عودة بديعة!!

عودة بديعة!!

العدد 861 صدر بتاريخ 26فبراير2024

تأكد الريحاني أن فرقته لا تستطيع الاستمرار في عروضها معتمدة على الأجنبيات من ممثلات أو راقصات.. كما أن «أمينة محمد» لم تنجح في أن تكون بطلة الفرقة، مما يعني ألا نجاح لفرقة الريحاني بدون «بديعة مصابني»، التي افتتحت صالة غنائية استعراضية باسمها في شارع عماد الدين، فهل ستترك بديعة صالتها وتعود إلى الريحاني وفرقته، رغم انفصالها عن زوجها نجيب؟! هذا ما سعى إليه الريحاني، ولكنه سعى أولاً في رجوع بديعة بوصفها زوجة، وهذا الرجوع الأولي سيمهد الطريق إلى رجوعها بوصفها بطلة للفرقة!! هذا التخطيط بدأه الريحاني بكتابة خطاب غرامي إلى بديعة، قامت مجلة «المستقبل» بنشره في يوليو 1928 تحت عنوان «من الأستاذ نجيب الريحاني إلى السيدة بديعة مصابني»، قال فيه:
زوجتي العزيزة: ما زالت رسالتك بين يدي، أردد عباراتها كل لحظة، سواء في اليقظة أو المنام، حتى لقد حفظتها والله عن ظهر قلب أعيدها وأرددها طرداً وعكساً، وما أزيد كل يوم إلا ولوعاً بها وترديداً لكلماتها المفعمة بالمحبة الصادقة الصادرة عن قلب زوجة وفيّة مخلصة، عبث بها القدر الساخر الغشوم، فأبعدها عن أحضان الزوجية الطاهرة!؟ وما زال شخصك العزيز المحبوب ماثلاً أمام عيني في كل لحظة ومكان منذ عصفت بنا ريح الخصام ففرقت بين جسدينا، بينما روحي وروحك ما زالتا متعانقين متآلفين. تتشاكيان وتتناجيان.. ومتى كانت الأرواح يا عزيزتي تتقيد بالجسد؟ قرأت رسالتك، وأقسم لك بحبك الذي يملأ جوانحي وينبض به قلبي يا بديعتي المحبوبة إلى الأبد، ولست أدري لم ضعفت أمام كلماتها فاعترتني هزة عنيفة – ضاقت بي الأرض على أثرها واسودت الحياة أمامي، وعدت لأرى قبس ضوء لأمل ينبعث من غير باب «صالتك»، وتتابعت زفراتي الحارة فخشيت العيون وسارعت إلى غرفتي الموحشة، أنثر الدموع الحارة دموع محبتي وحنيني إلى الماضي الهنيئ السعيد، وأنا أستعرض أمامي تلك الأيام الرغدة التي نعمنا فيها بالهناء الزوجي، وما كنا لنحلم باستبداد القدر، ولكنا نظن أننا نستيقظ من ذلك الحلم الشهي الرائع! ألف لعنة أصبها من أعماق قلبي على وسطاء السوء، فقد أوقعوا الخديعة بيننا، وعرفوا كيف يدسون لنا، وكأنه أحرقهم أن يروا السعادة تغمرنا من قمة رأسينا إلى أخمص قدمينا. حتى هبت العاصفة، وكان من أمرنا ما كان فطبلوا وزمروا، وهل أرادوا غير ذلك؟ ما لنا ولهذا الآن، لقد انتهى كل شيء، وما فات مات كما تقولين. وها أنا أساعدك في إسدال الستار على الماضي بما حوى من آلام وأحزان وفواجع!! لم يكن ضعفك أكثر من ضعفي في لحظة ما، وها أنا أعرض صفحة من جبني بل هو الخجل قاطعه الله كما تقولين. طالعت رسالتك، وجلس إليّ صديقان عزيزان في اليوم الثاني، على إحدى مقاهي عماد الدين، وهل عندنا غير رسالتك، بدأ أحدهما مطالعتها كما طلبت إليه. فهو شاعر وأديب وممثل عواطف، يعرف كيف يرسل لحنها إلى قرارة النفس وأعماق القلب. وبدأت أستمع إليه. وكان الليل قد انتصف، أوه أي لحن سماوي ما كان ليشجي نفسي شجوها تلك اللحظة، وفجأة رأيناك.. أنت بذاتك تمرين أمامنا لتزيدي الموقف رهبة وجلالاً، وانتهينا من سماعها وعصفت بي عواصف متضاربة من شتى العواطف وطلبا هما إليّ أن يستصحباني إلى «صالتك».. غريبان يطلبان إليّ أن ألقى زوجتي وشريكة حياتي.. لكم هذا مخجل، بل وأية حسرة وألم ووخذ ضمير، كادت تحكم كبريائي وتهدم رجولتي، رأيت الإذعان يا بديعة، لا ترفعاً ولا إباء، لا والله وإنما عن خجل وحنين لا غير.. أنا أشد الناس معرفة لحقيقة نفسيتك، وأعرف الناس لقيمة تلك الكلمات التي ملأت بها رسالتك.. ولكن.. آه ليت هذه «اللاكن»، لم تخلق، فهي التي أقعدتني عن طرق بابك كما طلبت إليّ.. إن ما بي أضعاف أضعاف ما بك يا بديعة، ويعلم الله كم كنت أتوارى وراء نافذة مسرحي لأسعد نفسي، وأطفئ بعض نار شوقي إليك، برؤيتك تمرين مسرعة في سيارتك على أبواب مسرحي.. كنت خارجاً ذات يوم من البروفة عند السادسة مساء. وشاهدتك عن كثب تديرين محرك سيارتك، فتنازعتني عوامل متضاربة ولست أدري ما قام بنفسي، هل أعترض طريقك وألقي بنفسي تحت عجلات سيارتك، أم أوقف سيارتك وأسألك إلى أين أنت ذاهبة دون علمي.. ألست زوجتي، وألست زوجك ومن واجبي أن أعرف كل دخائلك وتصرفاتك؟ واستيقظت من هذا الحلم، بل أفقت من هذه النوبة الجنونية، إثر مرور سيارتك أمامي، وأنت تقودينها في سرعة متناهية، كأنك تحسين بما يدور بخاطري! أتذكرين كيف تحرك رأسك الصغير، ومال أمامي في انحناء بطيء وقد توردت وجنتاك. كأن ذلك الرأس الذي طالما ضممته إلى صدري وعبثت يدي بشعره الغزير الطويل، وطبع فمي عليه قبلات الحب الصادقة الطاهرة، أبى إلا أن يقرأ التحية الصامتة. رغم ما بيننا!! أوه يا بديعة.. ماذا عساني أكتب وماذا عساني أقول. ولو أني سخرت القلم لكتابة ما أريد أن أحدثك عنه لما كفتني مجلدات العالم وأوراقه كلها، ولنضب المداد ولو كان محيطاً، قبل أن أذكر لك شيئاً.. ولكن إن هي إلا كلمة واحدة أردت أن أرسلها إليك اليوم على جناح البريد. لتصلك وأنت في مصيفك الهادئ الجميل، أعترف لك فيها بأني أشعر بأضعاف ما تشعرين به من لوعة هذا الفراق القاسي المؤلم. مقسماً لك بحبك العميق. أن قلبي لم ينبض بحب أية امرأة منذ هجرتك. وإنما هو تخبط كما تقولين كنت أسعى به إلى تضليل نفسي والعبث والاستهتار بعواطفي.. ولكن أنى لهذا العبث الجنوني أن ينسيني بديعتي التي أقمت لها بين ضلوعي محراباً مقدساً أحرق فيه دمي بخوراً لحبها. ولم لا أعترف لك بالحق. ألم تعترفي أنت بكل شيء؟ خرجت ذات مساء بعد انتهاء عملي وكانت قد مرت أربعة أيام على رسالتك. لا أدري كيف انقضت لحظاتها الطويلة المريرة. واعتزمت أن أكون شجاعاً. في خطوات متثاقلة سرت نحو «صالتك» وأنا أقول في نفسي. سأدخل كما يدخل كل شخص. وسأدفع الأجر حتى ولو مانع صديقي العزيز أنطوان في قبوله. وبعدها أدخل بقدم ثابتة. وأجلس في المقدمة: لا شك ستريني أنت، وأنت إلهة الذوق والأدب، فستحضرين ساعتها بكل جرأة وشجاعة وتحييني ولو في شيء من الخجل. أعترف أنها ستكون لحظة رهيبة.. ولكنك ستنقذين الموقف بابتسامتك العذبة وستصفق يداك فيحضر الجارسون وتطلبين زجاجة من الشمبانيا ويشاهدنا الأصدقاء فيلتفون حولنا مهنئين ضاحكين وقد ملأهم السرور والفرح بصلحنا.. وستشدو مطربة الليلة أعذب ألحانها.. وسيبدو في الصالة نور ساطع الضياء هو النور الذي بدد ظلمة الماضي وأعاد لحياتنا روح السعادة التي فقدناها شهوراً طوالاً.. ذقنا فيها مرارة الكبرياء وألم الفراق. أوه.. ما أشهى ذلك الحلم الهنيء. سرت متباطئاً ولكن في خطوات متزنة ثابتة.. وقد استجمعت كل شجاعتي لتنفيذ هذه الفكرة وتجاوزت مسرح برنتانيا ثم مسرح ماجستيك ثم بدأت خطواتي تتثاقل.. ولم أكد أصل باب منزلك حتى اعترت قدمي رعشة شديدة جعلتهما لا تقويان على احتمالي. وتناثرت الدموع من عيني.. واستندت لحظة إلى الحائط.. وأنا أهتف باسمك.. وأردد عبارات رسالتك.. وأقول ترى أين هي الآن لتحضر إليّ وتكفيني مؤونة هذه العذابات النفسية والآلام القاتلة؟ وتراجعت كما يتراجع الجندي الجبان مدحوراً ساقط الهمة منهار الأمل، محطم الرجاء. وهناك في بار ليسكا ارتميت على أحد المقاعد مخذولاً محطماً.. وظننت أن الخمر تخفف ما بي من حزن وشجن.. ولكنها كانت تزيد ناري اضطراماً وشقائي شقاء. أوه يا بديعة.. تسائليني أي ليلة نمتها دون أن أستعرض أمامي الماضي وأهتف باسمك وأحنو إلى ذكريات تلك الليالي السعيدة.. ليلة! ولا ساعة يا بديعة بل ولا لحظة واحدة مرت عليّ منذ افترقنا.. ولم يكن طيفك ملاذي في كل روحاتي وغدواتي ونومي ويقظتي.. حتى على المسرح وأنا أضحك الجماهير.. أذكر وقفاتك بقربي أذكر رشاقتك أذكر بهاء حسنك وجمالك وأذكر تاج النصر الذي كان الجمهور يتوج به هامتك في كل مساء. وهل يمكن أن أنسى شيئاً من الماضي؟ بديعة.. أسائلك بالماضي.. أسائلك بكل عزيز لديك، أسائلك بحياة جوليت وأنطوان اللذين تحبينهما من أعماق قلبك ألست تشعرين بالحنين إلى الصلح.. ألست تتمنين أن ننسى الماضي ونعود إلى حياتنا الزوجية الهانئة ننعم بشهدها وحلوها.. قولي تكلمي.. أنا واثق أنك مثلي تتحرقين إلى لقياي ومصافحتي فما لنا إذاً نجبن.. ونظل هكذا نحترق في هذا الأتون. بعد أيام أصل الثغر وقد سبقتيني إليه، وها أنا أحصي اللحظات التي أركب القطار بعدها ميمماً وجهي شطر كعبتي المقدسة. وسيكون في القطار حين تبدأ رياح الإسكندرية تهب باردة على أوجه المسافرين، عبر أنفاسك الحارة الطاهرة. أنت تقدمت الخطوة الأولى كما تقولين. وها أنا سأقطع إليك آلاف الخطوات. فهل أجد عندك الشجاعة لتتقدمي خطوة واحدة أخرى؟ أنت زوجتي سبقتيني إلى المصيف لتعدي للعائلة مكاناً هادئاً هنيئاً، واضطرتني أعمال أنا الزوج إلى التأخر عنكم بضعة أيام .. بلا تردد ولا تفكير في أي اعتبار تعالي أنت وعزيزتي جوليت وصديقي أنطوان لمقابلتي على رصيف سيدي جابر فسأقوم من مصر في قطار الظهر من يوم السبت 14 الجاري فنتصافح ونتبادل قبلات اللقاء وعندها ينتهي كل شيء. لا تترددي يا بديعة.. لحظة شجاعة بعدها تصبحين بين أحضان زوجك المخلص. [توقيع] نجيب!!
وبعد أيام قليلة نشرت المجلة نفسها خبراً عنوانه «بدوعة وكشاكيشو يعودان إلى أحضان الزوجية»، قالت فيه: في يوم الخميس 26 يوليو سنة 1928 التقى الأستاذ نجيب الريحاني والسيدة بديعة مصابني وجهاً لوجه لأول مرة بعد فراق دام سنتين ونصف! وفي لحظة واحدة أسدلا الستار على الماضي بكل ما حوى من فواجع دامية ومآس جارحة، وعادا إلى عش الزوجية!!
بعد شهرين بدأ العروسان الاستعداد للموسم الجديد، فقامت مجلة «المصور» - عن طريق صحفي يوقع باسم «محدث» - بإجراء حوار مع الريحاني في مكتب بديعة بصالتها في عماد الدين، وسأله عن استعداده للموسم القادم لا سيما بعد عودة الوفاق بينه وبين بديعة، فقال: لقد كانت خطتي منذ اليوم الذي كونت فيه أول فرقة حملت اسمي أن أقوم بتأسيس «المسرح المحلي» وأجعل من الروايات المصرية المؤلفة دعامة يرتكز عليها لاعتقادي أن أكبر خدمة تؤدى للتمثيل وللشعب معاً هي إيجاد ذلك المسرح وتكوينه. ولو تمكنا من ذلك لعثرنا على مفتاح النجاح! خذ مثلاً لذلك: أن كل الفرق المصرية تعتمد في تغذية جمهورها على منتخبات قرائح الكُتّاب الغربيين ولا أشك أنهم يبذلون مجهوداً عظيماً في إخراج هذه الروايات. ولكن ما رأيك في أنه مجهود ضائع لأن الكاتب الأجنبي إنما يتأثر في كتابته بالوسط الذي يعيش فيه والحوادث التي تتكرر أمام نظره، مما يتباين كل التباين مع أخلاقنا وعاداتنا، لهذا لم نر نجاحاً يذكر لتلك المؤلفات. ولعمري أن الشعب ليبتهج وينشرح صدره إذا أخرجت الفرقة أربع روايات مصرية كل عام بدلاً من أن تتخمه بأربع أفرنجية في كل شهر.
ثم طرح الصحفي سؤالاً، كشفت الإجابة عليه مفاجأة تاريخية مجهولة، وهي أن الموسيقار «محمد عبد الوهاب» كان يوماً ما سيصبح شريكاً للريحاني في تقديم العروض الأوبرالية، بحيث يعمل الريحاني شهراً، ثم يقدم عبد الوهاب عروضه شهراً وبالفرقة نفسها وهكذا بالتناوب!! أما السؤال فهذا نصه: هل من تعديل جديد في الأنواع التي ستظهرها وفي الطريقة التي ستتقدم بها؟ أجاب الريحاني: لقد مضت مدة طويلة لم ير الشعب فيها شيئاً من الروايات الاستعراضية «ريفيو» لذلك عولت على السير في ذلك النوع مضافاً إليه روايات «الأوبريت» و«الأوبرا كوميك». وقد تم الاتفاق بيني وبين الأستاذ المطرب الشاب «محمد عبد الوهاب» على أن يتناوب كل منّا القيام بالعمل شهرياً! بمعنى أن أقوم بتمثيل رواياتي مدة شهر وبعد تماماً يتسلم زمام العمل الأستاذ عبد الوهاب وبنفس الفرقة فيعرض إحدى «الأوبرات» الضخمة! ثم سأله الصحفي: هل تشترك السيدة بديعة في روايات الأوبرا؟ فأجاب نجيب قائلاً: كلا إنها ستكون عضدي في رواياتي وسيشارك الأستاذ محمد عبد الوهاب في رواياته إحدى اثنتين - الآنسة «علية فوزي» أو الآنسة «نجاة» - وهي فتاة ما تزال في مقتبل حياتها الفنية. ثم سأله: وبأي الروايات تفتتح موسمك؟ قال: برواية شرقية ممتعة سميناها «ياسمينة» وضعتها بالاشتراك مع الأستاذ بديع خيري على نمط حوادث ألف ليلة، وسأشترك فيها والسيدة بديعة التي تعتبر بحق بطلة النوع الذي سنمثله. أما ملحن رواياتي فهو الأستاذ النابه الشيخ «زكريا أحمد» وإن علو كعبه في هذا الفن لضمين بأن ينتظر الشعب منه في الموسم المقبل مفاجآت طريفة. أما الأستاذ محمد عبد الوهاب فإنه سيقوم بتلحين رواياته بنفسه وسيبدأ برواية «توسكا» الشهيرة.
وهنا حضرت بديعة الحوار فقال لها الصحفي: لقد سر عشاق المسرح بخبر عقد معاهدة الصلح التي أبرمت بينك وبين زوجك الأستاذ نجيب الريحاني، وكلهم يأملون أن يكون موسماً بديعاً ذلك الذي ستفتتحانه ويشتاقون إلى ما حرموا منه في الموسم الماضي من خفة الروح التي امتزت بها على المسرح وإيجاد الحرارة والحيوية في الروايات التي تشتركين فيها. ولكن ماذا يكون مستقبل صالة بديعة؟ فقالت: أولاً أخجلت تواضعي.. وثانياً ستبقى الصالة كما كانت من قبل وسأفتتحها في العشرين من الشهر الحالي وهي محتفظة بمطرباتها المعروفات «فتحية أحمد وفاطمة سري وسمحة بغدادي» وخلافهن ممن يتشوق الجمهور لسماعهن، وسأبذل جهدي في إيجاد كل ما من شأنه رفع مقام الصالة وإبقاء ثقة الشعب بها. وسأشرف على إدارتها عن كثب.


سيد علي إسماعيل