حياة بديعة مصابني من الشارع إلي قمة المسرح

حياة بديعة مصابني من الشارع إلي قمة المسرح

العدد 703 صدر بتاريخ 15فبراير2021

تحمل المخيلة الجماعية ، صورة ذهنية ، ضبابية وقاتمة ، بمجرد أن يقفز أسم بديعة مصابني في أي مناسبة .
هي صورة الراقصة اللعوب ، صاحبة الكازينو الشهير الذي كان يعج بالسهاري – وكل أشكال الخلاعة والمجون  ، لدرجة أن اسم بديعة صار معادلاً إيحائياً  للأنحلال والتسيب .  
أن تفاصيل ووقائع حياتها المثيرة والصاخبة والمشحونة بالمواقف المصيرية ، منذ صباها في سوريا (الشام) قبل قرار التقسيم ، ثم رحيل ابوها وكانت بديعة أصغر اخواتها ، أربعة صبيان وثلاث بنات وأول موقف في حياتها الدامية تعرضها وفي تلك السن الصغيره لحادث اعتداء جنسي  مما اضطرهم  للهجرة الي امريكا اللاتينية وتحديداً إلي الأرجنتين التي كانت وجهة الراغبين في الثراء من أبناء الشام .
تعلمت بديعة اللغة الأسبانية ، لغة الأرجنتين ، كما  تدربت علي اصول الرقص الإيقاعي ودون الخوض في تفاصيل عائلية ، رأت الأم ان ترحل بأسرتها إلي مصر بحثاً عن أخاً  لها ، وفي القاهرة وبالقرب من حديقة الأزبكية (كانت منطقة مسارح ) كانت الشابة بديعة تمارس هوايتها في التزلج علي الباتيناج فوق رصيف الحديقة فيراها فؤاد سليم الذي يعرفها ويلحقها بفرقة “جورج أبيض” الذي تعاطف معها في البداية كونها بنت بلاده “الشام” ، ووضعت بديعة لنفسها أول خطوة علي خشبة المسرح ، لتؤدي أغاني خفيفة بين فصول العرض المسرحي وكانت تمتلك صوتاً لامعاً وأداءاً موسيقياً سليماً ، حتي أنها أقدمت علي ملأ “تسجيل “ اسطوانات خاصة بها وقدمت اغاني مثل “الغيرة يا نار الغيرة “ ، “ ئفي الضلمة” ، “ القطن “ ، “ رقصة بديعة “ ، “ غني يا بلابل” ، “مين اللي كابس طربوشه “ وغيرها , كما قدمت مجموعة من الدويتوهات مع نجيب الريحاني في الأعمال المسرحية التي لحنها الموسيقار ذائع الصيت وقتها السيد درويش البحر
وكان ذلك في مرحلة تالية في عهد الكازينو 1929 الشهير في ميدان الأوبرا .
غير أنها تركت فرقة جورج أبيض  وأنضمت إلي فرقة الشيخ أحمد الشامي كان صاحب فرقة جواله  بمقابل مادي أكبر ستة جنيهات في الشهر وهو ما كانت تسعي إليه في كل مراحل حياتها بعد مالاقته من معاناة العيش في صباها ومن هاجس الخوف أن يداهمها الفقر ثانية في أواخر عمرها ، فنجدها حين أوشكت علي الأفلاس بعد أقدامها علي مغامرة سينمائية ، وإنتاج وبطولة فيلم “ملكة المسارح” وذاقت مرارة الفشل وقامت الضرائب بالحجز علي أملاكها وعادت  مرة أخري  إلي فرقة الريحاني ، ومرة ثاية ، حين فرت من مصر بجواز سفر مزور بعد أن باعت الكازينو للراقصة ببا عز الدين  ، غير أنها لم تنسي مطلقاً ثروتها ومجوهراتها التي جمعتها طوال السنين وظلت تحتفظ بها وظهرت بها في لقاء تليفزيوني وعمرها يقارب الثمانين .
كان لقبها في فرقة الريحاني ، “عروس المسارح السورية” وتزوجت نجيب الريحاني في عام 1924 وقدما سوياً أعمال مثل  “ الليالي الملاح ، الشاطر حسن ، أفوتك ليه ، كشكش في الجيش ، وكشكش هي الشخصية التي يتقمصها الريحاني وينافس بها فرقة علي الكسار الذي كان يلعب علي شخصية “بربري مصر “ .
لكن نزعة الشخصية المستقلة ، الكامنة بداخل بديعة نزعت الستار وأسست فرقة جديدة مع المؤلف أمين صدقي والمطربة المشهورة فتحية أحمد وبمشاركة الريحاني ، وقدمت الفرقة الجديدة مسرحيات حلاق بغداد – الأمير ، أيام العز، حتي قررت الأنفصال عن الريحاني كما يورد
 د. سيد علي اسماعيل في كتابه مسيرة المسرح في مصر 1900 – 1935 .
تفرغت بديعة بعد ذلك لتقديم الأعمال الاستعراضية من عامي 1928- 1927 بكازينو عماد الدين ، وما يثار  من ايدعائات حول كون الكازينو عماد الدين كان مرتعا للبنات الهاربات من اسرهن ولعربدة ظباط الأحتلال الانجليزي وحاشية قصر الملك كما يذهب العض الي كونه بؤرة لأعمال التجسس وغيرها من الأدعاءات ويكفي انها خصصت يوم الثلاثاء في الاسبوع لحضور السيدات فقط . وفي اطار الأعمال الاستعراضيه قدمت مجموعة رقاصات هامة وموثقه الحركة والموسيقي وذلك قبل ظهور فرق الرقص الشعبي كفرقة رضا وغيرها مثل رقصة البدو , الغزال , الطاووس .
ومرة أخري تعود إلي الريحاني  وهذه المرة تقوم الفرقة بجولة خارجية  الي الأرجنتين  تحديداً ومن سان بولو إلي بوينس أيرس وغيرها تروي بديعة في أحاديثها الأخيرة أن الريحاني نال “سوكسيه “ وأنه كان ممثل عظيم جداً وأنهما قدما شغل رائع علي المسرح، ومن يشاهد صورتها مع كلبها تجلس علي نفس المقهي الذي اعتادت ان  تجلس فيه مع الريحاني وذلك بعد رحيله وهي صورة تتنافي تماماً مع ما يثار حول أنها دأبت الشكوي منه وكانت تراه  مملاً وكئيباً .
المسرح المتجول :
وتعتبر بديعة مصابني من اوائل من خاضو في اتجاه المسرح المتجول  حيث كانت تعرض أعمالها الأستعراضية والمسرحية في المحافظات بخاصة القريبة من القاهرة مثل السويس ومدن الوجه البحري والإسكندرية التي لا تتطلب المبيت سوي ليلة واحدة وكان أجر الفرقة مائتي وخمسون جنيهاً بالإضافة إلي تحمل مصاريف  التنقل مما يعد أجراً باهظاً في ذلك الزمن .
بديعة مصابني هي قصة المعاناه مع الفقر والغربة والقهر  ، قصة الصمود والتشبث بأهداب الحياة ونحت طريق النجاح والشهرة والمال والتربع فوق عرش المجد .
هي قصة معادة ومكررة عانى منها أسماء خالدة في تاريخ البشرية كالمطربة الفرنسية “أديث بياف” و”شارل شبلن “ و بوب مارلي “سيد درويش “ وغيرهم .
ومهما تداولت الأقلام سيرة بديعة مصابني وقيل ان الكازينو الذي حمل اسمها كان مرتعاً للخارجين عن القانون والساقطات ومقر لرجال الحكم والتجسس  فيكفي ان نجوم الغناء والسينما في ذلك العهد خرجو من اكاديمية بديعة مصابني أمثال فريد الأطرش ، سامية جمال ، تحية كاريوكا ، ببا عز الدين ، محمد فوزي ، اسماعيل ياسين وغيرهم .
أين التوثيـــق :
ويكشف اللغو الكثير في سيرة واحدة من رائدات الأبداع المسرحي والاستعراضي في تاريخ مصر إلي غياب التوثيق المدروس والممنهج وندرة الوثائق والشهادات من قبل المؤرخين والمعاصرين للأحداث ناهيك عن تلاعب المصادر الصحفية بسيرتها وتحميلها عناوين ساخنة .
وهي إشكالية تلقي بظلالها الوخيمة علي مسيرة الفن وتاريخه وخاصة فيما قبل القرن العشرين ونصفه الأول بالذات


محمد الصاوي