تاريخ المسرح العربي كما رآه دكتور فؤاد رشيد

تاريخ المسرح العربي كما رآه دكتور فؤاد رشيد

العدد 659 صدر بتاريخ 13أبريل2020

من إيجابيات حالة الحظر التي نعيشها الآن هي القراءة التي جعلتنا نكتشف دررًا تحملها أرفف مكتباتنا، وقد نسيناها مع ازدحام الحياة بالكثير من التفاصيل والشخصيات، من هذه الدرر التي اكتشفتها كتاب «تاريخ المسرح العربي» للدكتور فؤاد رشيد، الذي أمتعني كثيرًا ، وقد قررت أن أنقل جزء من هذه المتعة للقراء.
 صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب عام 1960 بعد نشر فصوله كمقالات بجريدة المساء تباعًا عام 1959، وصدرت الطبعة الثانية وهي التي بين يدي الآن عام 2006 عن سلسلة ذاكرة الكتابة بالهيئة العامة لقصور الثقافة. وتقع في (111) صفحة من القطع الكبير.
 حفل الكتاب بثلاث مقدمات هي: مقدمة المؤلف وسبقتها مقدمة للأستاذ زكي طليمات، ومقدمة للأستاذ عزيز أباظة، ولأنني على يقين أن هذه المقدمات لا تقل أهمية عن فصول الكتاب فهي تمثل دراسات مختصرة لفن المسرح في المرحلة التي تضمنها الفصول، كذلك التعريف إلى حد ما بالمؤلف.
 صدر الكتاب في طبعته الأولى بعد وفاة مؤلفة الذي صدره بإهداء إلى عزيز أباظه، الذي رأى هذا الإهداء حين طُلب منه أن يكتب تقديم له، وجاء في هذا التقديم: عرفت صديقي فؤاد رشيد وبواكير الحياة تراوحنا بغضارتها عند أعتاب المدارس الثانوية، ثم قطعنا معًا هذه المراحل من الزمن حتى فجعت به أول من أمس، فاشهد الله أنني ما أخذت عليه مأخذًا هابطًا، ولا أحصيت عليه خسيسة، وأشهد الله كذلك- وهو بين يديه وأنا في طريقي المجهول إليه- أنه كان الشاب العف المتزن، وكان الرجل الكريم المدرع بالخلق الكريم، وكان الكهل الذي زكت به القيم، وزكت عنده القيم.
 وتحت عنوان تعريف وتقديم جاءت مقدمة زكي طليمات: التي جاء فيها: هذا كتاب في تاريخ المسرح العربي وليس كل تاريخه، وإذا أردنا التحديد فنحن أمامنا سجل جمع بين دفتيه تراجم لرواد المسرح في مراحله الأولى وفيما تلاها حتى عام 1923، كما ازدحم بحوادث وأحداث فنية واجتماعية مما تخلل حياة المسرح العربي عامة والمسرح المصري خاصة، وهو يسير بدافع التطور المحتوم، ويكتسب أرضًا جديدة في الوعي العربي الذي لم يشغله فن التمثيل في كثير أو قليل قبل مائة عام.
كما ذكر أن محتوى هذا الكتاب ما هو إلا صور شغلت خيال مؤلف، بعضها عن طريق السمع والبعض الآخر عن طريق المشاهدة، فعاش في ذكرياتها، ليسجلها بعد ذلك وينشرها تباعًا في جريدة المساء عام 1959.
ثم قام بتعريف المؤلف: هو طبيب تمرس بالطب ولم يتمرس فنون المسرح إلا أنه عشق المسرح، وكان من أكبر هواته ومن المعنيين بأمره، حيث كان عضوًا في عدة لجان مما شكلتها الدولة للإرتقاء بالمسرح، مؤكدًا أن هذه المعلومات لم تقلل من أهمية الكتاب أو من قدر مؤلفه، مضيفًا أنه أحب المسرح حبًا جمًا وقد أعطاه أكثر مما أعطى مهنة الطب التي كان يزاولها.
 وفي سياق آخر عرف منهج الكتاب أن المؤلف أجرى تقسيم تاريخ المسرح العربي إلى ستة عصور، حيث أن كل عصر يعبر عن مرحلة من مراحل تطور فن التمثيل لدى كل شعب تمثل الإطار البارز التي تستقر فيه الصورة التي يكون عليها الوعي العام والمزاج العام، وأضاف أن المؤلف كان معنيًا بتسجيل انعكاسات المسرحيات على الجمهور وبالعكس وفي نطاق محدود، أكثر مما يعنى بالمسرحية نفسها في مصادرها وبنيتها ومظاهر تطورها، وبذلك فإن المسرحية لديه تمثل العصب الأول في تاريخ المسرح وهي العنصر الذي يربط المسرح بالأدب.
وقد كان زكي طليمات موضوعيًا في هذه المقدمة التي أورد فيها وجهة نظره التي تختلف عن وجهة نظر المؤلف حيث كتب: ما كان يعتقده المؤلف في ماهية «هواية المسرح» فقد حدد هذا بقوله: (الهواية هي مهبط الوحي، والمصدر الأول الذي تنبعث منه الأسس السليمة للفن الصحيح)، وهذا آراه من قول المتعصب للشئ الذي يحبه –والمحب غير ملوم- إلا أن هذا الرأي يحتاج إلى تلطيف، إنزالاً للأمور منازلها الصحيحة، أوافق المؤلف على أنه يصح أن تكون الهواية مهبطًا للوحي، باعتبار أنها من البواعث التي تلهب المواهب على الانفعال والإنتاج، ولكنني لا أوافق –فيما أعلم- على أن تكون الهواية (المصدر الذي تنبعث منه الأسس السليمة للفن الصحيح)، إذ لو صح هذا لأصبح كل هاو للتمثيل أستاذًا ثبتًا في فنون المسرح، أو بعبارة أخرى يكفي أن تحب التمثيل وتهواه، لتبلغ من فن الممثل الغاية القصوى، والرأي عندي أنه لامتلاك ناصية فن الممثل، لا يكفي أن تكون لك مواهب فنية، بل يجب أن تفقه أصوله، لأن فن التمثيل كغيره من الفنون، لا تغني فيه الموهبة عن التعليم، ولا التعليم عن الموهبة.
كما اختلف أيضًا في بعض المعلومات التي تضمنها السرد التاريخي منها: «مارون النقاش» لم يقدم مسرحيته الأولى في دمشق وإنما قدمها في بيروت مسقط رأسه.
كما اختلف أيضًا على مسرحية «مصر الجديدة» التي ذكر المؤلف أن الذي كتبها هو أنطون فرح ومثلتها فرقة جورج أبيض عام 1913، مؤكدًا أنها مقتبسة بتصرف باهر من قصة للكاتب الفرنسي المعروف «إميل زولا»
وأكد في نهاية مقدمته أن الميزة الأولى للكتاب أنه على صغر حجمه يوحي ويشق آفاقًا واسعة للتفكير في حياة المسرح الناشئ، وأن ما أخذه على المؤلف ليس من باب اصطياد الأخطاء وإنما هو اختلاف في وجهات النظر، ثم وصفه بأنه أمير هواة المسرح والإنسان الكبير القلب.
 وفي مقدمة الكتاب ذكر مؤلفه الدكتور فؤاد رشيد أن: التمثيل فن من أعرق الفنون وأجملها وهو بمعناه الدقيق جملة فنون اجتمعت تحت لواء هذا الاسم فهو يضم الأدب والشعر والتأليف والترجمة إلى جانب الإلقاء والآداء والتلحين والموسيقى والرقص، ثم الذوق السليم في إظهار المناظر والملابس والأثاث، كل هذه الفنون مجتمعة تعني فن التمثيل.
وأضاف أنه فن من أعرق الفنون أرجعه إلى خمسة آلاف سنة إلا أنه غريبًا على قوميتنا العربية مستحدث على لغتنا، وذكر أن من العقبات التي وقفت في طريق النهوض به هو حجاب المرأة التي ظلت بعيدة عنه كممثلة ومتفرجة، وأنه لم يلق أي تشجيع في بداياته من الحكومات المتعاقبة وذكر في هذا السياق بعض الأمثلة منها: هارون الرشيد الذي بمجرد ظهوره على المسرح أثار المشايخ الرجعيين ورفعوأ احتجاجًا إلى الحكومة العثمانية فأمر السلطان بمنع التمثيل في دمشق، كذلك الخديو إسماعيل الذي لم يسمح لفرقة عربية أن تعمل على دار الأروبرا، بينما سمح  لفرقة يوسف خياط لنفي تلك التهمة عنه، بل وحضر بنفسه أولى الحفلات حيث تعرض رواية «الظلوم» التي تدور أحداثها عن حاكم ظالم فاعتقد أنه المقصود فأمر بإخراج يوسف خياط من مصر وإغلاق مسرح دار الأوبرا أمام كافة الفرق العربية.
ضم الكتاب ستة فصول تناولت المراحل المختلفة التي مر بها المسرح منذ نشأته عام 1847حتى 1923هي كما ذكر في المقدمات السابقة، وجدت منها أربعة فقط في هذه النسخة هي:  
 العصر الأول (البدائي) 1847: 1905 وهو العصر الأول لظهور التمثيل والذي لم يراع فيه أي قواعد للفن سواء من حيث التأليف أو الإخراج أو المناظر، فكان المسرح يقام في أي مكان كشرفة منزل أو ساحة ميدان عام، وكان للجمهور سلطة كبيرة حيث يمكنه التدخل في التأليف والتمثيل ويفرض رأيه على المؤلف الذي يستجيب له وإلا أنصرف عنه الجمهور، وكانت مجموعة الممثلين ممن لا ثقافة لهم على الإطلاق يؤدون أدوارهم بأية طريقة تحلو لهم، كما كان ظهور المرأة على المسرح يعد خروجًا على الدين والأخلاق، فكان يعهد بأدوار النساء إلى شبان صغيري السن، وكانت المحاولة الأولى للتمثيل في الإقليم الشمالي «سوريا» على يد مارون نقاش، ثم المحاولة الثانية في بيروت على يد سليم نقاش، حتى بدأ التمثيل في مصر على يد يعقوب صنوع، ثم فرق الشام واسكندر فرح.
 العصر الثاني (الغنائي) 1905: 1912
بدأ هذا العصر بظهور ممول جديد عشق فن التمثيل وبذل تضحيات كبرى للنهوض به رغم أن ظروفه المالية كانت محدودة هو عبد الرازق عنايت المفتش بوزارة المالية في ذلك الوقت، الذي أنشأ دار التمثيل العربي بالتعاون مع الشيخ سلامة حجازي بعد انفصاله عن اسكندر فرح، وكانت اول فرقة تمثيلية منظمة، ووأول مسرح معد إعدادًا فنيًا صميمًا ومزود بأفخم المناظر والملابس وبه مكان مخصص للسيدات، وكان الافتتاح يوم الثلاثاء 8 أغسطس 1905 برواية هاملت، ونجحت الفرقة وحققت نجاحات كبيرة على مستوى الأقطار العربية إلى أن مرض الشيخ سلامة حجازي، وقامت الفرقة بعمل محاولات كثيرة للاستمرار والنجاح بسبب ابتعاد الجمهور الذي كان لا يقدر الرواية إلا بقدر ما تحتويه من أغنيات وبصوت الشيخ سلامة حجازي، ورغم عدم إقبال الجمهور إلا ان هذه المحاولات كانت نقطة تحول كبيرة حيث أدت هذه المحاولات إلى حيث نجحوا في خلق جمهور جديد يتذوق الرواية الفنية التي تخلو من الغناء، كما كسب المسرح خلال تلك الفترة طبقة من الجمهور المثقف الذي لم يكن يرتاد المسرح من قبل.
شمل هذا الفصل أيضًا نماذج لما كانت تكتبه الصحافة من مقالات نقدية عما يقدم في المسارح، كذلك بعض نماذج من الإعلانات التي كانت تنشر في الصحف لترويج العروض المسرحية، كذلك مجموعة مقالات للممثلة مريم سماط التي نشرت وقتها في جريدة الأهرام وتناولت فيها مذكراتها، وهي من أولى الممثلات اللائي ظهرن على المسرح وكانت بطلة معظم روايات الشيخ سلامة حجازي، كما أنها كانت أديبة وهي أول سيدة تنشر مذاكراتها على صفحات الجرائد، كما ضم الفصل أيضًا أول لائحة للمسرح .
العصر الثالث الجدي (التراجيدي)
بدأ هذا العصر بعودة جورج أبيض عام 1910من فرنسا مع فرقة فرنسية كان هو رأسها، ثم كون فرقته المصرية الأولى وأحدث ثورة حقيقية في المسرح المصري، حيث استدعاه سعد زغلول بعد أن شاهد فرقته الفرنسية، فطلب منه أن يكون فرقة مصرية، ووضع عبد الرازق عنايت تحت تصرفه ما يريده من مال، وبالفعل تم تكوين الفرقة التي بدأت بثلاث روايات كبيرة هي: أديب الملك لسوفوكليس، لويس الحادي عشر لكازيمير دي لافين، وعطيل لشكسبير، ووافقت الحكومة على أن يقدم موسمه الأول بدار الأوبرا التي ساهمت بإعداد أروع المناظر وأفخم الثياب، وتم الافتتاح يوم الثلاثاء 19 مارس 1912.
ضم هذا الفصل أيضًا التعريف بجوق عبد الله عكاشة، وكذلك المسرح المصري خلال الحرب العالمية الأولى.
العصر الرابع (الفكاهي) 1916: 1922
بدأ باستعراض الظروف التي مرت بها الرواية الفكاهية على المسرح العربي، حيث لم يكن لها شأن يذكر خلال العصور الثلاثة الأولى للتمثيل، إلا أن الشيخ سلامة حجازي قد اعتاد أن يختتم حفلاته التمثيلية بفصل مضحك، يقوم ببطولته محمد ناجي وأحمد فهيم الفار، ليس له أية علاقة بموضوع الرواية والهدف منه هو إضحاك الجمهور، وله محاولة واحدة لتقديم رواية فكاهية هي «أبو الحسن المغفل» ولم تلق قبولاً من الجمهور، كما أن عزيز عيد خاض التجربة نفسها عام 1907 بتقديم رواية «ضربة مقرعة» التي قدمتها فرقته على مسرح دار التمثيل العربي وفشلت أيضًا، كما أن روايات عثمان جلال التي قدمها جورج أبيض سقطت سقوطًا كبيرًا، وظلت هذه المحاولات إلى أن التقى استفيان روستي بنجيب الريحاني وقدما معًا اسكتش خيال الظل حيث يقوم استفان بحركات هزلية بينما يجسد الريحاني شخصية الخادم بربري بمقهى «لابيه دي روز» بشارع الألفي، بعد ذلك تعددت الفرق الكوميدية وتقديم العديد من الروايات الكوميدية.  
تناول الفصل قصة حياة نجيب الريحاني الذي وصفه المؤلف بأنه أكبر ممثل عرفته الجماهير خلال النصف الأول من القرن العشرين، كما قال وصفه بأنه كان ممثلاً موهوبًا يملك زمام جمهوره، وفيلسوفًا وفنانًا أصيلاً عاش لفنه فقط رغما عن كل ما لاقاه من عقبات وحرمان وشظف من العيش.
وقد أشار في خاتمة الكتاب إلى عدة أحداث هامة هي:
- اهتمام طلعت حرب بأمر المسرح وتكوينه شركة كبرى تحت لواء بنك مصر. أسماها «شركة ترقية التمثيل» التي أعادت بناء مسرح الحديقة لتعمل عليه فرقة عكاشة.
- عودة يوسف وهبي من إيطاليا وتكوين فرقة رمسيس.
- ظهور الرواية «الأوبرا الكاملة» لأول مرة على المسرح المصري.
- ظهور أمير الشعراء أحمد شوقي كمؤلف مسرحي.
- الانقلاب الكبير الذي أحدثه الريحاني في الكوميديا المصرية.
- تعضيد الحكومة للتمثيل بإقامة المباريات المسرحية، وإيفاد البعثات الفنية للخارج، ثم إقامة أول معهد للتمثيل، ومعاونة اتحاد الممثلين ثم الفرق، ثم تكوين الفرقة القومية بإشراف ورعاية الحكومة.
- ظهور السينما المصرية وأثرها على المسرح.
- ظهور الشاعر المجيد عزيز أباظة خليفة شوقي وتقديم ما يقرب من عشر مسرحيات من أروع ما كتب.
- قيام ثورة 23 يوليو 1952، ومن آثارها على الفن أن شمل الرئيس جمال عبد الناصر المسرح باهتمامه بتكريم كتاب المسرح بأن أنعم على توفيق الحكيم أكبر وسام في الدولة، وأنشأ المجلس الأعلى للفنون والآداب، وأعيد تنظيم معهد التمثيل حتى ارتفع إلى مصاف المعاهد العلمية العليا.


نور الهدى عبد المنعم