المخطوطة الأولى لمسرحية «يا بهية وخبرينى» محفوظة تحت رقم «673» ومكتوب عليها أنها من تأليف «نجيب سرور» وإخراج «كرم مطاوع»، وقدمها «مسرح الجيب» إلى الرقابة من أجل التصريح بتمثيلها عام 1968. وبالفعل نالت المسرحية تصريحًا بتمثيلها تحت رقم «17» بتاريخ 6/2/1968. ونص التصريح المكتوب فى آخر صفحة من المخطوطة يقول: “لا مانع من الترخيص بتمثيل هذه المسرحية، بشرط مراعاة ما يلي: تنفيذ الحذف فى الصفحات 5، 6، 10، 19، 21، 22.. إلخ».وبالعودة إلى مواضع الحذف وجدت فى «ص 5، 6» حوارًا محذوفًا بأمر الرقابة حول قول «إن شاء الله»، وهذا الحوار بين المؤلف والمخرج فى المسرحية، وجاء هكذا: “المؤلف: قول إن شاء الله. المخرج: دى اتكالية عمياء.. غريبة على فن المسرح. المؤلف: برضو قول إن شاء الله. المخرج: وغريبة على.. على المنطق العلمى.. على المنهج العلمى.. واحد وواحد يساوى اتنين.. عمرك سمعت حد بيقول إن شاء الله واحد وواحد يساووا اتنين؟”. وبقية المحذوفات كانت لبعض الألفاظ النابية والأوصاف المرفوضة، مثل: “بنت كلب، المرة، يا معصعصة يا أم قويق، يا بوز الإخص.. ياللى صوتك زى البومة.. متنيل بنيلة.. إلخ». والملاحظة المهمة أن كل حذف تم كان الرقيب يكتب بجواره هذه العبارة: «حذف بناء على قرار السيد الدكتور الوزير»! والمقصود الدكتور «ثروت عكاشة»! وربما يتساءل القارئ ويقول ما شأن الوزير بعمل الرقابة كى يتدخل بنفسه ويصدر قرارا بالحذف لبعض أجزاء من هذه المسرحية لنجيب سرور؟! وربما يبالغ أى باحث – مستقبلًا – ويظن أن نجيب سرور كانت له هذه الأهمية الكبرى أو هذا التأثير الخطير الذى يجعل من الوزير ثروت عكاشة يقف ضد نصه ويصدر قرارًا بحذف بعض الأجزاء منه! وحتى أضع النقاط فوق الحروف أقول: حسب خبرتى فى الكتابة عن الرقابة والاطلاع على أغلب وثائقها – فى هذه الفترة - أن الوزير ثروت عكاشة كان المسئول عن تصريح النصوص التى ستعرض على «مسرح الجيب»؛ حيث كانت له نظرة رقابية خاصة، كون مسرح الجيب يمثل بداية التجريب والتطوير وسيعرض تجارب أجنبية أو مترجمة فيها من الجرأة والخروج عن المألوف الكثير، مما يجعل جميع عروضه مرفوضة رقابيًا، وحتى يستمر هذا المسرح كان لابد له من استثناءات لا يملك تنفيذها إلا الوزير بشخصه! ومن هنا سنلاحظ أن أغلب النصوص التى عُرضت على مسرح الجيب كانت تراقبها الرقابة وتكتب عند الحذف بأنه تم بناء على قرار الوزير، وهذا القرار كان قرارًا عامًا خاصًا بمراقبة النصوص التى ستعرض فى مسرح الجيب فقط!بعد مرور عشر سنوات من عرض المسرحية، وجدت تقارير رقابية تفيد بأن «فرقة مجانين المسرح» حصلت على تصريح بتمثيلها، لكن التقارير توحى بأن النص المُقدم يختلف عن نص المخطوطة الأول، حيث إن النص الجديد تضمن أجزاء شعرية من نص مسرحية «آه يا ليل يا قمر»! وللأسف النص الجديد ليس معى بل معى فقط تقاريره الرقابية، ويمكن الاعتماد عليها. التقرير الأول كتبته الرقيبة «نجلاء الكاشف» يوم 21/1/1979، وذكرت فيه ملخصًا للنص قائلة: تقوم فرقة متجولة بزيارة لقرية بهوت - التى دارت فوق أرضها أحداث قصة بهية وياسين – لعرض مسرحية «آه يا ليل يا قمر» والمأخوذة عن القصة سالفة الذكر، وبينما كان مؤلف المسرحية متخوفًا من عرض مثل هذه التجربة لاعتقاده أن جمهور القرية يختلف عن جمهور المدينة الذى يقبل أى عرض بعكس جمهور القرية الذى لا يعرف من وسيلة للتفاهم سوى الفؤوس خصوصًا مع الكاذبين، نرى المخرج يخالفه ويتهمه بالرجعية وعدم الثورية لعدم اقتناعه بضرورة ربط المسرح بالجماهير. ويؤيد المخرج فى ذلك مدير الفرقة الذى كان يرى أنه لابد من المغامرة. وأخيرًا يوافقهم المؤلف عن غير اقتناع، ويبدأ العرض بصورة غير حقيقية وغير فنية للريف والريفيين، بل وبعيدة كل البعد عن حكاية ياسين وبهية. وكاد يؤدى هذا بالطبع إلى إثارة الفلاحين وخاصة «هناوة» التى ثارت ثائرتها، لدرجة اشتباكها بالأيدى مع الممثلة المتقمصة لشخصية بهية، غير مقتنعة بأن كل هذا تشخيص فقد كانت ترفض أن يشوهوا صورة صديقة عمرها بهية بأكاذيب. وهنا يجن جنون المخرج ويثور على المؤلف الذى بنى الرواية على أسس باطلة متداعية، لكن المؤلف يرمى اللوم عليه، لأنه أخرج قصته برؤيته هو، ورفض تدخله. فما كان من المخرج إلا أن وجه السباب للمؤلف ونعت الفلاحين بالجهالة وعدم الفهم. فتثور هناوة وتتحدى المخرج والممثلين فى تمثيل الرواية من خلال الواقع الذى عاشته ولمسته بنفسها مع بهية. وبالفعل يقبل المخرج والممثلون التحدى، ويأخذون أماكن المتفرجين، ليشاهدوا هناوة وهى متقمصة شخصية بهية أمام «إمام» الذى تقمص شخصية أمين صديق ياسين. ويبدأ العرض ببهية التى أحبت ياسين الذى قُتل بالرصاص لضيقه بالأحكام العرفية والكرابيج، والتى ظلت وفيّة له حتى بعد مماته، إلى أن ظهر صديق عمره أمين الذى أحبها وأرادها شريكة له فى حياته ليكمل مشوار ياسين، لكن والدها يرفض تزويجها منه وفاءً لذكر ياسين ابن أخيه. هذا وتؤدى هناوة الرواية ببراعة فائقة، لدرجة أنها بتعبيرها البسيط، استطاعت أن تجعل الجميع بما فيهم المؤلف يندمجون وينفعلون، ويظهر ذلك بوضوح على المؤلف الذى حياها بعد انتهاء العرض بحماس باك مبررًا إياه بأنه على الرغم من براعة تأديتها العرض فإنهم لم يصلوا بعد للشكل الأحسن للرواية، والذى لن يصلوا إليه إلا بوجود بهية نفسها، لأنها الوحيدة التى تعرف الحقيقة.وتنهى الرقيبة تقريرها برأى قالت فيه: “كوميدية نقدية، تهدف إلى ضرورة ربط المسرح بالجماهير. ونلاحظ أن مقدم المسرحية قد أضاف إليها بعض صفحات من المسرحية الشعرية «آه يا ليل يا قمر» لنفس المؤلف وذلك لتوضيح عصر الأحكام العرفية فى بهوت، ولا مانع من عرض هذه المسرحية بعد حذف العبارات فى الصفحات: 224، 225، 226، 236، 261، 274”.أما التقرير الآخر فكتبته الرقيبة «شكرية السيد» وذكرت فيه ملخصًا آخر للمسرحية - جاءت فيه بتفصيلات جديدة لم تذكر فى التقرير الأول - قائلة: فرقة زائرة لقرية «بهوت» مكونة من مخرج ومؤلف ومدير وممثلة لدور بهية وممثل لدور ياسين ثم الكورس.. تستعد الفرقة لتمثيل مسرحية على مسرح صغير أقيم فى القرية لهذا الغرض، يجلس الجمهور المتمثل فى فلاحى القرية على الأرض أو المصاطب لكى يشاهدوا العرض، ينفد صبر الفلاحين لتأخر العرض ويدور حوار بينهم عن المسرح وهل يسمى مرسح أو مسرح، ويدور حوار آخر بين المؤلف والمخرج والمدير عن الفن.. والثورة فى الفن.. وأنه يجب أن يكون صادقًا حتى يصل إلى الناس، ويدور حديث بين الفلاح عويس والفلاحة هناوة عن تشخيص الفرقة لقصة ياسين وبهية أو أمين وبهية، ويكون الحوار بداية المسرحية فينقلب عويس إلى ياسين، وتنقلب هناوة إلى بهية.. وتحكى بهية حلمًا رأته إلى أمها، فقد كانت تركب مركبًا فى بحر واسع موجه هادئ، وياسين يمسك الدفة ويضع شالًا أحمر على رأسه فتجئ حمامة بيضاء وتحط فوق رأسه، ويهب الريح وتجد بهية نفسها بين الموج تصرخ على ياسين ابن عمها.. وياسين يذهب بعيدًا عنها ماشيًا فوق الأمواج وفوق رأسه الحمامة، ثم استيقظت من النوم، لكن الأم تؤكد لها أن الحلم جميل، ويستعجل ياسين زواجه من بهية ولكن أهلها يؤجلون حتى دخل الاستعمار وأعلنت الأحكام العرفية، وتدخلت الهجانة والكرباج فى ردع الأهالى الثائرين وكان ياسين من القتلى برصاصهم، وتواصل الفرقة عرضها فيطلب المؤلف ذكر اسمه للجمهور ولكن المخرج يرفض.. ويستمر العرض فنرى بهية على وفائها لذكرى ياسين، تذهب كل يوم للنخلتين وتتقابل يوميًا مع الوابور، وتواصل هناوة تشخيصها لدور بهية فبعد أن كانت بهية تأتى يوميًا إلى مكان ذكرياتها أصبحت تتخلف عن الميعاد بحجة انشغالها فى الطحين والعجين والخبيز والغسيل.. إلخ ويقابلها أمين فيتحابان، ولكن والد بهية يرفض زواجها من أمين لأنه كان قد وعدها لابن أخيه ياسين.. ورغم أن أمين هذا شاب شجاع مثل ياسين قد قاسى بطش الاستعمار والرصاص والسجن والتعذيب قال على نفسه أن يواصل المسيرة من بعد ياسين لكن الأب يصر على الرفض وهى أن تبقى بهية مصلوبة أمام البطش المتمثل فى الاستعمار والقوة الغاشمة لكى تذكرهم وتفكرهم بكل ما حدث فى الماضى وسيحدث فى المستقبل، نعم «خبريهم يا بهية ع للى جتل ياسين».. وتنتهى هذه الملحمة الشعرية التى صاغ كلماتها الراحل الشاب نجيب سرور عن قصة ياسين وبهية التى حدثت فى يوم من الأيام فى ريف مصر.. والتى عاشت فى وجداننا رمزًا للظلم والبطش والقوة الغشماء التى سيطرت حقبة من الزمن فى مصر أيام الاستعمار والملكية والإقطاع.. ولكن بهية الصابرة.. العفيفة.. الوفية التى لا تعرف اليأس أو الحقد ستبقى على مرّ الزمن خالدة.. ستبقى بهية أو مصر الخالدة رمزًا للحب والعطاء والتضحية والفداء.. وسيبقى ياسين رمزًا لشجاعة الشعب المصرى البطل الذى سيتصدى للظلم والبطش، وهو إن قُتل ظلمًا إلا أن آلاف وآلاف من ياسين سيكملون المسيرة بعده. ولا مانع من الترخيص بعرض هذه المسرحية الشعرية عرضًا عامًا بعد حذف الملاحظات بالصفحات 224، 225، 266، 274.ويؤشر مدير عام الرقابة بتأشيرة على هذا التقرير قال فيها: “بعد الاطلاع على هذه المسرحية «يا بهية وخبريني» السابق الترخيص بها خلال العشر سنوات الماضية، وحيث إن هذه المسرحية تحكى قصة كفاح مصر عبر السنين ضد القوى الغاشمة سواء كان استعمارًا أو إقطاعًا وكيف أن هذا الشعب وقف صلدًا صامدًا عبر الزمن.. والمسرحية ترمز لشعب مصر الأبى من خلال ياسين الذى قتل ظلمًا لكن شعب مصر يجمع ياسين وياسين عاهدًا الله والشعب لحماية أرض الوطن، ولا مانع من الترخيص.وبعد تسع سنوات - وتحديدًا فى 17/10/1988 - تقدمت فرقة «قصر ثقافة الأقصر» إلى الرقابة من أجل التصريح لها بعرض المسرحية من إخراج «منتصر فؤاد»، فكتب الرقيب «عصام عبدالعظيم» التقرير الأول ذاكرًا فيه ملخصًا طويلًا للمسرحية، اختتمه برأى قال فيه: “لا مانع من العرض ذلك أن المسرحية من التراث الشعبى المأثور، والتى تبين لنا أصالة أبناء هذه الأرض وصمودهم الهام ضد المحن.. وذلك مع الأخذ فى الاعتبار بحذف ما ورد فى ص 224، 225، 226 على لسان المخرج حول اعتراضه على كلمة «إنشاء الله» وهى فى عرفه كلمة اتكالية لا يعترف بها العلم، لذا أرى الحذف لما فيها من خروج على التقاليد الدينية”. وعلى الرغم من أننى لا أملك النص الذى قرأه الرقيب وكتب عنه تقريره، فإننى أؤكد أنه النص الأصلى الذى كتبه نجيب سرور، أو النص المنشور الذى ارتضاه نجيب سرور أو أنه أقرب إلى النص الأصلى، حيث إن الرقيب طالب بحذف أهم ملاحظة وردت عن النص لأول مرة عام 1968. والدليل على ذلك أن الرقيبين الثانى والثالث طالبا بحذف الملاحظة نفسها، بل والملاحظات الأخرى التى أبداها الرقيب الأول عام 1968 أى منذ عشرين سنة!الرقيبة الثانية كانت «وسام سعد الدين محمد» وأنهت تقريرها برأى قالت فيه: لا مانع من الترخيص بعرض المسرحية مع ملاحظة الآتي: حذف الكلمات الآتى ذكرها: «ص 225» المخرج: “عمرك سمعت حد بيقول إنشاء الله واحد وواحد يساووا اتنين”. «ص226» المخرج: “علم له قواعده وأسسه وله رصيد كبير من التجارب الفنية فى تاريخ المسرح العالمى.. مش تقولى إنشاء الله”. ثم ذكرت الرقيبة بقية الألفاظ والتعابير الواجب حذفها، وهى عينها الألفاظ الموجودة فى النص الأصلى والتى طالبت الرقابة وقتها بحذفها، مثل: بنت كلب، يا شعنونة يا معصعصة، يا أم قويق، يا بوز الإخص، يا أبوريالة.. إلخ.كان تقرير الرقيبة «ماجدة أحمد الشيخ» آخر التقارير الثلاثة، وذكرت ملاحظاتها فى ورقة منفصلة ومرفقة بالتقرير، جاء فيها الآتي: «ملاحظات مسرحية يا بهية وخبرينى تأليف نجيب سرور»: «ص224» من أول عبارة المؤلف (قول إنشاء الله) وحتى عبارته (برضه قول إنشاء الله). «ص225» عبارة المخرج “عمرك سمعت حد بيقول إنشاء الله واحد وواحد يساووا اتنين”. «ص226» عبارة المخرج “مش تقول لى إن شاء الله”. «ص274» عبارة إسماعيل “زى يونس وألا هود فيها جنات وآخر نغنغة”.. وبذلك نال النص التصريح بتمثيلة تحت رقم «241» بتاريخ 24/10/1988.وبناء على ما سبق يتضح لنا أن «جميع» نسخ نصوص مسرحية «يا بهية وخبريني»، سواء المخطوطة أو المنشورة أو المُعدّة.. إلخ، خضعت إلى الرقابة بناء على الملاحظات التى كُتبت لأول نص عام 1968، وكأن الرقابة احتفظت بالملاحظات الأولى لتصبح مرجعية لأى نص يُقدم تحت اسم «ياسين وبهية» ويكون كاتبه «نجيب سرور» حيًّا أو ميتًا!