العدد 825 صدر بتاريخ 19يونيو2023
بدأ المسرح العربي نهضته من خلال ما يسمى «مسرح المؤلفين»، في عشرينيات القرن الماضي، من خلال نصوص توفيق الحكيم وعثمان جلال ومحمد تيمور، واتخذت تلك النصوص مسارين أساسيين.
المسار التراثي، كما في بعض نصوص توفيق الحكيم مثل «أهل الكهف».
المسار الواقعي: كما في مسرحيات محمد تيمور مثل «جلفدان هانم»، ومسرحية «شبابنا في أوروبا» لعثمان صبري، وهذه المسرحية كانت البداية الحقيقية للمسرح الواقعي في العالم العربي، لأنها كان يكمن فيها ما يمكتن أن يسمى «التحضير المسرحي»، بمعنى تهيئة الجمهور للأحداث، تلك الفكرة التي يقول عنها «ستوارت كريفش» في كتابه «صناعة المسرحية»: «إذا كان المسرح هو في التحضيرات التي لا تعني إلا استخدام الحرفية في تهيئة المشاهد للأحداث التي يرى الكاتب أنها مهمة، فإن القارىء/ المشاهد من جانبه لن يتمكن من أن يفهم أويقدر أو يتأثر وربما لا يستطيع الإحاطة بالأزمة التي تعرض لها المسرحية إلا من خلال التحضير الجيد» (1)
ويرى د. سامح مهران أن مسرحية «شبابنا في أوروبا» تقترب من الدراما الاجتماعية وتبتعد عنها في نفس الوقت على مستوى السطح، تتناول المشاكل الأسرية وتعرض لعلاقات الأزواج والزوجات والآباء والأبناء، وهي تستند إلى قالب درامي جاد بها رجال ونساء يمكن لأفراد الجمهور أن يتوحدوا معهم، إلا أن المسرحية على مستوى العمق تتعرض لشأن من شئون الدولة هو علاقة الإسلام بالغرب، وهنا تعلة ابتعادها عن الدراما الاجتماعية»(2)
ومع المرحلة الثانية في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، نضجت الرؤية الواقعية، مع دخول النظريات السياسية إلى الحقول الأدبية، مثل «الواقعية الاشتراكية» والتي بدأت تظهر على السطح من خلال الناقدين محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس من خلال كتابهما المشترك «في الثقافة المصرية» والذي أثار جدلا واسعا عند صدوره في أوائل الخمسينيات، هذا الكتاب كان له تأثير واضح على جيل كامل من الأدباء والكتاب، ففي مجال المسرح وجدنا تأثرا واضحا في كتابات نعمان عاشور، والذي يعد رائدا للمسرح الواقعي في العالم العربي-، من خلال مسرحياته «الناس اللي فوق» و»الناس اللي تحت»، ومن بعده يوسف إدريس في مسرحيته «جمهورية فرحات»، ومسرحيات «علي سالم» المختلفة، وكذلك في مسرحيات محمد الماغوط، في سوريا، ومحمد النشمي في الكويت.
ومع بدايات عام 1968م، وبعد فشل الحركة الثورية في فرنسا، بدأ التوجه النقدي للمسرح ما بعد الحداثي، «يتعرض المسرح ما بعد الحداثي للجديد الذي لا هوادة فيه –على حد تعبير ليوتارد- ومن ثم تنحو أعماله إلى الابتكار المنحرف عن الوضع السوي، فلغته لا تعود سهلة بالنسبة إلى المشاهد، فليس هناك زاوية يتمكن المشاهد من خلالها رؤية العمل وفهمه، والأحداث غير متوقعة تتسم بالفرادة وتنأى بنفسها عن أي تكافؤ أو تناسب مع أفكار سائدة»(3)
في تلك المرحلة ظهرت تجارب عالمية حاولت تطوير تقنيات الكتابة والإخراج المسرحي مثل تجربة «بارو» «لقد جمع بارو كل التقنيات التي طورها في عروضه المبكرة، مازجا بذلك بين مواضعات من عالم السيرك، وأخرى موسيقية، وثالثة من مسرح العرائس، كما استخدم الأغاني الإيقاعية والأقنعة المميزة، والحركات الخاصة بمسرح الكابوكي والتمثيل الإيمائي، وذلك لاستدعاء البيئة الخاصة بالشخصيات، ودمج هذه الشخصيات بالطبيعة حولها»(4)
وكان «بارو» يعتمد في عروضه على ممثلين متجولين، كما كان مجموعة من الممثلين الآخرين في أرديتهم الحديثة يختلطون بالجمهور عند دخوله حاملين معهم الأكسسوارات الخاصة بالعرض والملابس، وهذه العلاقة الوثيقة مع الجمهور تم التأكيد عليها من خلال مخاطبة الجمهور بشكل مباشر أثناء العرض.
وهذا ما وجدناه في النصوص التي كتبيها يسري الجندي ومحمد أبو العلا السلاموني، ومحمود دياب، وسعد الله ونوس، ونجيب سرور، وسمير عبد الباقي وهشام السلاموني، وعز الدين المدني وغيرهم، من الكتاب المسرحيين الذين حاولوا توظيف الموروث الشعبي داخل بنية النص المسرحي.
وقد رأى « يوسف إدريس « أن الريف لا يزال به السامر كمسرح شعبي، بالإضافة إلى وجود خيال الظل والأراجوز وكلها أشكال مسرحية قابلة للتطور، ويمكنها – لو قدمت بتقنيات متقدمة أن تمثل نقلة جديدة تحمل خصوصية للعرض المسرحي المصري والعربي. وربما هذا ما جعل أحد كتاب هذا الجيل وهو «محمد أبو العلا السلاموني» يقول في أحد شهاداته عن تجربته: «إن المسرح يقتضى تهيئة الأذهان للمتعة الجماعية والمشاركة الوجدانية التي لا تنشأ فجأة إلا إذا كان لها جذورها الفنية المتأصلة داخل المجتمعات، وهذه المتعة الجماعية تنشأ عادة من ممارسة الجماعة للعبادة في دور العبادة التي تهتم بالمتعة الفنية، هكذا كانت المعابد الإغريقية والرومانية والكنائس الأوروبية التي تسمح بهذه المتعة الفنية المصاحبة للعبادة مثل ممارسة فنون الغناء والرقص الديني والموسيقى والتمثيل والتشكيل ومن ثم انتقلت إلى ممارستها خارج المعابد والكنائس ثم استقلت عن الظاهرة الدينية تماماً (5)
ونراه يؤكد على نفس الفكرة التي دعا إليها «يوسف إدريس» الخاصة بالفضاء المسرحي فيقول: «إن المسرح يقتضى ملعباً أو ساحة أو مكاناً مخصصاً لتجمع الجماهير الواسعة لممارسة ومشاهدة اللعبة المسرحية وهو ما توافر في المدرج الإغريقي والروماني وقاعات القصور لدى الملوك والأمراء والنبلاء إلى أن انتهى إلى شكل العلبة الإيطالية المعروفة وهو أمر اقتضته الظروف السياسية والعسكرية على الملأ، بينما كان الأمر مستحيلا عندنا هنا في الشرق لأن تجمع الجماهير كان يعني الثورة والفتنة الكبرى والوثوب على السلطة»(6).
ربما هذا ما جعله يقدم معظم نصوصه مستنداً على أقنعة تاريخية مثل مسرحية «مولد يا بلد» و«رواية النديم عن هوجة الزعيم» و«الحريق» و«تغريبة مصرية – ست الحسن» و«رجل القلعة» وغيرها من الأعمال فى إطار من المسرح الشعبي الذي جمع في طياته فنون الأداء الشعبية – مستخدماً تقنية «المسرح داخل المسرح» على حد تعبير د. رضا غالب، فاستخدم السامر الشعبي في «رواية النديم عن هوجة الزعيم» وخيال الظل في عرض «مآذن المحروسة» بالإضافة إلى فن المحبظين وألعابهم التشخيصية ليقدم رؤية درامية لوقائع تاريخية، بالإضافة إلى استخدامه لتيمة الارتجال الشعبي في مسرحية «أبو نضارة» والتي تتناول نشأة أول مسرح مصري وتصادمه مع السلطة في أول تجربة صراع وصدام حقيقيين في القرن التاسع عشر بين الفن والسلطة، وهذا ما حدث – أيضاً – مع مسرحية «حلم ليلة حرب».
وقد يكون لجوء هذا الجيل إلى غربلة الموروث الشعبي بحثاً عن هوية مسرحية، لمواجهة تداعيات هزيمة يونيو 1967 والتي أحدثت شرخاً عميقاً في الوعي الشعبي، وكان هذا الشرخ أعمق عند النخبة المثقفة .
هوامش
1- ستوارت كريفش: صناعة المسرحية- ترجمة عبد الوهاب علوب، ط1، 2000م- ص172.
2- د. سامح مهران: الحداثة والتراث في المسرح العربي- المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية- القاهرة- 2005م- ص58.
3- الحداثة والتراث في المسرح العربي- مصدر سابق- ص116.
4- كريستوفر اينز: المسرح الطليعي- ترجمة سامح فكري- مركز اللغات والترجمة أكاديمية الفنون- 1994م- ص198.
5- أبو العلا السلاموني: المسرح والتجريب- مجلة فصول- الهيئة 6- المصرية العامة للكتاب- أكتوبر 1996م.
6- محمد أبو العلا السلاموني: مصدر سابق.