عن إبداع يسرى خميس فى مجال الترجمة نتحدث فالك ريشتر وتسونامى العولمة

عن إبداع يسرى خميس فى مجال الترجمة نتحدث فالك ريشتر وتسونامى العولمة

العدد 522 صدر بتاريخ 28أغسطس2017

وصولا إلى المحطة الثالثة فى إنجاز “يسرى خميس” في مجال الترجمة نكتشف أنه كان يخضع فى اختياراته لتخطيط دقيق مدروس، سعى من خلاله إلى التعريف بالدراما والمسرح الألمانيين منذ نهاية ستينيات القرن الماضى حتى قبل بداية العقد الثانى من قرننا الحالى بقليل، حيث كان موعدنا مع الكاتب المسرحى “فالك ريشتر”.
لقد قام “يسرى خميس” بتعريفنا بالمسرح الوثائقى، ذلك المسرح الذى نشأ وازدهر على يد مجموعة من الكتاب الألمان من أمثال “رالف هوخوت” و”هاينر كيبارد” و”بيتر فايس”، وهو مسرح يعتمد فى تحليله على الوثائق الرسمية للمحاكمات ومحاضر الجلسات والأقوال والتصريحات التى تتعلق بموضوع العمل الفنى المطروح، مع اتباع المنهج الجدلى العلمى للتاريخ وقد نجح ذلك الجيل من الكتاب فى استيعاب تيار المسرح الملحمى البرشتى والاستفادة منه وتجاوزه.
وقد ترتب على تفكيك الاتحاد السوفيتى وبعثرته - كما يقول “يسرى خميس” - فى مطلع القرن العشرين نشوء عالم أحادى القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تحاول فيه تحقيق الحلم الإمبريالى القديم والسيطرة على العالم ، مندفعة بقوة نحو ما يسمى “بالرأسمالية النفاثة” كما سماها الاقتصادى الأمريكى “إدوارد لوتوال” 1995 وصولاً بها إلى العولمة المنفلتة وتحول العالم من وجهة نظر الشركات متعدية الجنسية (500 شركة) إلى سوق واحد تحكمه وتديره بعض القوانين والمؤسسات الدولية لتنظيم شكل جديد من الاستنزاف، يساعدها فى ذلك التطور الكبير فى تكنولوجيا الاتصالات ونشر 500 قمر صناعى يدور حول الأرض تربط قارات العالم بعضها ببعض وتعمل على تشكيل نمط واحد للحياة بواسطة الصور التى لا تتوقف على شاشات مليارات أجهزة التليفزيون وشبكات الإنترنت والموبايل بهدف نشر ثقافة التنميط والتى تنحصر مهمتها الأساسية فى التسلية المستدامة وإشباع الشعوب خبزًا وألعابًا!
وفى ظل هذا الوضع يطرح السؤال التالى نفسه: ما دور المسرح فى عصر العولمة والمسرح السياسى بشكل خاص؟
ثم كيف يواجه كتاب المسرح “تسونامى العولمة”؟
النموذج الذى بين أيدينا هو الكاتب المسرحى الألمانى “فالك ريشتر” المولود 1969 بمدينة “هامبورج” بألمانيا وهو يعمل أيضًا كمترجم وداماتورج ومخرج، ومن أعماله “كل ذلك فى ليلة واحدة” 1997، وفى نفس العالم كتب “قصص ثقافية لجيل افتراضى وليس هناك ما يؤذى” 1999، “السلام” 2000، “الهجوم” 2002، “في سبق ثوان - نحن نثق في الرب” 2003، “قتلى أقل بشكل واضح” 2004، النظام: أسلوب حياتنا وهى خماسية مكونة من “مدينة إلكترونية - قصة حب فى المطار” 2002، “تحت الجليد” 2004، “فندق فلسطين” 2004، “ذهول لفترة قصيرة” 2005، “شباب مهان” 2006، “حالة استثنائية” 2007، “هياج القاتل - حالات ضرورية أقل”، “ليس بوداع أبدًا - لا تبك يا صغيرى”، “فى العمل: العولمة بدلاً من الاستنماء”، كما كتب عدة تمثيليات إذاعية وعنه يقول الناقد الألماني “فرانز فيلله” “إن فالك ريشتر” يهاجم فى مسرحياته بعنف الليبرالية الجديدة والعولمة، كذلك أعلن أنه ضد حرب العراق والهيمنة الأمريكية ويحتقر قناة CNN والأفلام الأمريكية وهو ناقد عنيف معاصر متنقل فى أمكنة عديدة يكافح فى الداخل، ويفكر بشكل عالمى وملتزم لأعلى دراجات الالتزام ، ومناضل من أجل عالم أفضل.
وعن رؤية “ريشتر” للدور الذى يجب أن يقوم به المسرح ، يشير إلى أن المسرح  ينبغي أن يرى نفسه جزءًا من شبكة عالمية، ترى أنَّ “الرأسمالية المعولمة” باعتبارها أسلوبًا للحياة نظام غير مناسب لأغلب البشر، وأننا أمام بداية حركة احتجاج واسعة ضد كل ما هو قائم تحت مسمى “الرأسمالية المعولمة” تلك التى تعمل باستمرار على تأكيد الشعور بعجز الناس عن المواجهة والاستسلام للوضع القائم بشرط أن يعى كل فرد أنه جزء من هذه الحركة وأنه يعمل بحماس على توسيع دائرة هذه الشبكة إلى أن تكتمل الصورة، فمن خلال حركات الاعتراض تلك يمكن أن تنشأ قوى مبدعة كرد فعل للعلاقات غير العادلة كبديل لهذه الدوامة التي يدور فيها الجميع.
 النظام: أسلوبنا فى الحياة
النظام “Das System” خماسية مسرحية تتكون من مسرحيات “مدينة إلكترونية، تحت الجليد، سبع ثوان، قتلى بشكل واضح، فندق فلسطين” وسوف نتناول بالتحليل المسرحيات الثلاث الأولى منها بالإضافة إلى مسرحية “حالة استثنائية” وهى المسرحيات الأربع التى ترجمها “يسرى خميس” فى سلسلة روائع الدراما العالمية.
أولا: مسرحية “مدينة إلكترونية” (قصة حب فى المطار 2002)
ويعرض فيها “فالك ريشتر” لأثر العولمة على أسلوب الحياة العصرية فى بدايات القرن الحادى والعشرين وهى قصة خيالية عن عصر الميديا والاتصال الرقمى (الديجيتال) حيث تدور الأحداث فى مدينة “متروبوليتانية” فالأماكن كلها متشابهة قابلة للاستبدال.
والبطولة فى هذه المسرحية معقودة لشخصين فقط هما توم وجوى وهما نموذجان لليبرالية الجديدة التي تحكم نظام العولمة يضاف إليها فريق يتكون من 5 إلى 15 فردًا يمثلون الكورس الذى يتدخل بين الآونة والأخرى بالتعليق على المواقف المختلفة التى يظهر فيها “توم” وحده أو التى تجمعه مع “جوى” ، إما بشكل فردى والتناوب وإما معًا، و”توم” نموذج لرجل الأعمال الحديث، مرن ديناميكى شديد النشاط، يتركز اهتمامه فى العمل والتحرك من مكان لآخر لإنجاز ما يقوم به من صفقات داخل شبكة معقدة جدًّا  من الشروط المرتبطة بذلك العمل فهو فى حالة سفر متصل، طائرات، اجتماعات، فنادق، ولكنه داخل إطار هذه الدوامة يفقد الإحساس بالزمان والمكان، وفى إحدى رحلاته نسى رقم الكود الخاص بغرفته فهو فى بداية المسرحية يدخل إلى المبنى الذى يسكن فيه منذ نحو أسبوعين والذى لا يعرف فيه أحدًا يقع فى حيرة شديدة، ترى فى أى مدينة هو: لوس أنجلس، نيويورك، برلين، طوكيو وهو أيضا لا يعرف الكثير من الأشياء بعد أن فقد وجهته تمامًا، لو أننى فقط عرفت بأية مدينة أكون إذن.. وكيف حدث هذا الهبوط المفاجئ فى طاقتى الذهنية، اختفت كل الأرقام، اختفت “جوى” أين جوى.. زوجتى” صديقتى”، هل هذا هو اسمها؟
إنه اسمها بالفعل، وهى حبيبته التى تعمل فى أحد المطارات والذى يرمز هنا لأكثر من مدلول.. إنه العالم.. مكان للعبور، ترانزيت وهى أكثر مرونة من “توم” ، فقط اضطرت إلى قطع دراستها تحت ضغط الحالة المادية وفى عدد محدود من الأسابيع مارست 27 وظيفة تافهة وانتهى بها الأمر للوقوف خلف خزينة أحد مطاعم سلسلة الأكل السريع بالمطار، وعندما يحدث أى عطل بهذه الخزينة تتوقف الحياة وتشعر باضطراب شديد بفعل عجزها عن مد طابور رجال الأعمال المنتظر للحصول على الوجبات: جوى “جهاز قراءة الأشعة تحت الحمراء معطل، جهاز قراءة الشفرات معطل، جهاز قراءة الكون أيضًا معطل، لقد توقفت جميعًا عن العمل وأنا وحدى فى المحل ولا يمكننى أن أترك المحل لأسأل زميلاً فى المبنى المجاور.. سوف يقتلنى رجال الأعمال المنتظرون فى الطابور”.
وقد تعرف “توم” عليها عند نقطة تفتيش أمنية فى المطار وحدثت بينهما مشادة أدت إلى تماسكها بالأيدى وتم حجزهما بواسطة رجال الشرطة فى قفص زجاجى شفاف راحا فيه يمارسان الجنس على مرأى من رجال الشرطة والمارة الذين تفاوتت ردود أفعالهم وتفسيراتهم لما يرونه أهو احتفال بافتتاح محل جديد أم أنه تصوير لفيلم جنسى، أم حلقة من مسلسل عن الجنس فى الخلاء، ومنذ ذلك اليوم تعاهدا على الحب، ولكن ظروف كل منهما حالت بينه وبين اللقاء الفعلى، فهو مشغول دائمًا بالانتقال من مدينة إلى أخرى ومن صفقة لأخرى وهى مشغولة ليل نهار خلف خزينة المطعم تواجه أعطالها، والمؤلف يصور بطريقة بارعة مرة على لسان “توم” وثانية على لسان “جوى”، أو يحاول أن ينفذ إلى ما يدور داخل رأس كل منهما ثم يردف تعليقًا على لسان الكورس وتأخذك الدهشة كقارئ لهذا العمل إذ تظل أثناء القراءة تفكر في الوسائل التى يحاول المخرج عن طريقها تحويل ذلك كله إلى صور متتالية وقد تسأل نفسك ما الوسائط الأخرى التى يمكن أن يستخدمها المخرج لتحقيق ذلك فالنص مكتوب بطريقة لا تشعر فيها بأنك تتابع حوارًا بين الشخصيتين الرئيسيتين، وقد تشغلك قضية ذلك الكورس الغريب وسرده ذى الطابع الوصفى وتسأل عن كيفية تحويل ذلك إلى صورة، بل قد تسأل كيف سيحقق لنا السينوجراف والمخرج من واقع هذه المعطيات عرضًا يؤكد على مضمون رسالة فالك ريشتر”.
والمسرحية تنتهى على تساؤل: هل تمكنت “جوى” من تبليغ شركتها عن رغبتها فى تعديل ساعات الخدمة حتى تكون ورديتها الليلية بأحد المطارات التى سوف يهبط فيها أو يمر بها “توم” كترانيزت ، وعلى خلفية موسيقية ليست من هذا العالم تقول “جوى” الثلاثاء بعد القادم سأكون فى أمستردام ممر 4 أمام البوابة 65 مباشرة لمدة سبع ساعات، لقد درست الموقف بعناية، ستكون هناك مساء ذلك اليوم قادمًا من مدريد فى طريقك إلى تورنتو، لو أنك تمكنت من أن تأخذ الطائرة ليس عن طريق بروكسل ولكن عن طريق أمستردام وأخذت الطائرة التى تليها لرتبت دوريتى لتكون مدة راحتى ما بين الساعة الحادية عشرة والحادية عشرة والنصف.. إلى أن تقول: تمنيت بحرارة لو أننى أسندت رأسى للحظة على كتفك.
 ويكمل توم الحديث قائلا: “آخذك فى حضنى وأضمك إلىّ.. أقبلك.. سنحقق ذلك.. هذا هو أقصى ما يتمناه كل منهما!”.
وعن هذه المسرحية يقول الناقد “فرانز فيلا” المسرحية هي كوميديا، فارسى مرعبة داخل عقل عالم البيزنس فى مرحلة العولمة الاقتصادية وتكشف عن العديد من الحقائق التى تعرى صميم العالم الداخلى لعوالم رجال الأعمال وتخترق الحدود بين ملامح العولمة ومكاسبها وضحاياها وتفضح بنعومة حقيقة الوعى الحديث لمستوى تكنولوجيا الاتصالات المعاصرة وتخترق الحدود بين المستفيدين والضحايا لنظام العولمة، ذلك النظام الذى يتطلب بشرًا بمواصفات معينة ويتميزون بالمرونة والقدرة الدائمة على التكيف والقيام بمهام جديدة حيث يصير الإنسان رقمًا بين عالم الأرقام المتغيرة.
ثانيا: حرب من أجل أسلوب حياتنا
وتتمثل من خلال نص مسرحية “سبع ثوان”: فى الرب نثق وشخصيات هذه المسرحية أصوات من 4 إلى 8 ممثلين رجال ونساء وتشير الإرشادة المسرحية إلى الآتى: الممثلون يجلسون حول طاولة اجتماعات وأمام كل منهم ميكروفون.. يتحدثون مباشرة إلى الجمهور.. أداء سريع جدًّا متنوع فى أساليبه بشحنة عالية من التوتر.. يتغير ويتبدل.. يسيطر عليه أسلوب أداء الإعلانات فى التليفزيون ثم ينتقل إلى أداء مباشر.. الممثلون يغيرون أوضاعهم بشكل مستمر.
- ارتطام
- تحطم
- انفجار
- ضجيج صاخب عال جدًّا (تسمع أصوات ارتطام، تحطم، انفجار وصخب عال جدًّا لمدة 7 ثوان stop (يوقف جهاز التسجيل.. يرجع للخلف.. تسمع مرة أخرى أصوات ارتطام بسرعة، كذلك الكلمات السابقة تنطق معكوسة حتى نصل إلى كلمة ارتطام.
والمسرحية تبتعد كثيرًا فى بنائها الدرامى عن كل ما نعرفه من أساليب الكتاب فهى أقرب إلى التعبير عن موقف عبثى ينحصر فى النهاية فى تصوير حال الطيار المقاتل “براد” وهو فى طائرته فى الجو عندما يحدث بالطائرة عطل مفاجئ يجعلها على وشك السقوط، وهو يستعرض في ذهنه مشاهد متتالية من حياته العائلية وتسقط الطائرة بالفعل فى نهاية المسرحية وتحترق وتنتهى حياة هذا المقاتل بلا معنى، عندما يحدث الخلل فى تماس الشعلة مع الماكينة ومنذ تلك اللحظة يلقى نظرة على شاشة المونيتور.. يمر أمامه عالمه الخاص.. زوجته وأولاده الثلاثة وأمه وكلب الأسرة الذين قيل لهم بأنه ذاهب لبلاد بعيدة فى رحلة للصيد.. إن أسرته تمثل له ذلك العالم الصغير الهادئ حيث يرقدون تحت الشمس ويأكلون “الدونتس”.
لقد قام بهذه المهمة من أجل اصطياد الأشرار.. أحد الأشرار فى يد قنبلة ذرية.. رسالة جمرة خبيثة.. طبق معملى مليء باليورانيون.. أحد هؤلاء الأشرار يجرى فى شوارع نيويورك بنظرته المجنونة والعرق يتصبب من جبهته ممسكًا بالقرآن فى يد وهو يغنى أغاني غريبة ذات إيقاع متكرر أو أغاني أخرى ليست عندي أية فكرة عنها.. يجرى وسط الكتل البشرية وهو يقول “سوف أقتلكم جميعا أيها الملاعين، أكرهكم أيها الكفار غير المؤمنين ثم يبحث عن المكان المناسب ويضع رسالة “الجمرة الخبيثة” في جهاز تكييف في مول التجارة العالمى، فى البنك الدولى، فى البنتاجون.. فى البيت الأبيض، فى استراحة الرئيس.
بالرب نثق im Good we Trust ليس مجرد اسم، إنه موقف بكل معنى الكلمة أى نحن نثق بالله، وحاملة الطائرات هذه تحمل نفس الاسم، وما هى إلا قرية عائمة على سطح المياه بها كل شيء: دار للسينما، كنيسة.. مول.. مركز رياضى وكل ما يحتاجه المرء بالإضافة إلى حديقة للتنزه وعليها يعيش عدد من البشر أكثر مما في قرية كتلك التى تعيش فيها أسرة “براد”، وهم يرفضون العلم وينشدون النشيد الوطنى ويرتلون سويا قداس الصلوات ويشكرون الرب علي أنهم يكافحون في الجانب الصواب وليس مع الجانب الخطأ.. يجب أن نحرر العالم من صانعى الشرور وأعداء الحرية.. نحن متحدون.. نحن نثق بالرب.. بالرب نثق.. يجب أن ندافع عن وطننا ضد الإرهاب.. يجب علينا أن نحارب.. أن ندافع عن أسلوب حياتنا. وفى ذلك الزمان الذى لا يمكنك فيه أن تثق بأحد، عليك أن تثق بالرب، أما بخصوص “براد” فهذه هى المهمة القتالية الخامسة عشرة له وقد بلغ الآن الثانية والثلاثين من عمره وقد دمر أثناء مهامه أكثر من 70 كيلو مترا مربعا قام بتسويتها بالأرض وهو يعرف أن عمله له معنى ما، هو أن هذه المنطقة التى قام بتحريرها لن يهاجمها أحد بعد ذلك، هذه المنطقة لم تعد تشكل أى خطورة على زوجته “مارج” والأولاد، وهو لا ينتمى إلى ذلك النوع من البشر الذين يهتمون بالأنظمة السياسية أو بمعرفة كل شيء بدقة عن المنطقة قبل أن يهاجمها.. ما ديانتهم؟ ما اسم العاصمة أو أية لغة يتحدثون بها؟ فهو ليس مكلفًا أن يكون فيلسوفًا فالطيار المقاتل فى غيبوبة لا يعرف سوى التدمير، والقتلى لا تأتيهم الفرصة حتى كى يصرخوا، إنهم يصرخون لمدة سبع ثوان فقط ثم يموتون على الفور، سبع ثوان ليس أكثر ويموتون على الفور ويصمتون إلى الأبد، إنه نموذج تعيس للمقاتل الأمريكى الذى ينفذ فقط ما يأمره به الكبار وهو مقتنع تمامًا أنه يعمل من أجل مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية حتى تظل فى مركزها قائدة حرة للعالم كله وحتى تحافظ على أسلوبهم فى الحياة وبذلك يحرص “فالك ريشتر” على فضح ما تفعله الرأسمالية المعولمة ممثلة فى أمريكا من جرائم فى تاريخ الإنسان والإنسانية.
“بالرب نثق” شعار دينى شهير مكتوب على ورقة الدولار الأمريكى النقدية بجميع فئاتها، إن لم يكن المقصود بالرب هنا هو الدولار! هذا ما يقول “يسرى خميس” فى تقديمه للمسرحية، وهو يرى أن ذلك هو الأقرب إلى الواقع رغم قول السيد المسيح: لا يمكن للمرء أن يعبد إلهين فى آن واحد: الله والمال!
ثالثًا: أسلوب حياتنا “تحت الجليد”
تدخل هذه المسرحية فى نطاق دائرة الخماسية التي أشرنا إليها وقد عرضت للمرة الأولى 2000 ببرلين وقدمت فى الإذاعة الألمانية، كما قدمت فى سبتمبر 2007 كأوبرا ألف موسيقاها الموسيقى “يورج آرنكا” بعد أن أعاد صياغتها فى شكل “ليبرتو” “نص أوبرالى”، كما تم عرضها فى “فرانكفورت” 2008، وفى أستراليا 2009، والمسرحية كما يقول “يسرى خميس” تقدم “بانوراما” شاملة لطبيعة اقتصاد العالم الرأسمالى المعولم فى هذه المرحلة التاريخية بنغمة ساخرة تارة وأسيانة تارة أخرى كاشفة فاضحة لما يجرى من صراعات فى تلك المؤسسات الاقتصادية الكبرى متعددة الجنسية والتى تتحكم فى توجيه السياسة الرأسمالية لصالح بعض الأفراد دون أن يعنيها ذلك الثمن الإنسانى الذى يدفع فى المقابل وكعادته يشير “فالك ريشتر” فى البداية إلى الشخصيات قبل أن يقوم بتوصيف زمان ومكان الأحداث وشخصيات المسرحية ثلاثة من رجال الاقتصاد وصبى والشخصية المحورية هى شخصية باول نيماند.. مستشار وعمره بين الـ40 إلى 50 عامًا والمكان قاعة اجتماعات واسعة حيث تجلس الشخصيات حول طاولة كبيرة، أمام كل منهم ميكروفون مثلما يحدث عادة فى المؤتمرات الصحفية أو فى الاجتماعات.. الشكل العام يعطى الانطباع كما لو أن هذا المكان هو إطار حياة تلك الشخصيات التى لا يمكنها الخروج منه، فقط تأقلمت على الوجود فيه بشكل دائم.
 ولا ينسى “ريشتر” أن يسوق إلينا كقراء وإلى المخرج هذه الملحوظة: علينا أن نذكر هنا المخرج السينمائى “مارك باودر” من برلين وفيلمه التسجيلى الرائع Grow on go الذى كان مصدرا أساسيا فى هذه المسرحية فيما يتعلق بالحوار بين المستشارين ولغتهم المتخصصة وتتعرض “فالك ريشتر” فى هذه المسرحية لعالم الشخصية المحورية (باول نيماند) الداخلى وأزمته الخاصة وذلك باستحضار طفولته ويستعرض صورًا من حياته فقد كان أبوه يعمل فى مجال إرشاد الطائرات فى أحد المطارات الصغيرة أثناء هبوطها وعندما تقترب الطائرة يصيبه الاضطراب وينسى كل شيء ويصبح أداؤه رديئًا إذ ينسى كل ما تعلمه فى مدرسة إرشاد الطائرات بالإضافة إلى أنه كان أسوأ طلابها وكم تسبب فى اصطدام الطائرات بسبب إشاراته الخاطئة ويعبر “لا أحد” = نيماند وهى الترجمة الحرفية لاسمه، يعبر عن مدى شعوره بالوحدة بين أب مضطرب وأم قلقة، فهما يبدوان دائما وكأنهما لا يريانه أو يسمعانه لأنهما متجمدان تحت الجليد، وهو يصف حاله فى بلاغة ليبين أنه عندما يكون حاضرًا لا يلاحظه أحد، وعندما يكون غائبًا يلاحظ ذلك الجميع، ويحرص “فالك ريشتر” فى المنظر الثانى على الإشارة إلى القيم التأسيسية التى تحكم عالم المؤسسات الاقتصادية الكبرى والتي تحكم مواصفات المستشار الذكى وتعمل على بيان كيفية امتلاكه القدرة على أن يصنع من العميل بطلاً.. إنها مجموعة من القواعد أو هى قانون للقيم لبيان كيف يتميز هؤلاء المستشارون بالابتكار والمرونة الفكرية، ورغم كل ذلك فإن هناك مراقبة لأداء هؤلاء المستشارين وبمرور الوقت تعقدت الأمور وتكاثر عدد المرشدين والعملاء السريين لدرجة يمكننا معها أن نقول إن كل موظف فى المؤسسة يقوم بدور عميل سرى على زميله إلى أن يأتى اليوم الذى يكتشف فيه المستشار أن وجوده فى المؤسسة أصبح مهددًا ويشعر بالرعب والفزع وبأن دوره قد انتهى وأن وجوده قد أصبح بلا معنى ويكتشف بعد فوات الأوان أن عالما آخر ما زال ممكنا لأنه عالم أكثر إنسانية.
وعن هذا تقول الناقدة “آينا دور شميدث” إن “فاوست” القرن الـ21 لا يريد أن ينقذه أو يخلصه أحد.. إن “فاوست” يتعامل هنا مع منظومة القيم الرأسمالية ولا يجد الدافع لكى يبحث عن مفتاح الباب الذى قام بإغلاقه ذات يوم فى نظام نصب فيه الإنسان نفسه مكان الله فى هذا الكون، وعمل على مساواة مخلوقاته البائسة بأن سخر لهم أشياء وهمية افتراضية تشغلهم عن الحياة وتعمل على تفريغها من المعنى وسوف تسيطر الأشياء على الحياة وسوف تأتى نهاية الإنسان.. نهاية نفسه.
وامتدادا لذلك يقول “يسرى خميس” إن “ريشتر” يضع يده فى هذه المسرحية على جوهر النظام الرأسمالى المعولم الذى يضحى ويمتهن كل قيمه إنسانية فى سبيل تحقيق أى معدل من الأرباح سالبًا معنى الحياة ويتساءل لمصلحة من يشكلون مثل هذا العالم؟ عن أية ديمقراطية يتحدثون؟ ديمقراطية “الميديا” تلك التى يقوم وكلاء شركات الإعلان فيها بترتيب الانتخابات وتلفيقها وتزويرها والتدخل بفجاجة فى تشكيل الرأى العام وتضليل الشعب بالفضائح والتقارير المزيفة حتى وصلنا إلى طريق مسدود، فهذا الذى تعودنا أن نسميه نظام “الميديا” لم يعد يمت بأية حال لحرية الرأى فما هو إلا مناورات وتكتيكات تقوم بها جماعات المصالح المستفزة المستفيدة.
رابعًا: مسرحية “حالة استثنائية”
يسعى “فالك ريشتر” من كتابته لهذه المسرحية (الاستثنائية!!) إلى كشف وإدانة العالم البورجوازى الذى من أجل تحقيقه تتسرب الحياة ويعيش فيه المرء منعزلاً وحيدًا وسط حياة افتراضية تخيلية لا معنى لها يعيش فى “جيتو” فى سجن خارجى حقيقى معزولا عن الحياة وفى سجن داخلى مرعب يفسد معنى الحياة كلية وشخصيات هذه المسرحية بلا أسماء مثلها فى ذلك مثل المسرحيات التعبيرية التي تعرض لأزمة الإنسان، والأزمة هذه المرة أشد وقعًا من أزمات التعبيريين.. إنها أزمة الإنسان الذى يعيش فى قرننا الـ21 وأبطال هذه المسرحية المرأة والرجل والصبى ويصور “ريشتر” العلاقة شديدة التوتر بين ذلك الرجل وزوجته علي كل المستويات خاصة فيما يتعلق بانحدار أداء الرجل على مستوى العلاقة الحميمية بينهما وبانحدار مستواه فى العمل.. الأمر الذى قد يهدد بقاءهما فى ذلك “الكومباوند” الذى يعيشان فيه والذى يتوفر فيه كل ما يحتاجان إليه من أشياء.. يتوفر فيه الأمان هى تعيش ذلك العالم الافتراضى تشعر بمزاياه ولكنها قلقة دائما إلى حد الإزعاج، أما هو فيعيش بعمق فى الواقع ويدرك مساوئ ذلك العيش بالإجراءات والضمانات المتبعة فيه كافة، وخاصة الأمنية منها والتى تزيد من توتره والحوار بينه وبين زوجته لا ينقطع عما يجرى داخل وخارج هذا المجتمع بأسواره المنيعة وأبوابه الحصينة ويخشى هو وزوجته على ابنهما الصبى المراهق الذى يسعى هو ورفاقه للخروج إلى الحياة فيقفزون من على السور المكهرب ويموت بعضهم فقد قتل الحرس صديق ابنهما وصبية آخرين وهم يحاولون فتح البوابة ليلاً فمن حق الحراس حماية من بالداخل من الرعاع والغوغاء الذين يريدون اقتحام الكومباوند للاستيلاء على ممتلكاتهم.
ويشير “يسرى خميس” إلى أن هناك دراسة تحت عنوان المجتمعات المسورة فى الولايات المتحدة، هذه الدراسة تشير إلى طبيعة الحياة فى تلك المجتمعات المسورة “الحياة فيها جيدة” مجتمع جيد نعم ولكن الممارسة تكشف عن أوضاع مختلفة فالسلامة الشخصية هى الهم الأساسى للمقيمين، فهم فى حالة خوف دائم يراقبون كل شيء: مراقبة سلوك الجيران؛ لا يريدون غرباء وسطهم.. يريدون الخصوصية والاستقرار وراحة البال وحماية وضعهم الاقتصادى والخوف والرعب من العالم الخارجى الذى يمثل لهم العدو الحقيقى.. دوامة شيطانية وورطة اجتماعية حقيقية.. المجتمع يتفسخ.. ينشطر جزء منه ببساطة وينعزل.. البنية تتفكك (هناك 28 مليون أمريكى) حصنوا أنفسهم داخل أحياء وأبنية يقوم بحراستها حرس خاص مسلحون ينفق عليها ضعف ما تنفق الدولة على الشرطة! وقد انتشر هذا الشكل فى مدن الأثرياء المنعزلة فى جميع أنحاء العالم منذ زمن.
إن هذه المسرحية جديرة بالقراءة والعرض ومكتوبة فى نفس واحد متصل فى حوار متدفق يأخذك أخذًا لتعيش داخل رؤوس تلك الشخصيات وداخل المجتمع الذى تتمنى أن تعيش فيه ولكنه مجتمع يكتم أنفاسك إذ يشعرك أنك محاصر ومراقب دائمًا.
وفى نهاية مقدمته لهذه المسرحية كتب “يسرى خميس” ومن المفارقات الطريفة فى عالمنا العربى أنه بعد نصر أكتوبر 1973 وحتى اليوم (2008/ 2009) انطلقت فى هوس المشروعات العقارية وبناء القرى السياحية والمدن الجديدة وغيرها من التجمعات الاصطناعية أو كما نسميها “الكومباوندز” المسورة المغلقة على ناسها المتميزين “وامتازوا اليوم أيها المجرمون” (قرآن كريم) المحروسة بطواقم أمنية خاصة محترفة.
ويستأنف “خميس” الحديث عن المسرحية بعد أن يصب جام غضبه علي رجال رأسمالية المضاربات فيشير إلى أن بعض النقاد الألمان قد فسروا هذه المسرحية برؤية أعم وأوسع على المستوى “الجيوسياسى” فى المرحلة التاريخية الراهنة معتبرين أن هذا “الكومباوند” يرمز فى المسرحية إلى غرب أوربا كوحدة جيوسياسية ذات ثقافة واحدة لها نفس القناعات ونفس المصالح ونفس الأهداف الاقتصادية تحاول أن تعزل نفسها عن العالم الخارجى (إفريقيا فى المقام الأول) التى يهددها فقراؤها بمحاولة الدخول إليها للعمل فيها وهكذا يحولون أوربا الغربية إلى “جيتو” كبير منعزل عن بقية العالم الفقير الذى يطمع فيهم - من وجهة نظرهم - وتطمع فى تغيير أسلوب حياتهم، عالمهم هذا يسمح بحرية مطلقة لحركة السلع ولا يسمح بتاتا لحرية حركة البشر.
عن يسرى خميس تحدثنا.. ترى أكان هذا مجرد تأبين متأخر أو أنه تكريم مأمول.
ملحوظة: حافظ كاتب هذه السطور فى كتابته على أسلوب يسرى خميس فى الكتابة مما أدى إلى النقل الحرفى لأجزاء وردت فى مقدماته تأكيدا لحضوره الغائب ومعنوية أسلوبه فى الكتابة.


محمد شيحة