فينومينولوجيا المسرح (2-2)

 فينومينولوجيا المسرح    (2-2)

العدد 643 صدر بتاريخ 23ديسمبر2019

وهناك الكثير من المفاهيم التي استخلصتها من (هوسرل). أما بالنسبة لمقارنة بقية حجة (هوسرل) في كتاب “تقديرات كبيرة”، فسوف يتضح للقارئ على الفور أن (ستاتس) ليس لديه حجج تجاه أي شيء مثل الموضوعية العلمية التي طمحت إليها الفينومينولوجية الألمانية؛ فلم يتخذ، إن جاز التعبير، موقفا عنيدا من الفلاسفة، موقفا ربما كان عادلا أيضا، لأن ادعاء الفينومينولوجيا للموضوعية العلمية لا يثير أي إشكالية: فـ(جان بول سارتر) مثلا يحتج بلا شك بأن هذه مغامرة دون كيشوتية في أنها تحاول تعيين غير القابل للتعيين. ففي الرؤية الوجودية، «الوجود Being» هو حالة صيرورة دائمة؛ وبالتالي لا توجد ذات ثابتة تعايش، بل فقط تدفق للتجربة نفسها. ورغم ذلك، لم يدعِ (ستاتس) تقديم أي شيء أكثر موضوعية من مناقشة تجاربه الخاصة باعتبارها تمثيلا لعلاقة كل إنسان بخشبة المسرح، وبالتالي يتجنب هذا المأزق – سواء بالدهاء أو الحياء.
وقد يجعلنا مفهوم (هوسرل) للقصدية نلقي نظرة على بعض فقرات كتاب «اعتبارات كببرة» من أجل تجارب مثل «الصدمة المتفق عليها مسبقا preconventional shock» التي لا تجعل (ستاتس) يضع ذخيرة كبيرة تبدو متعمدة بالمعنى العادي للكلمة – بمعنى أنها مقصودة. ومن خلال القراءة عن كثب، من الواضح أن استخدام (هوسرل) للكلمة هو للإشارة إلى توجه الوعي نحو شيء له علاقة أقل بالإرادة أكثر مما يعتقد أنه ملاحظة لشيء ما – وهو مفهوم لا يتعارض مع أفكار (ستاتس).
قد تكمن أهم نقطة في التزامن بين (ستاتس) و(هوسرل) في افتراضهما بأن الفعل الواعي قد يقال إن له وجود مستقل في التفسير (ويمكن أن نضيف، الافتراض المتمم بأن هذه الحقيقة لها أهمية). نقطة الاختلاف بين الرجلين هي ببساطة أن (هوسرل) لا يناقش المسرح، أو بالطبع يغامر بشكل كبير في مجال علم الجمال مطلقا، ومن جانبه لا يتعمق (ستاتس) كثيرا في ظاهراتية الوعي.
وإذا كان لنا أن نفرض سؤال إلى أي مدى يمكن تبرير تأكيدات (ستاتس) بقدر ما توفر الفنيومينولوجيا نوعا من النص الفرعي؟ فمن الضروري أن نتجاوز (هوسرل) للاستفادة من أعمال أتباعه في هذا المجال. ولأغراضنا الحالية، فإن أهم مقولة في الموضوع هي مقولة (مايكل دوفرين Mikel Dufrenne) في كتابه «فينومينولوجيا التجربة الجمالية Phenomenology of the Aesthetic Experience».
يقيم (دوفرين) حجته على تمييز مستنتج بعناية بين «العمل الفني the work of art» و«الموضوع الجمالي Aesthetic object»:
 العمل الفني هو الأساس البنيوي السابق على الموضوع الجمالي. وله وجود ثابت لا يعتمد على كونه متمرسا، بينما الموضوع الجمالي لا يوجد إلا كمظهر، أعني باعتباره متمرسا بواسطة المتلقي. وكما هو متصور جماليا، رغم ذلك، يصبح العمل الفني موضوعا جماليا. ويكتسب بعدا جماليا أو محسوسا يفتقده كعمل فني. وهذا التحول مشروط بمعنى أنه يعتمد على فعل إدراك بعينه، ولكنه غير مشروط بقدر ما هو غاية وحقيقة ودعوة للعمل الفني الموجود في التجربة الجمالية.
وهذا يتوازى مع التمييز الذي يقيمه (ستاتس) بين المسرح كموضوع سيميوطيقي وموضوع فينومينولوجي. فالأداء المسرحي باعتباره موضوعا سيميوطيقيا (دلاليا) يمكن أن يُفهم على أنه يحتوي على مقدار ثابت من العلامات المحتملة، سواء تم التعرف عليها بواسطة متلقٍ بعينه من عدمه. وباعتباره موضوعا فينومينولوجيا، فمن الممكن تمييز أداء مسرحي بعينه بقدر ما تتم معايشته فقط. والفرق بين تناول (ستاتس) وتناول (دوفرين) هو أنه بينما يعاني (دوفرين) في توضيح أن الموضوع الجمالي يضم كل من الحسي البارز، يجاهد (ستاتس) لتأكيد المسافة بين تحليله وتحليل السيميوطيقيين، وينظر إلى البارز ولكنه يتيح معالجة خاصة للصور الحسية في التجربة المسرحية.
ويبدو من الإنصاف عند هذه النقطة أن نطالب صراحة بفائدة مقاربة الفن بشكل فينومينولوجي. وما الذي سوف نكسبه من هذا المنهج والمفقود في التحليل السيموطيقي البحت؟. بالطبع، لقد أجاب (دوفرين) جزئيا على السؤال في الفقرة التي استشهدنا بها آنفا: الموضوع الجمالي يتضمن وظيفة العمل الفني. ويطور هذه الحجة أكثر عندما يقول:
 إذا تأملنا الشيء المدرك، فإن وحدة المادة الحسية وشكلها يكونان في الواقع غير قابلين للتحلل. فالشكل هو الشكل ليس فقط في توحيد الحسي بل أيضا في إعطائه بهاءه. وهي خاصية الحسي.. فبسبب الشكل، يتوقف الموضوع الجمالي عن الوجود كوسيلة لتوليد شيء حقيقي ويوجد بذاته. فحقيقته ليست خارجه، وفي الواقع الذي يحاكيه, بل بداخل ذاته. هذا الاكتفاء الذاتي الذي يضعه الشكل على عاتق الحسي الذي يوحده يسمح لنا أن نقول إن الموضوع الجمالي هو طبيعة. فالحسي باعتباره ثابتا، وله شكل وحياة، ويصبح في النهاية موضوعا ينشئ الطبيعة التي لها قوة الطبيعة العمياء.
ومع قليل من الصعوبة، فقد يكون مفهوم الاكتفاء الذاتي الأنطولوجي للحسي باعتباره معاشا من خلال الموضوع الجمالي، مرتبط بالمفهوم الذي تحدث (ستاتس) باعتباره الشيء المذكور في المقطع التالي، حيث يقول:
 المسرح والطقس البدائي، رغم اختلافهما في الوظيفة الاجتماعية، فإنهما يشتركان في طاقة وبنية يمكننا تحريها
 في فرقة أربعاء القراءة المسرحية المسائية بأسرع ما يمكن أن نرى في تجسيد العواطف في عيد الفصح. فالطقسي في المسرح يكمن في حاجة الجماعة للشيء الذي يتضح في المسرح وفي التعيين أو التعيين الذاتي لأفراد معينين, يوافقون، لسبب أو لآخر، أن يكونوا تجسيدا لهذا الشيء.
قد يتم رفض هذا الفهم باعتباره فهما صوفيا، ولكن يجب أن يكون هناك شيء يمكن قوله في هذا النوع من الاعتبار، وإلا فإن اهتمامنا الوحيد يمكن أن يكون كفاءة المسرح كأداة للتواصل. بطبيعة الحال، يعد الاتصال جانبا مهما في اهتمامنا بالمسرح، ولكن من الواضح أن أحد الجوانب المهمة تقريبا هو قدرة المسرح على تشكيل قدرتنا العاطفية أو الحسية بطريقة تثير اهتمامنا، أو كما يقول (ستاتس)، قدرتها على ملء حاجة معينة من خلال توفير شيء لتبادل طاقات بعينها.
لقد وصل النقاش، بشكل لا مفر منه، إلى النقطة التي يجب أن نقارن عندها تأكيدات (ستاتس) مع خبرتنا. فعندما يقال كل شيء، فإن هذه هي أهمية أرضية اختبار، لأن نوع التجارب التي يحاول أن يصفها (ستاتس)، هي بالتعريف، تجارب ذاتية. إذن، بافتراض أننا نستطيع أن نميز عددا من الظواهر التي يتحدث عنها (ستاتس) – مثل براعة ممثل ينظر إليها مع فعل الشخصية التي يؤديها، دغدغة الكلب، في أذهاننا، الذي يرفض أن يتحول إلى ما هو مجبر أن يمثله – يصبح السؤال هو هل كان (ستاتس) على صواب في تحديد دور خارجي عن السيموطيقا لهذه الظواهر؟ وقد تمت الإجابة على هذا السؤال جزئيا فعلا؛ ولكن مع اختلاف السياقات الفلسفية والنظرية التي نوقشت الآن، فمن المفيد مواجهة بعض المشكلات في حجة (ستاتس) بشكل مباشر.
إذا افترضنا أن (ستاتس) جانبه الصواب، فهناك عدد محدود من الطرق التي يمكن أن نكون فيها على خطأ. ولتحقيق هذه الغاية، فقد أعددت سلسلة من التحديات يبدو أنها تشمل أي حجج يمكن أن تكون معقولة ضد (ستاتس). وأعتقد أن هناك نوعا من الحجج التي يمكن أن يقدمها السيميوطيقي إلى (ستاتس) عندما تتاح لها الفرصة؛ وسوف أحاول أن أبحث إلى أي مدى يمكن مواجهة هذه التحديات بالاستجابة الملائمة.
أول حجتان متأصلتان في المنهج السيميوطيقي، اللتان لا تعترفان بأنهما مهتمتان بأي شيء أقل من مجمل التقديم المسرحي – عندما يتم تقديمه بشكل شبه كامل تماما من خلال العلامات التي يقارنها. والحجتان التاليتان يمكن اعتبار أنهما ترتكزان على التعقيدات المنطقية لعزل أنفسنا عن الاعتقاد بأن التجربة المسرحية في مجملها يمكن تفسيرها في إطار الشفرات السيموطيقية. وهي مشكلة أين نضع قدمنا الأخرى، إن جاز التعبير. والحجة الأخيرة تمسح من وجهة نظر تاريخ النظرية الدرامية مع ادعاء (ستاتس) بأهميتها كمشارك جاد في نظرية الدراما.
1 - يعرف (ستاتس) السيميوطيقا بشكل ضيق جدا:
 يمكننا أن نعرف السياق الحالي للسيميوطيقا بأنه التحليل العلمي لوسيلة أو أداة العملية التمثيلية. بمعنى أن ما
 ما تشترك فيه نظرية التمثيل والسيميوطيقا هو أنهما يريان المسرح باعتباره عملية توسيط بين الفنان والثقافة, والمتكلم والسامع؛ إذ يصبح المسرح هو ممر حمولة المعنى الذي تتم إعادته للمجتمع (بعد التنقية الفنية) عن طريق لغة العلامات. (ولكن) خطر التناول اللغوي هو أنه قادر على النظر إلى ما وراء موقع مشاركاتنا الحسية بأشيائها غير العملية. وهذا الموقع هو النقطة التي لم يعد فيها الفن مجرد لغة. فعندما يضع الناقد تصنيفا لصورة الفن، فقد يقول شيئا عن اللغة، ولكنه لم يعد يتحدث عن الفن، أو على الأقل قوة الفن المؤثرة.
يمكننا بالتأكيد تقييم اهتمام (ستاتس) في هذا الشأن. فمن المعترف به أن هناك الكثير من التحليل السيميوطيقي الذي يبدو وسيلة أقل كفاءة وأقل تأثيرا في فهم الأداء المسرحي أكثر من لعبة اللغة المغلقة على نفسها. ولكن هل هذا هو خطأ السيميوطيقا في ذاتها، أم أنها مجرد ركاكة أسلوبية لمؤلفين معينين؟ وضد دليل بعض الكتاب الأكثر قسوة والأكثر غموضا الذين يفتقرون إلى حساسية النظر العاطفي لموضوعهم، هناك مثال هو (رولان بارث)، الذي استشهد به (ستاتس) بكثافة. ويكشف الفحص الدقيق لأعمال (بارث)، رغم ذلك، كيف أنه يفترض غالبا ما يمكن أن يسميه (ستاتس) «موقف فينومينولوجي»، كما أن (ستاتس) يمكن رؤية أنه جلب المنهج السيموطيقي ليضعه في عمله. وربما من الجيد أننا نحتفظ في ذهننا برؤية (دوفرين)، التي تقول إن التجربة الجمالية تضم بالضرورة كلا من الحسي والبارز. وهذا يوحي بأن الملاحظة التي قدمها (ستاتس) عن منهجين ينشئان نوعا من الرؤية المجهرية قريبة بشكل معقول من البصمة. ومن الناحية الأخرى، فإن تلك المجالات التي ينجرف فيها (ستاتس) إلى مواقف أكثر جدلية ضد نظرية السيميوطيقا فينبغي تناولها مع بعض الملح.
2 - كل شيء يوجد على خشبة المسرح في إطار مسرحي وبالتالي له مغزى كمرجع لنسق من الشفرات.
من المؤكد أن كل شيء قابل للتفسير بشكل سيميوطيقي، ولكن هل نطبق هذا الإطار المسرحي بشكل متسق فعلا؟ بالتأكيد عايشنا جميعا مناسبات معينة عندما كانت عناصر أداء معينة مذهلة للمشاهدين وهي مناسبات كسر الإيهام. علاوة على ذلك هناك براعة الممثل التي يوضحها (ستاتس) في الجزء الثاني في كتابه. باختصار ربما نشاهد، كما يقترح (ستاتس)، المسرحية كحدث في العالم الحقيقي علاوة على مشاهدتها كإيهام بعالم غير حقيقي.
والآن، لا شك أن الإيهام المسرحي قد انكسر، وهناك أنساق شفرات أخرى التي يمكن الاستفادة منها في التجربة المسرحية، ولكن يبقى سؤال هل المشاهدون يملأون فعلا كل هوة في أحد أنساق الشفرة، أو إذا كانت هناك لحظات تمارس فيها الشفرات بشكل حسي، وليس بشكل له مغزى؟
وبالنظر إلى السؤال من وجهة نظر أخرى، يمكن أن نفكر ما معنى إحضار السياقات الخارجية إلى الإدراك المسرحي – بمعنى، أنساق الشفرات التي توجد خارج مجال الإيهام المسرحي. ومن الناحية النظرية، إذا بقي الايهام المسرحي بدون كسر بغض النظر عن وجوده، فيصبح العالم مؤطرا مسرحيا فيما يسمى أداء الزمان والمكان غير المحدودين، على افتراض أن المشاهد كان على علم بالمفاجأة. ويمكننا أن نتوقع هفوات في انتباه المشاهد، ولكنها نظريا لا تختلف عن الهفوات التي جادل (ستاتس) بأنها تحدث لكل مشاهد في كل أداء. منطقيا، إذن، لو كان كل الإدراك المسرحي سيميوطيقيا، فإنه يستتبع بالضرورة أن يكون كل الإدراك سيميوطيقيا. وأنا على ثقة أن هناك منظرين محددين يؤكدون هذه الحقيقة، ولكن مثل هذا التأكيد يبدو لي أنه يجري على عكس الفطرة السليمة. ويمكن القول إن الشيء الذي يتعامل مع كل تصوراته في الحالية الواقعية بطريقة سيميوطيقية قد يعاني من مرض مماثل لمرض البطل في قصة «نابكوف Nabokov» «علامات ورموز». وما يبدو أكثر منطقية هو القول إن هناك إدراكا يمكن تفسيره بشكل سيميوطيقي على الرغم من أن هناك تصورات كثيرة غير مفهومة. ومن المنطقي أيضا، أن نؤكد أنه إذا كان هناك شيء مثل الإدراك غير المفسر بشكل سيميوطيقي، فمن غير الواقعي أن نتخيل أنه يمكن التخلص منه نهائيا بواسطة المشاهدين.
3 - لنفترض أن هناك لحظات ينهار فيها فهم الظواهر كدوال، إذ يقترح (ستاتس) بشكل خاطئ أن بعض الأشياء أكثر فينومينولوجية من أخرى.
يجادل (ستاتس) أن الكلاب والساعات والأطفال والنافورات من بين الأشياء الأكثر مقاومة للاستخدام المسرحي. ويقترح أن هذه الأشياء تقاوم التأطير المسرحي، بسبب قوة روابط حياتها الفعلية. وتقدم لنا الحجة فكرة غريبة لكي نتصدى لها، لأنه في حالة الساعة على الأقل تحدث المقاومة للتأطير المسرحي لأن الارتباطات السيميوطيقية مع شيء من الحياة اليومية قوية لدرجة أنها تغلب وظيفتها التمثيلية. بالنظر إلى أن (ستاتس) قد ألغى تمييزا جدليا بين الفينومينولوجيا والسيميوطيقا، فإننا نكيل في هذه الحالة إلى رفض حجته البعيدة عن السيطرة. ومع ذلك، بالنظر إلى الأشياء الأخرى – النافورات والكلاب – فإننا نبتعد عن فكرة الارتباط السيميوطيقي بشكل نقي وأقرب إلى الارتباط الحسي، رغم أن السيميوطيقا ما زالت مهمة بلا شك. وهناك تعقيد آخر في الحجة عندما ينظر (ستاتس) إلى الطرق التي يقاوم فيها ممثل مثل «لورانس أوليفييه» تطابقه الكامل مع الشخصية التي يؤديها. من الواضح أن ذلك بسبب عدد من التصورات المسبقة التي نجلبها إلى المسرح معنا، فإن «أوليفييه» وهذه الأشياء الأخرى يقاومون وظيفة المحاكاة تماما، ولكن ما هي الطريقة التي تجعلهم أكثر فينومينولوجية؟
يبدو أن المشكلة تتطلب إعادة بناء الحجة. أولا، أعتقد أننا يجب أن نفهم، مع (دوفرين) فينومينولوجيا التجربة الجمالية لكي نضم كل من البارز والحسي، ثم نستطيع أن نوافق أنه من بين مختلف الشفرات السيميوطيقية التي يقدمها العرض المسرحي، يصنف التمثيلي بأنه الأكثر أهمية. ويبدو من الصواب إذن أن نفترض أن نجاح الشفرات التمثيلية الذي يعتمد على الدرجة التي تقدم فيها الأشياء في العرض المسرحي تُفهم باعتبارها علامات لشيء مُمثل. وفي هذا السياق إذن، يمكن أن نقول إن هناك أشياء معينة أو مؤدين (مثل الذين استشهدنا بهم آنفا) يبدون أكثر مقاومة من الآخرين لامتلاك ارتباطاتهم المعتادة (سواء البارزة والحسية) قد تغيروا بطريقة تسمح لهم أن يوظفوا بنعومة باعتبارهم علامات داخل الشفرة التمثيلية. ويمكن أن يقال إذن عن تلك الأشياء إن لها ارتباطا فينومينولوجيا بقوة كافية لمقاومة المعالجة السيموطيقية.
4 - لا يشرح (ستاتس) التجربة الفينومينولوجيا تماما، فإنه يجعلها غامضة في ما يتعلق بطبيعتها الحقيقية.
هذا صحيح بلا شك. إذ ينقص حجة (ستاتس) نوع الصرامة التي نأمل فيها. وقد يكون هذا جزئيا بسبب أسلوب نشر الكتاب: فقد ظهر الكتاب في سلسلة مطبوعات جامعة كاليفورنيا المعنية بالقراءات المسائية المنفردة. والنتيجة أشبه بشيء مثل الدردشة التي يلقيها متلق مستنير، وهي حقيقة يعترف بها (ستاتس) في المقدمة. والأسلوب في كثير من الأحيان يجعل القراءة جذابة للغاية، ولكن هناك أوقات يترك فيها (ستاتس) القارئ دون موطئ نظري قوي، إن جاز التعبير.
وقد كان مخططي لسياق أوسع لمنهج (ستاتس)، في جانب منه، محاولة للتعويض عن أي قصور في الدقة النظرية. ولسوء الحظ، هناك الكثير الذي يمكن فعله في هذا الصدد، لأنه فيما وراء نقطة بعينها، لم نعد نفسر حجة (ستاتس)، ولكن كان لا بد من تغييرها لكي تتناسب مع معايير الخطاب العلمي. فالمشكلة متأصلة جزئيا في الموضوع، لأنه بمحاولة صياغة تجربة الشيء باعتبارها كلا فينومينولوجيا، بدون فحص في أجزائها الواضحة، هناك حدود لما يمكن أن يقال بأي درجة من الوضوح. بمعنى أنه يمكننا أن نذهب إلى بعيد في تفسير الظاهرة قبل أن نبدأ في تحليل ما تعنيه، وعند هذه النقطة، نبدأ في النظر إلى الشيء بشكل سيميوطيقي. وهذا سيكون أكبر عائق أمام أي تحليل فينومينولوجي.
ومن الناحية الأخرى، بالمقارنة مع غموض التجارب المشتركة التي يمكن أن نواجهها في أعمال الفينومينولوجيين الألمان، فإن كتاب (ستاتس) يحتفظ بوضوح رائع. فإن لم يكن (ستاتس) قد أسند كثيرا من حجته علميا إلى نظرية منطقية، فقد حاول للمصداقية أن يضمن كثيرا من الانطباعات الغامضة في استحضار وقائع المسرح كما يعايشها المتلقي الحقيقي.
5 - يوسع (ستاتس) عنصرا صغيرا في تجربتنا مع لدور مهم غير متناسب.
هذه الفكرة ذاتية جدا لدرجة أنه من الصعب أن نجيب عليها بشكل منطقي. بالطبع، قد يشكو البعض أن (ستاتس) شديد التقيد بالحدود التي يضعها على الظواهر التاريخية. على أية حال، إذا استطعنا أن نوافق على الأقل من أجل الحجة بأن الصور غير السيميوطيقية في الفينومينولوجيا تتكامل مع التجربة المسرحية بدرجة ما على الأقل، فمن الإنصاف لـ(ستاتس) هذه المرة أن نراجع مختلف التضمينات الناتجة عن هذا المنطلق قبل أن يقدم القارئ حكمه حول أهميتها.
ولنبدأ كالتالي، ربما ننظر مرة ثانية للرأي الذي يشترك فيه (ستاتس) مع (ليسينج)، هو الرأي القائل بأن الاختلافات الكبيرة بين المسرح والفنون الأخرى تتجلى في المؤثرات التي تنتج من استخدام الفعل البشري الحقيقي. وإذا كانت هذه الفكرة مهمة، فإنها التمييز الذي يحمل وراءه المجالات المحددة التي نظر إليها (ليسنج)، لأن هذا يمكن أن يكون أحد وسائل التمييز بين جوهر المسرح وجوهر السينما والتلفزيون. علاوة على ذلك، من وجهة نظر هذا التمييز الفينومينولوجي، لدينا وسيلة من أن قراءة المسرحية، بغض النظر عن امتلائها بكل وصف يمكن تخيله، وبإرشادات خشبة المسرح، فلا يمكنها أن تكرر تجربة المشاهد في التقديم المسرحي.
والأمر ذو الأهمية المتساوية هو مفهوم (ستاتس) للاعتبار التطهيري مع الزمن الذي يتيحه المسرح. ونظرا للبنية التعاقبية للمسرحية، فلا بد أن نربط هذا بمفهوم (دوفرين) للصيغة التي تعطي شكلا ووحدة لصور الوعي الحسية. وهاتان الفكرتان فعلا جزء من نفس الظاهرة: يتم تمثيل الجمهور في دور معين (أو عدد من الأدوار) خلال الأداء، وبالقدر الذي يقبل به هذا الحدث ويشارك فيه، يصبح متخيلا مع مادة العمل الفني، ألا وهو العمل المسرحي. وهذا أكثر من مجرد الوقوع في أسر الإيهام، على الرغم من أن هذا جزء من التجربة بلا شك. فإذا فهمت (أو مزجت بين) (ستاتس ودفرين) بشكل صحيح في الوعي الفينومينولوجي الأساسي لمادية الأشياء موضوع السؤال المصاحبة في معالجة الإيهام، فإن ذلك يتيح عمل الأنا المتعالي. فإنه، إن جاز التعبير، تمرين يتيح لنا الفرصة لتغيير العلاقات مع العالم المادي. ولا بد من التأكيد أن (ستاتس) لن يصبح أبدا صوفيا بالمعنى الصريح، ليس على هذا النطاق على أية حال. فأقرب ما وصل إليه هو مناقشته للشيء الذي يشترك فيه الطقس والمسرح.
في النهاية، هناك مفهوم آخر ينشأ من منطلق الصور غير السيميوطيقية لفينومينولوجيا المسرح التي تحمل تضمينات تصل إلى ما وراء المجال الحالي للدراما مع مناقشات الكيفية التي يمكن أن يُفهم بها الوعي. وهي باختصار: إذا كانت هناك صور خارج لغوية في التجربة المسرحية التي لا يمكن، بمعنى آخر، اختزالها إلى شفرات سيميوطيقية – وهذا يعني أن نموذج العلاقة الإنسانية بالأداء المسرحي (ولو في نموذجها الافتراضي الأكثر تفصيلا)، يمكن أن تكون ناقصة. وهذا يتناظر إلى حد كبير مع مع إحدى الحجج الحالية حول استحالة خلق ذكاء اصطناعي قوي: أي بناء آلة تفكر كالإنسان تماما من حيث الإبداع والحدس وكذلك المنطق والذاكرة.
تصف هندسة التحكم، التي تشترك في الكثير من المفردات مع السيموطيقا، نظام الشفرات الذي يمكن لأي آلة من خلاله تشغيل اللوغاريتمات. وحتى الكومبيوتر الأكثر تطورا يمكن اختزاله إلى تسلسل لوغاريتمي وكذلك إلى نسق شكلي للشفرات الرياضية. ورغم ذلك، هناك نظرية تسمى «نظرية جودال Godel theorem»، التي تقر أنه مهما كان النسق الشكلي الذي يتبناه عالم الرياضيات كمعيار للحقيقة، فسوف يكون هناك دائما فرضيات رياضية.. وأن لوغاريتماته لن تستطيع أن تقدم الإجابة عليها. وقد حاول عدد من العلماء استخدام هذه النظرية لإظهار استحالة شمول الكل. ولعل أحد المحاولات الناجحة وربما أشهرها تلك المحاولة التي قام بها (روجر بنروز Roger Penrose) في كتابه «عقل الإمبرطور الجديد Empror’s New Mind». إذ تتحرك نظرية (بنروز) خلال نظرية النسبية، وعلم الكونيات، والفيزياء الكمية، وعلم الأحياء المجهرية، لكي يصل إلى استنتاج أن الإلهام والإبداع ومختلف البديهيات – ومن ضمنها رؤى جمالية بعينها – تكمن وراء هدف أي نظام لوغاريتمي. والأكثر ملاءمة، أمثلة لا شفهية الفكر ووعي الحيوانات، من بين البراهين التي استشهد بها في حجته.
ولإعادة هذا التشبيه إلى المناقشة قيد البحث، يمكننا أن نستنتج بالاستدلال أن رياضيات (بنروز) تقترح أيضا أنه لن يكون بمقدور أي نظام للشفرات السيميوطيقية أن يشمل عقل المتفرج؛ فسوف يكون هناك دائما عنصر محظور من العمل في الوعي، إن جاز التعبير، من جانب الشفرات الراسخة ثقافيا. وإذا كان هذا صحيحا، إذا كان هناك شيء في التجربة المسرحية غير قابل للاختزال إلى شفرة سيميوطيقية، وبافتراض أن هذه الصورة للتجربة لها بعض الأهمية، فيصبح السؤال الطبيعي هو من أين يمكن لنا أن نجد دليلا على هذا الوعي. حاليا يبدو أن أغلب الإجابات المأمولة، مهما كانت أوجه القصور فيها لا بد أن توجد في فينومينولوجيا المسرح كما ساعدنا (برت) أو (ستاتس) على فهمها.
...................................................................................
• كريج ستيوارت ووكر يعمل أستاذا للدراما في جامعة كوينز في كينجستون بكندا. وينشر بحوثه في Theater Research in Canada، Australian Drama studies، Modern Drama، The Legacy of Northrop Frye.
 

 


ترجمة أحمد عبد الفتاح