وما زال الريحاني يروي!!

وما زال الريحاني يروي!!

العدد 814 صدر بتاريخ 3أبريل2023

استكمل نجيب الريحاني مذكراته – التي نشرها «قاسم وجدي» - في مجلة «الصباح» عام 1933، حيث توقفنا في المقالة السابقة عند نجاح الريحاني وإستيفان روستي في ملهى «الأبيه دي روز» واشتراطهما على صاحب الملهى بزيادة المرتب! بعد ذلك قال الريحاني: وبدأنا في تنظيم عملنا والتقرب به قدر الإمكان من الفن وإطلاق أسماء على الروايات الصغيرة، التي نمثلها فأطلقنا اسم «تعاليلي يا بطة» على الرواية الأولى، ثم مثلنا أخرى باسم «بستة ريال»، وثالثة باسم «بكره في المشمش»! تم جاءنا أمين صدقي فعهدنا إليه بتمثيل دور المرأة الشلق. وانضم إلينا بعده «عبد اللطيف المصري» و«كلودريكانو» و«عبد اللطيف جمجوم»، ومثلنا مع هذه المجموعة ثلاث روايات هي: «بلاش أونطة، وخليك تقيل، وهزّ يا وزّ».
بعد أن اشتغلنا في «الأبيه دي روز» جاءنا المرحوم المسيو «ديمو كنجوس»، وعرض علينا أن يتولى الإدارة المالية لنا بشروط مغرية، فقبلنا أن نترك «الأبيه دي روز»، واتفقنا مع المسيو «ديمو» الذي استأجر لنا «كازينو الرينسانس» بشارع فؤاد، الذي تحول فيما بعد إلى تياترو جورج أبيض! وكان المسيو «ديمو كنجوس» يشتغل مقاولاً لردم الترع، وحفر المصارف، وإقامة الجسور، وكان قد جمع ثروة كبيرة من عمله فأراد أن يستغلها معنا، واشتغلنا في «الرينسانس» مدة قليلة، أخرجنا فيها نوعاً من الروايات الصغيرة تتخلل مشاهدها العربية مشاهد أفرنجية، ولهذا أطلقنا عليها «الفرنكو آراب»، وكانت أول رواية أخرجناها على هذا المسرح «أبقى قابلني»! بعد ذلك رأينا أن العمل يتسع، وأنه يجب أن نتوسع فيه، وأن بقاءنا في كازينو «الرينسانس» لا يساعدنا على ذلك، فاستقر رأينا على البحث عن غيره، فاهتدينا إلى شارع عماد الدين ولم يكن به من المسارح إذ ذاك غير مسرح «الكور سال» و«كازينو دي باري» للرقص والغناء الأفرنجي، فاخترنا فيه قهوة عالية كان اسمها «الكريدي فرانسيه» استأجرناها واقمنا عليها مسرح الإجيبسيانا، الذي سُمي الآن «برنتانيا».
وبدأنا عملنا على مسرح الإجيبسيانا في سبتمبر سنة 1917 برواية «أم أحمد» وكنت أمثل فيها دور «بلبوص أفندي»! وكان إيراد الفرقة وأرباحها من اختصاص المسيو «ديمو»، وكان مرتبي أنا 120 جنيهاً في الشهر فوجدت أن في هذا غبنا عليّ، فعرضت على المسيو ديمو أن يدخلني معه شريكاً بعملي فرفض فانفصلت عنه! وظن أنه يستطيع مواصلة العمل بدوني فعمد إلى الأستاذ «حسين شفيق المصري» لتأليف رواية کوميدي، فألف «دقة بدقة» واشترك في تمثيلها: حسين رياض، كلود ريكانو، إستيفان روستي، عبد اللطيف المصري، عبد اللطيف جمجوم. وبعد أن استمر تمثيلها قليلاً عاد إليّ المسيو ديمو يتفاوض في شروطي، فاتفقنا على أن يكون له من مجموع الدخل ثلاثون في المائة مقابل التياترو، وليس له شأن مطلقا في نفقات الفرقة وما يبقى منها! وسرنا على ذلك، ومثلنا الروايات الآتية بالترتيب: كله في الهوا، حماتك تحبك، حلق حوش، حمار وحلاوة، على كيفك، كله من ده، 18 – ?0، ولو ، إش، قولوا له، رن، فشر ، فرجت، أنت و بختك، 24 قيراط، من نوع الأوبريت، جريدة الكابوس، ريا وسكينة، دقة المعلم، علمي علمك، كشكش بك في المحكمة، حوريه هانم. 
وكان العمل يتسع شيئاً فشيئاً حتى بلغ مصروف الفرقة اليومي خمسين أو أربعين جنيهاً، وكان معدل إيراد الشباك 85 جنيها. تم سافرنا في رحلة إلى سوريا ولبنان فى أول سنة 1923 بالاشتراك مع الحاج «مصطفى حفني»، وعرفنا في هذه الرحلة ما كنت اسمعه عن نجاح «أمين أفندي عطا الله» في تقليد دور كشكش بك، فأردت أن أسترد منه حقي الذي عليه دون جهد. فسافرت بفرقة كانت تكلفني يوميا 65 جنيهاً، فجاءنا إيراد كثير ولكن نفقاتنا كانت تزيد على الإيراد أحياناً لاختلاف العُملة فرجعنا بربح قليل ومعنا السيدة بديعة مصابني، وحينما عدت رأيت الأستاذ «بديع خيري» قد ألفّ رواية «الليالي الملاح» لفرقة حديقة الأزبكية [أي فرقة أولاد عكاشة] فلما قرأها لي أعجبتني واشتركت معه في إصلاحها واخرجناها على مسرح الإجيبسيانا في فبراير سنة 1923، ثم اعقبناها بالروايات الآتية: الشاطر حسن، وأيام العز، والبرنسيس، والفلوس، ولو كنت ملك، ومجلس الأنس.
ثم سافرنا في فرقة صغيرة إلى أميركا وعدنا منها بربح كبير فاستأجرت «مرقص الريكس» وحولته إلى «مسرح الريحاني» وبدأت العمل فيه. وقد دعاني للتحول من النوع الذي يجئ بأرباح طائلة إلى نوع الدرام الفني .. شعوري بأن أخدم الفن عن طريقه الصحيح، فألفت فرقة درام كبيرة من أكبر ممثلي مصر وممثلاتها منهم: السيدة روز اليوسف، والأساتذة حسين رياض، وأحمد علام، والسيدة زينب صدقي، والسيدة ماري منصور، والسيدة عزيزة أمير، ولما كنت أفلحت في ضمهم إلى فرقتي بعد أن رفعت مرتباتهم، فإن مديري فرقهم أخذوا يضاربوني فرفعوا مرتباتهم إلى مرتبات أعلى المرتبات التي دفعتها لهم، فتركني الممثلون في وسط الميدان، وعادوا إلى فرقهم بعد أن كبدوني خسائر طائلة. وأسفر هذا المشروع الذي قصدت به التمثيل عن خدمة أشخاص الممثلين إذ رفعت مرتباتهم إلى حد ما كانوا يحلمون به. وقد مثلنا في ذاك العهد - سنة 1926 - الروايات الآتية: المتمردة، مونا فانا، اللصوص، عصافير الجنة. ثم عدت بعد أن فشل مشروع الدرام إلى نوعي القديم مع شيء من التغيير. ومثلنا في الموسم الأول لهذا النوع: ليلة جنان، مملكة الحب، الحظوظ. وفي الموسم الثاني: يوم القيامة، علشان بوسة، جنان في جنان، آه من النسوان. ثم اصطلحت مع بديعة و مثلنا: ياسمينة، أنا وأنت، مصر سنة 29، علشان سواد عينيها. ثم اختلفنا، وانفصلنا وانضمت إلينا «هدى» المغنية، ومثلنا: نجمة الصبح، هدى، اتبحبح، ليلة نغنغة، مصر باريس نيويورك. وفى الموسم الذي يليه مثلنا: أموت في كده، العباسية، حاجة حلوه، كدبة إبريل. ثم انتقلنا بعدها إلى مسرح الكورسال ومثلنا عليه: الجنيه المصري، المحفظة يا مدام، الرفق بالحموات، وانتقلنا إلى مسرح برنتانيا فمثلنا «أولاد الحلال». ثم سافرنا إلى تونس وقد عادت إلينا بديعة، ثم عدنا منها وقد انفصلنا، وإلى هنا تنتهى عهد فرقتنا.
فاتني أن أذكر لك إنه حينما عدنا من أميركا اشتركنا مع الأستاذ أمين صدقي في فرقة كبيرة مثلت على مسرح دار التمثيل العربي روايتي «قنصل الوز» و«مراتي في الجهاديه»، ثم انفصلت عني السيدة بديعة وأسست «صالتها» وبدأت مشروع الدرام بمسرح الريحاني كما أوضحت. وكان الأستاذ أمين صدقي معنا في أول عهد الإجيبسيانا يشترك معي في تأليف الرواية، ويتقاضى منى مرتباً قدره ستون جنيهاً في الشهر فطلب أن يكون شريكا لي، ولم أجد في طلبه هذا مبرراً فرفضته فاستقال بعد تمثيل رواية «حمار وحلاوة» وأنضم إلى فرقة كازينو دي باري، التي كان على رأسها مصطفى أمين وعلى الكسار.
أما كيف أنضم بديع خيري، فيقول الريحاني: بعد انفصال أمين صدقي رأيتني في حاجة إلى زجال، فطلبت إلى أصدقائي البحث عنه فقدموا إلي كثيرين بينهم يونس القاضي والدكتور شدودي، وحسني رحمي، وفرنسيس شفتشي، فطلبت إلى كل منهم أن يعمل لي زجلاً عن الربا، فكان أحسنها الزجل الذى قُدم لي من الأستاذ حسني رحمي، فكدت أن أتفق معه لولا أن جاءني صديق له وأخبرني أن هذا الزجل ليس لحسني رحمي، إنما هو لبديع خيري، وكان بديع مدرساً في ذلك الوقت، وعضواً في جمعية تمثيل يرأسها حسني رحمي، وقد أعطى زجله لحسني بحكم صداقتهما. فلما سمعت ذلك استدعيت بديع، وفَضّلت أن أتفق مع المؤلف الأصلي. ولكي استوثق من صحة الخبر الذي بلغني كلفته أن يعمل لي زجلاً عن جماعة أعجام في مصر، فلما أتمه أيقنت أنه هو صاحب الزجل الذي قدمه لي حسني على أنه من وضعه، واتفقت معه على أن يتقاضى مرتباً قدره 18 جنيهاً في الشهر ظل يرتفع حتى وصل إلى مائة جنيه.
أما عن انضمام «سيد درويش»، فيقول الريحاني: كانت الألحان في رواياتنا شيئاً ثانوياً، ولم تكن تحتوي الرواية على أكثر من لحنين أو ثلاثة، كنا نقتبس أنغامها من الأنعام القديمة مع شيء من التحوير. وفي ذات يوم قدمت إلى فرقتي قطعة من تلحين المرحوم الشيخ سيد درويش، فأسكرتني فطلبت إليهم أن يتفاوضوا معه على العمل معنا، وتم الاتفاق وكان أول مرتب له 22 جنيها وصلت إلى مائة، وأول رواية لحنها لفرقتنا رواية «ولو». أما كيف اكتشفت السيدة «فتحية أحمد»؟ - يقول الريحاني - كانت فاطمة قدري تشتغل معنا فاتفقت مع «البلفي» [اسم مسرح] بإسكندرية، وتخلفت عن عملها فجأة، فارتبكت قليلاً، وكان «أحمد عسكر» في ذلك الوقت ممثلاُ في الفرقة، فجاءنا بالسيدة فتحية أحمد، وكانت صغيرة فاشتغلت معنا بثلاثة جنيهات، ووصلت إلى 32 جنيها في الشهر. أما اكتشاف بديعة مصابني، فيقول الريحاني: في رحلتنا إلى الشام كنت ألاحظ في كل حفلة نمثلها سيدة توالي الحضور يومياً في البنوار الأول، وتشاهد التمثيل بانتباه شديدـ فاسترعت اهتمامي، وفى احدى الليالي جاءتني إلى المسرح مهنئة، وذكرتني بنفسها إذ كانت قد حضرت إلى مصر قبلها، واتفقت معي بعقد لم يعمل به، وكانت لها شهرة كبيرة في الرقص في بيروت، فطلبتها للسفر معنا لمصر فقبلت بمرتب أربعين جنيهاً وصل إلى 150 جنيهاً. وعن «فاطمة ورتيبة وأنصاف رشدي»، قال الريحاني: كان الثلاثة يعملن بفرقة أمين عطا الله، وفرقة الجزايرلي، ثم قدمهن لي عبد اللطيف المصري، فعينت لهن جميعاً مرتباً شهرياً 18 جنيهاً، وكان أول دور مثلته السيدة فاطمة رشدي في فرقتي دور ولد صغير يلم أعقاب السجاير في رواية «فشر». وعن «فوزي منيب»، قال الريحاني: كان أمين صدقي يحاول أن يتغلب على فرقتنا بشخصية البربري، فلكي أوقفه عند حده ضممت فوزي منيب ليمثل هذه الشخصية في روايتنا، فيرى الجمهور أن شخصية البربري عنصر ثانوي فيها ليست له الأهمية التي يحاول أن يعطيها له الأستاذ أمين، وكان أول مرتب فوزي في الفرقة ستة جنيهات.
اختتم «قاسم وجدي» هذه المذكرات بخاتمة، قال فيها: هذا هو مجمل تاريخ الأدوار التي مرت بها فرقة الأستاذ نجيب الريحاني من عهد نشأتها إلى هذا العهد، وقد قصها عليّ الأستاذ نجيب الريحاني بنفسه قبل سفره إلى باريس، فلم أفعل فيها أكثر من إني سجلتها کما أملاها. ولم يبق مما قصه عليّ غير شيئين يجدر بي ذكرهما، حتى لا نكون قد تركنا شيئاً. الأمر الأول هو استئجاره كازينو دي باري لحسابه على أثر اختلافه مع المرحوم المسيو «ديمو كنجوس»، وبعد توقيع العقد وتسديد قيمة الإيجار اصطلح مع المسيو ديمو، فأراد أن يستغل مدة الإيجار فأقنعه الأستاذ عزيز عيد بتكوين فرقة تعمل في الكازينو لحسابه، فطاوعه وتألفت الفرقة ومثلت «العشرة الطيبة»، فلم ينجح منها غير ألحانها وانحلت الفرقة بعد أن كلفته ألفي جنيه خسارة! والأمر الثاني أن الأستاذ نجيب اتفق مع شركة «ماتوسيان» [شركة دخان مشهورة للسجائر والمعسل] للعمل لحسابها في الإسكندرية، زمناً غير قليل. [توقيع] قاسم وجدي.

خاتمة المذكرات
عزيزي القارئ .. أتمنى أن تكون استمتعت بمذكرات نجيب الريحاني المنشورة عام 1933، والتي أملاها الريحاني على «قاسم وجدي»، فنشرها قاسم في مجلة «الصباح»، بوصفها أول مذكرات صريحة لنجيب الريحاني ومنشورة في حياته، مما يعني أنه أملى كل كلمة فيها .. وكل معلومة منشورة فيها .. الريحاني موافق عليها!! وبذلك يتم اكتشافنا ونشرنا لأول مذكرات لنجيب الريحاني لم يكتشفها أحد من قبل طوال تسعين سنة!! وأرجو منك عزيزي القارئ ألا تسألني سؤالين مهمين: الأول هو .. لماذا كتب قاسم وجدي المذكرات بأسلوبه، ولم يكتبها الريحاني بنفسه؟ والسؤال الآخر: هذه المذكرات تنتهي عند عام 1933 والريحاني مات عام 1949 أي هناك ست عشرة سنة، تُعدّ من أخصب سنوات الريحاني المسرحية!! فهل يعني هذا أننا نعتمد هذه المذكرات حتى عام 1933 فقط، وأي سنوات بعد ذلك نأخذها من المذكرات المنشورة بعد وفاة الريحاني؟
بالنسبة للسؤال الأول سأنحيه جانباً، لأنني سأجيب عليه فيما بعد!! أما السؤال الثاني فهو الأهم، لأن هذه المذكرات فعلاً تنتهي عند عام 1933 .. ولكنها المذكرات الأولى!! مما يعني احتمال وجود مذكرات أخرى كتبها الريحاني في حياته!! وهذا صحيح 100% لأن الريحاني بالفعل كتب مذكرات أخرى ونشرها عام 1937، وهي المذكرات التي تلاعب بها البعض حذفاً وإضافة وتغييراً ... وهي أساس (جميع) المذكرات التي نُشرت – وظهرت – بعد وفاة الريحاني وحتى يومنا هذا!! وكنت أنوي الحديث عنها ابتداء من المقالة القادمة!! ولكن للأسف الشديد وجدت مجموعة مقالات منشورة – قبلها تاريخياً - تُعدّ من وجهة نظري أجزاء من مذكرات الريحاني أيضاً، وهي مجهولة ولم يطلع عليها أحد من قبل!! لذلك سأتحدث عنها ابتداء من المقالة القادمة، وبعدها مباشرة – بمشيئة الله – أبدأ في الحديث عن مذكرات الريحاني التي أصابتني بالاضطراب وعدم النوم الصحيح منذ أكثر من شهر .. لما فيها من مفاجآت!!


سيد علي إسماعيل