المسرح التجريبي والجمهور.. علاقة جدلية

المسرح التجريبي والجمهور..    علاقة جدلية

العدد 822 صدر بتاريخ 29مايو2023

علاقة المسرح بالجمهور علاقة قديمة قِدم هذا الفن العريق، فالمسرح هو فن المشاهدة الأول، منذ نشأته في الحضارة اليونانية، وقد حاول صناع المسرح على مر العصور البحث عن صيغ متنوعة للتقريب ما بين العرض المسرحي والجمهور، وما محاولات التجريب المتنوعة إلا محاولات للتقريب ما بين الطرفين.
وصانع المسرح الذكي هو القادر على تجسير الهوة ما بين الخشبة والمشاهدين، وهذا لن يتم إلا بوجود دراسة معمقة حول هوية هذا الجمهور، تقول “هيلين فريشواتر”: «من المهم أن نتذكر أن كل جمهور مكون من الأفراد الذين يحضرون نقاطهم المرجعية الثقافية، ومعتقداتهم السياسية، وميولهم الجنسية، وتاريخهم الشخصي، وانشغالاتهم الفورية عند تفسيرهم للعرض”.(1)
صانع المسرح الذكي لا بُدّ له من دراسة المكان الذي يقدم فيه العرض المسرحي، فعليه أن يختار ما يناسب طبيعة المكان، وكذلك عليه أن يراعي طبيعة الجمهور، وعاداته وتقاليده، واهتماماته، ونظرة سريعة إلى ما يحدث في بعض المهرجانات المسرحية العالمية، سنجد أن بعض هذه المهرجانات وأماكن العروض الفنية تبذل الآن جهودا استثنائية لمعرفة المزيد عن تفضيلات وأنماط حياة جماهيرهم.
وأصبحت كثير من دراسات المسرح والأداء تؤكد على فكرة ضرورة المشاركة مع الجمهور، ولعل الصيحة التي أطلقها الفنان الفرنسي “جان جاك لابل” عام  1968م، التي دعا فيها إلى التقارب بين المسرح والجمهور، والتي يقول فيها :”لا لمسرح أو مشاهد باهظة الثمن من أجل جمهور سلبي من المستهلكين - ولكن مؤسسة جماعية حقا في البحوث السياسية والفنية، ويجري التجريب على نوع جديد من العلاقة بين منفذيها والمتفرجين”.(2)
هذه الصيحة كانت ضمن صيحات متعددة، كانت بداية لفكرة التجريب المسرحي في الغرب، الذي كان “ثورة وخروجا على المؤسسات ونزوعا دائما إلى ربط الفن بالحياة”(3).
والمسرح التجريبي هو المسرح الأكثر جذبا للجمهور، لأنه يقوم على عناصر مهمة منها الإدهاش، وكسر حاجز التوقع، والفعل الجماعي، من خلال التفاعلية المتنامية أثناء العرض، فكل عنصر من عناصر العمل المسرحي يحس بذاته وبأهميته وبأن له دور فاعل في العملية المسرحية.  
وقد ارتبط التجريب في المسرح العربي، بالحالة الثورية، فوجدنا تزايد الفعل التجريبي المسرحي في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فظل التجريب مرتبطا بالفعل السياسي، مناصرا له وليس في خدمته، ففي الحالة الثورية يتعاظم إحساس الإنسان بذاته خاصة إذا  اندرجت في فعل جماعي هدفه التغيير والإصلاح، وهنا لا يخرج الفن عن رسالته الجمالية؛ بل تضاف إليه رسالة اجتماعية مهمة.
من هنا، كان الجمهور رقما صعبا في معادلة التجريب في المسرح العربي، على مدار ثلاثين عاما، هي عمر ازدهار الحقبة التجريبية في هذا المسرح.
« إن التجريب (كفعل التجريب بوجه عام) لا يمكن أن يتأصل في بلد بينه وبين عتبات الديمقراطية أشواط بعيدة. ولا يمكن أن يوجد على سبيل الحقيقة لا المجاز في قطر لا يسمح للمرأة بالصعود إلى خشبة المسرح. ولا يزدهر في دولة لا تسمح مؤسساتها بوضع المسلمات موضع المساءلة (...) ولا في ظل سلطة سياسية لا تعرف سوى معنى الإجماع، ولا تحت هيمنة طائفة دينية تنفى حق غيرها من الطوائف في الوجود أو الاختلاف عنها في التأويل. ولا يصل فعل التجريب إلى درجة الحضور في ثقافة تفزع من الآخر وتتعود فيها الذات النظر إلى المغاير نظرة الريبة، كأنها تختزل الموقف المتعصب للقطر المنغلق على نفسه، ذلك الذي ينظر إلى الأقطار المختلفة نظرة التوجس المستريب، ولن يصل فعل التجريب إلى حده الأدنى في المجتمع الذي يقمع فيه النقل نقيضه العقل، أو تكون السيادة للتقليد على الاجتهاد، والاتباع على الإبداع، والتعصب على التسامح، والتمايز على المساواة، والتصديق على المساءلة، والإجابة المطلقة على السؤال المفتوح” (4).
فالتجريب ينطلق من خلال الوعي المتمرد ذي الرؤية النسبية الذي لا يعترف بالمطلقات والمسلمات، بل ينطلق نحو هدف محدد وهو المساهمة في صنع ثقافة وطنية وهوية خاصة تقوم على أسس من الحرية والعدل والمساواة، وكذلك قيامه على شرط الإبداع لا الاتباع.
ولذلك ظهرت تشكيلات جمالية اعتمدت على مفردات المكان والبيئة كعناصر جاذبة للجمهور، فوجدنا نجاحا ملحوظا لمسرح الاحتفالية، كما عند الطيب صديقي في المغرب، وصالح سعد من خلال “فرقة السرادق” في مصر، وكذلك ما يُسمى بمسرح الجرن كما في تجربة المخرج المصري أحمد إسماعيل.
وهذا المنظور المسرحي يتكئ بشكل أساسي على فكرة “المعمار المسرحي الشعبي” باعتماده على “الساحة الشعبية»، في الأسواق والأجران والموالد والميادين العامة، هنا يضمن الصانع المسرحي تفاعل الحضور، حيث نرى المؤدين، الذين تم تدريبهم لا تنتظمهم حركة الزمن الوهمية في القصص المعروضة، بل يقفون خارجها في واقع المكان والحضور، بل إنهم في كثير من المشاهد يتمردون على أدوارهم المرسومة مقدما، ليقدموا مع الجمهور منظورا نقديا مغايرا.
ونظرا للطبيعة المغايرة للمكان في الوطن العربي بما له من خصوصية طبوغرافية محملة بميراث تاريخي وحضاري، فإن ذكاء المخرج التجريبي من المفترض أن يلعب على هذا العنصر المحوري في إيجاد صيغة مسرحية تجريبية.
ولعل هذا ما ألمح إليه الفنان التونسي عز الدين مدني حين قال: “أصالتنا العربية فيها الأماكن المشعة والأماكن المنيرة، غير مناطق الأصالة التي هي بمعنى التأخر... الأصالة التي أعنيها هي أن يعيش الإنسان في صلب عصره، مندمجا فيه كل الاندماج”.(5)
يقول المخرج هناء عبدالفتاح: الأزمة الحقيقية لجيلنا أنه واجه قدره المحتوم، وهو «الموت” منذ أن بدأ، فهو من ناحية وقف ضده بالمرصاد مسرح يعتمد على الكلمة فقط، حيث توظف مفردات العرض المسرحية لخدمته، مغفلا كل الإنجازات الأخرى في ميدان التشكيل للرؤية البصرية لفضاء خشبة المسرح، ولإنجازات ميدان سينوغرافية العرض المسرحي (التشكيل لجسد الإنسان وللإيماء) وأسلوب الأداء الصوتي الجديد الذي لا يعتمد على الصياح أو الصراخ أو الإعلان، وإنما يصل من خلال الهمس والخفوت، واحترام لحظات الصمت التي تنطق .فالمسرح الذي غدا ظاهرة شائعة هو مسرح “ثرثار” سيعيد أطر مسرح العلبة الإيطالية، أو المسرح التقليدي في الشكل والمحتوى” (6).
لم يعتمد التجريب المسرحي العربي على شكل المسرح المحترف، ربما باستثناء المخرجين الذين قاموا بإخراج المسرحيات التجريبية، فمعظمهم دارس المسرح بشكل أكاديمي، لكن الممثلين، معظمهم غير محترف/ هواة، بل إن بعضهم لم ينل قسطا من التعليم كما حدث مع أبطال “فرقة دنشواي” التي أسسها هناء عبدالفتاح في قرية دنشواي بالمنوفية، فكلهم من فلاحي القرية، وكذلك كثير من ممثلي فرقة “شبرا بخوم” التي أسسها المخرج أحمد إسماعيل في إحدى قرى المنوفية والتي تحمل نفس الاسم.
وكذلك معظم ممثلي فرقة “تعاونيات وهران” التي أسسها المخرج الجزائري الراحل عبدالقادر علولة.

الهوامش:
هيلين فريشواتر: المسرح والجمهور-  ترجمة أريج إبراهيم - المركز القومي للترجمة-  الطبعة الأولى  2015م-  ص22 .
هيلين فريشواتر: المسرح والجمهور-  ترجمة أريج إبراهيم-  المركز القومي للترجمة-  الطبعة الأولى  2015م-  ص81.
د. نهاد صليحة: عن التجريب سألوني-  الهيئة المصرية العامة للكتاب- 2015م-  ص19.
د. محمود نسيم: فجوة الحداثة: أكاديمية الفنون-  القاهرة - 2004  ص16.
عز الدين مدني: مجلة الدوحة-  قطر-  أغسطس 1986م.
 هناء عبدالفتاح: مجلة فصول-  الهيئة المصرية العامة للكتاب-  مارس- 1996م.


عيد عبد الحليم