليوباترا و أنظونيو، عطيل وديدمونة، روميو وجولييت، هاملت و أوفيليا، وبعد أن ينجح في ذلك بالفعل، يخرجه شقيق زوجته من ذلك الوهم، بأن يصدمه بأن “ أمل “ لم تعد حية، وأنها ماتت منذ 15 عاما في حادث سيارة. وبعد تلقي الصدمة التي تطيح به، يستعيد ( سيد) وعيه مجددا، و يعترف بحقيقة الواقع، بل ويبشر بأن الحياة لابد أن تستمر.
جميل، أقبل ذلك بوصفه فكرة واعدة، إطارا قابلا لأن يمتلئ بالتفاصيل التي يمكنها أن تضع له قدما في وعي جمهوره، غير أن العرض بدلا من أن يشغل نفسه بسؤال الكيف: كيف يملأ هذا الإطار بالتفاصيل التي تحوله من مجرد فكرة عامة “باترون” إلى عرض مسرحي، جاذب للجمهور؟ استسهل الأمر وقام بحشو ذلك الإطار بما تطوله يداه من أي شيء و من لا شيء، نكات، إفيهات، أغان، رقص، أداء كاريكاتوري، الخ، معتقدا أن مجرد وضع الشخصيات الشكسبيرية في بيئة شعبية، مع تغيير لغة الشخصيات من جديتها الشكسبيرية إلى ابتذال لغة الحارة الشعبية، وسوقيتها، وكذلك تغيير أفعالها الجادة إلى أفعال هازلة بلا ضابط ولا رابط ، يكفل له الإضحاك، والحق أنه كان واهما في ذلك، وحدث أن خلا الإطار من المسرح ذاته! حيث تحولت الكوميديا إلى التهريج، كما تحول الممثلون إلى مهرجين، لا يقدّرون- وأولهم مخرجهم بالطبع - الكثير من المعروف من المسرح بالضرورة ، فقد انتحر الإحساس بالإيقاع، وهيمن المط والتطويل وضاع الزمن في الاستهلاك دون إنتاج زمن مسرحي درامي، ما أفرغ الفضاء من معناه المسرحي وأطلقه خارج مداره.
داخل كل هذه الكمية من الحشو التهريجي الفارغ لم يكن هناك حاجة للبلاكات الكثيرة التي استخدمها المخرج للفصل بين مشهد وآخر، بل ربما لم يكن هناك ضرورة للإظلام أصلا مع عدم وجود إيهام، وربما كان من الممكن أيضا إضاءة الصالة، باعتبار أن ما يقدم هو نوع من الإفيه وإن طال زمن إلقائه. نعم، يمكن القول إن العرض كان أشبه بالإفيه، لكنه لم يستطع أن يحكم أدائه ولم ينتبه لإيقاعه، ولم يكن بسرعة البديهة التي يتميز بها الإفيه، فضل طريقه، و- للأسف- لم يضحك أحد.
ما أقسى أن يعبد الإنسان إلها زائفا، دون أن يدرك ذلك قبل فوات الأوان. وفي ظني لم يدخر صناع العمل جهدا، بل وجهدا مخلصا في سبيل تقديم فكرتهم الواعدة ، ولكنهم – في تقديري – لم يكتشفوا قبل فوات الأوان أن ما أخلصوا له من أداء كان إلها زائفا، أضلهم كثيرا ولم يصل بهم إلى تحقيق فرجة مسرحية تكافئ ما ضحوا به من أجله من موهبة.
وفاء عبد الله ، وليد عصام ، شيماء عصام ، ناهد احمد، نبيل محمد ، علا زكريا، يوسف الحداد، سارة الفحار ، سراج محمود ، مصطفى جابر، عمرو أمين .. مجموعة من الممثلين الجيدين، الذين لا تنقصهم الموهبة، بل ويتفوقون على كثيرين في حجم موهبتهم، ولكن من قال إن الممثل الجيد لابد ان ينجح في كل ما يقدمه من عروض. النجاح يلزمه أولا أن تستثمر المواهب التمثيلية في أدوار تبرز هذه المواهب، وتجعلها حية في وعي الجمهور، ووجدانه، وهو ما لم يتحقق في هذا العرض الذي حولهم – وعذرا في ذلك – إلى مجرد حشو وأدوات لتعبئة زمن ما، خارج الزمن المسرحي بشروطه القاسية، وإيقاعه المحسوب بالنبضة.
الاكتفاء بوضع ستارة بيضاء في خلفية خشبة المسرح، والاشتغال عليها لونيا بالإضاءة وفقا للتأثير المطلوب، وخلو خشبة المسرح من أية قطع ديكورية ماعدا سرير (سيد) فكرة جيدة ومناسبة جدا لحضور متوهم أو متخيل، غير واقعي ينتجه ذهن ( سيد/ المؤلف ) ويلقيه على الخشبة. تلك فكرة جيدة قدمها مي الرزاقي و أحمد أمين، ثم خانتها التفاصيل أيضا.
هل يمكن أن نستهدي بفكرة الشيطان الذي يكمن في التفاصيل هذه، في إعادة النظر في بعض الأفكار المستقرة التي تتصل بالمسرح، ومنها فكرة المسرح الذي يستحق هذا الاسم – بالضرورة - إذا ما توافرت له العناصر الثلاثة المشهورة ( ممثل وخشبة وجمهور) هل يمكن أن تتوفر العناصر الثلاثة دون أن نعتبر ذلك مسرحا بالضرورة؟ هل يمكن مثلا أن يبنى فضاء خشبة المسرح بناء سيمتريا، متوازنا، دون أن يتسبب ذلك في الملل بالضرورة.. هل يمكن؟