تقمص الممثل للشخصية.. كيف؟

تقمص الممثل للشخصية.. كيف؟

العدد 608 صدر بتاريخ 22أبريل2019

 “وظيفة الممثل هي التقمص”     (ناتالي بورتمان) (1)
 “أن تؤدي بحق يعني أن تكون صادقا ومنطقيا ومنسجما، وأن تفكر في وحدة دورك وتسعى إليها وتشعر بها، وبالتالي تستوعب الأسلوب النفسي للدور الحي”     (ستانسلافسكي)
في هذه المقالة سوف نتناول السؤال التالي: ما الذي يعنيه تقمص الممثل للشخصية التي يؤديها؟ تكمن الإجابة في مكان ما داخل التقاطع بين نظريات التقمص، التي يوجد الكثير منها، ومجموعة متنوعة من ممارسات التمثيل، التي يوجد منها الكثير أيضا. وهذه صورة معقدة. ومهمتنا الأولى أن نرسم خريطة لهذا المشهد (في الأجزاء 1 ,2 ,3) ثم نحدد مكاننا على هذه الخريطة (الجزء 4).
1 – ضبط المجال: المناقشات حول التقمص
ترجم العالم النفسي (إدوارد تيتشنر Titchener Edward) مصطلح “Einfuhlung” بمعنى «التقمص Empathy» في الوقت الذي كان فيه خلاف في ألمانيا حول المصطلح. فقد وظف (ثيودور ليبز Theodor Lipps) (1906، 1909)، وهو شخصية رئيسية في هذا الخلاف، وظف المصطلح لكي يشير إلى كل من خبرتنا بالموضوعات الجمالية وإحساسنا بالعقول الأخرى. ففي حين أن (ليبز) فكر في التقمص باعتباره حدثا يوميا يتضمن تجسيدا تلقائيا، يفهمه (فيلهلم دلثي Wilhelm Dilthy) باعتباره أداة منهجية يجب استخدامها في التحليل التاريخي، وبشكل عام كمنهج في العلوم الاجتماعية والإنسانية. فقد زعم (دلثي) أن التقمص ارتبط بعملية نقل (Hineinversetzen) حيث يضع شخص نفسه في مكان شخص آخر. ونريد أن نلاحظ على الفور العلاقة المباشرة لهذه الاعتبارات بالتمثيل: أن هناك موضوعا جماليا في شكل الشخصية التي نجسدها، بمعنى أن التمثيل يمكن اعتباره شيئا يحدث، ولكن كأسلوب، وأنه يتعلق بوضع أنفسنا داخل منظور الآخر أو موقفه. ولكي نوضح هذه النقطة ذات الصلة، ولإفساح المجال لنقاشنا، نعتقد أنه من المهم أن نحدد بعض تفاصيل النقاش حول التقمص.
طبقا لـ(موريتس جيجر Moritz Geiger) (1910) الذي قدم ملخصا مختصرا لنقاش أوائل القرن العشرين، إذ اعتبر بعض المنظرين أن التقمص شكل من أشكال التخيل، بينما اعتبره آخرون شبيها حقيقيا لعواطف شخص آخر. وتبنى “ليبز” الرؤية الأخيرة، إذ زعم أننا نعايش نفس الشيء الذي يعايشه الشخص الآخر. وبالتالي، إذا عايشنا غضب شخص آخر، «فإن هذا الغضب ليس هو الشيء الذي يواجهنا بشكل موضوعي، بل نكون بداخله، فنحن نعيش في هذا الغضب، فهو يهب نفسه تماما، رغم أنه لأسباب أخرى ليس له نفس تأثير الغضب في الحياة العادية” (2). وتتعلق كيفية فعل ذلك بشكل الإسقاط الذي نضيف فيه شيئا من أنفسنا إلى خبرتنا بعلامات الآخر الخارجية (الإيماءات، وتعبيرات الوجه.. إلخ): نضيف شيئا ذهنيا من داخلنا – هنا لدينا فعل خاص من تلقائية الطبيعة العقلية، وليس استيعابا عاديا للمعلومات المنقولة لنا من الخارج، فالإسقاط يتعلق باستنباط تجربتنا لملء ما لا يمكننا الوصول إليه في تجربة الآخر.
وعلى الرغم من أن (دلثي) فكرّ في مصطلحات مماثلة للنقل والإسقاط، فقد ميز بين الفهم الأولي وأشكال الفهم العليا، فكلاهما يتعلقان بالتقمص، إذ ينشأ الفهم الأولي من سياق الحياة العملية وممارساتنا الاتصالية، وتتعلق بتفسير السلوكيات التعبيرية الأساسية أو الفعاليات (مثل التقاط شيء، ترك مطرقة تسقط، أو قطع الخشب بمنشار)، التي تضيف في المقابل أفعالا مركبة. ولفهم مثل هذه الأفعال نعتمد على تجربتنا وإسقاط الذات على تعبير معين.
يقوم الشكل الأعلى للتقمص على هذا التحول التمهيدي، ولكن باهتمامات مضافة عن سياق التجربة وعلاقتها، التي تحتاج أن يتقدم الفهم مع خط الأحداث نفسها، ويجب أن يتقدم باستمرار مع مسار الحياة نفسها. وعملية تغيير ذاتنا أو التحول يتوسع ليجعل إعادة التجربة إبداعا مع خط الأحداث. ويؤكد أن هذا المعنى الكامل والأعلى للتقمص، يتم تسهيله بواسطة التعبير الفني في الشعر أو المسرح، أو بواسطة السرد القصصي أو التاريخي. ويتعلق بعملية إعادة التقديم الخيالي لموقف معين يحفز إعادة التجربة داخلنا، وبإعادة نقل أنفسنا إلى ظروف الآخر، تحديدا، يمكننا أن نعيد معايشة مشاعر الآخر. لذلك، فإن البشر الذين يتم تحديدهم من الداخل يمكن أن يتعايشوا أنواع وجود كثيرة أخرى من خلال تخيلاتهم. ومع ارتباطهم بالظروف، يستطيعون أن يلمحوا، مع ذلك، الجمال الغريب للعالم ومناطق الحياة البعيدة عنهم. ويحتاج هذا الشكل المتقدم من التقمص أن نصدر أحكاما على شخصية الآخر وطاقاته. فالسياق والظروف مهمان من أجل البصيرة. وقد شارك عدد من الفلاسفة الظاهراتيين (مثل إدموند هوسرل، وإديث شتاين، وماكس شيللر) في النقاش بتقديم تفسير إدراكي للتقمص الأولي. وبالمقارنة مع (ليبز)، الذي بالنسبة له نصل إلى معايشة نفس العاطفة التي يعايشها آخر، طبقا لـ(هوسرل)، عندما نفهم أن الشخص الآخر غاضب، فليس من الضروري أن نشعر بالغضب، وإذا رأينا أن شخصا ما خائف، فإننا لا نتقمص معايشة الخوف بأنفسنا. ويوضح (زافي Zahavi) هذا الاعتراض: ما مدى معقولية الادعاء بأنني يجب أن أكون خائفا لكي أفهم أن طفلي خائف، أو أنني بحاجة لأن أكون غاضبا إذا كنت أدرك الغضب في وجه من يهاجمني.
يرى الظاهراتيون مشكلة ثانية في موقف (ليبز). من الواضح أننا نسقط (أو لماذا لدينا ما يبرر إسقاط) تجربتنا على الآخر. وفي أفضل الأحوال، طبقا لـ(شتاين) يمكن أن يفسر هذا النوع من الإسقاط شكل المحاكاة/ العدوى التلقائية، التي لا ترقى إلى التقمص، وبشكل أكثر إيجابية، فإن التقمص، وفقا للفلاسفة الظاهراتيين، يتعلق بأن نصبح إدراكيا واعين بقصد الآخر وحالته العاطفية. فبالنسبة لـ(هوسرل) و(شتاين) هو شكل فريد من القصدية الإدراكية الموجهة إلى الآخر باعتباره ذاتا متجسدة. ففي الإدراك العاطفي لا نفهم جسم الآخر باعتباره وجودا موضوعيا، كما يفهمه العالم، ولكن باعتباره جسما معاشا، جسما معبرا عن ذاتية الآخر (3). وفضلا عن حالة إعزاء الحالات العقلية لآخرين، أو تخيلها، أو إسقاطها، أو استنتاجها، أو إدراكها، يتعلق التقمص بفهم مركب أو وعي استنباطي بقصد الآخر مشاعره الحاضرة إدراكيا في إيماءاته وتعبيراته. ومفهوم الاقتران الظاهراتي الذي يقوم عليه التقمص، هو فهم لسلوك الآخر المتجسد في إطار مجموعة من القدرات العملية والتعبيرية التي هي أيضا احتمالات وجودي المتجسد. وتبعا لذلك، أرى سلوكه الجسدي باعتباره قصدا أو مشاعر: بمعنى أنني لا أفهمه بشكل منفصل، بل بالأحرى باعتباره موجها إلى عالمنا المشترك.
وإذا تقدمنا بسرعة مائة عام فسوف نجد نقاشا يتجدد حول مفهوم التقمص قيد التنفيذ في بداية القرن الحادي والعشرين، وهذا النقاش يكرر كثيرا من عناصر الجدال السابق، بما في ذلك التمييز بين التقمص الأولي والنظام الأعلى للتقمص، ويقارن رؤى مماثلة لتلك التي دافع عنها (ليبز) والظاهراتيون في ما يتعلق بالتقمص الأولي، رغم ذلك الآن في ضوء التطورات الحالية في العلوم العصبية. وقد تحفز النقاش الحالي بالطبع علم مرآة العصب mirror neurons neuroscience، وهو التفعيل الذي تم تفسيره كشكل للمحاكاة في التفسيرات الفلسفية والنفسية للإدراك الاجتماعي. فالمحاكاة مفهوم مركب، ولكنه من وجهة نظر واحدة يتعلق بوضع أنفسنا بشكل تخيلي في مكان الآخر ونسأل ماذا يمكن أن نفعل ونحن في مكانه. هذا النوع من المحاكاة يعد شكلا للتقمص، حيث إن مصطلح «يتقمص to empathize» مساوٍ بشكل خشن لمصطلح “يحاكي” (بطريقة ذاتية مشتركة).
ويجادل (جولدمان Goldman) و(ستوبر Stueber) ومعهما علماء أعصاب مثل (جاليزي Gallese) أن النوع الأساسي في المحاكاة العاطفية التلقائية، التي يسميها (جاليزي) محاكاة مجسدة، ترتبط بفعالية نظام مرآة العصب. وفي هذا السياق، تعتمد نظرية المحاكاة على تفسير (ليبز) للتقمص باعتباره محاكاة تلقائية أو صدى يسمح لنا أن نعايش (ولا نتخيل فقط) الشيء نفسه الذي يعايشه الشخص الآخر. إذ يتم تفعيل مرآة العصب عندما يشارك العامل في فعل قصدي، وعندما يلاحظ أيضا عامل آخر مشارك في فعل قصدي. وتبعا لذلك يقال إن مرآة العصب تحاكي أو تكافئ أفعال الآخر وقصده ومشاعره بتفعيل نفس الآليات المسئولة عن أفعالنا والخبرة الذاتية لضمير المتكلم. وعلى أساس هذه الرؤية، فإن المحاكاة التلقائية أو التماثل هو شكل أساسي للتقمص.
ومرة أخرى، كما رأينا في النقاش السابق، يتناول الظاهراتيون المسألة بزعم أن التقمص يختزل النظام المحرك إلى تفعيل تلقائي، وهو شيء أقرب إلى العدوى منه إلى التقمص. أو مرة أخرى، ليس من الضروري مطابقة أو تكرار الغضب في نظامي المحرك، مثلا، لكي نفهم حقيقة أن الشخص الآخر غاضب. إذ لا يمكنني أن أعيش بشكل كامل مشاعر الآخر من منظور ضمير المتكلم، ولكنني أستطيع أن أتناغم مع قصد الآخر وعواطفه على أساس ما أفهمه من سلوكهم وتعبيراتهم الجسدية، التي تنشئ، جزئيا على الأقل، قصدهم وعواطفهم. وبقدر ما أفهم قصدهم وعواطفهم بهذه الطريقة، التي هي ما يسميه الظاهراتيون التقمص.
2 - تسليط الضوء على التخيل والسرد:
في هذا الجزء والأجزاء التالية سوف نعقد مقارنة بين نظرية محاكاة التعاطف ونظرية تجسيد التعاطف، وسوف نقدم النقاشات لهذه الأخيرة. في النقاشات التي عرضناها سابقا كان التركيز على سؤال: إلى أي مدى يحتاج التقمص (أو لا يحتاج) أن يدخل شخص من منظور أو موقف شخص آخر في العمليات التي تتعلق بترديد الصدى التلقائي أو المحاكاة أو التخيل أو الإسقاط، أو ربما الإدراك ببساطة؟ ورغم ذلك، لكي نقترب أكثر من سؤال تقمص الممثل لشخصيته، نريد أن نعود إلى تمييز (دلثي) بين الفهم الأولي التعاطفي مقابل الفهم الأعلى التعاطفي، وفكرة أننا ربما نستطيع أن نستخدم التعاطف كوسيلة. ينعكس تمييز (دلثي) في التمييز المعاصر بين نظام المحاكاة الأولي والأعلى. فالتقمص الأساسي، المرتبط بتفعيل مرآة العصب، كما يقترح (ستوبر)، ليس كافيا لتفسير سلوك الإنسان في المواقف الاجتماعية المركبة، أو تقديم فهم كامل لكل المفاهيم العقلية التي ننسبها إلى الشخص النموذجي البالغ، إذ نحتاج شيئا أكثر لهذه القدرات، وتحديدا نظام أعلى للتقمص. وطبقا لعدد من منظري المحاكاة، فإن هذا الشكل الأكثر تطورا للفهم يحتاج استخدام التخيل وفهم الموقف السياقي للآخر. وعلى أساس وجهة نظر المحاكاة، مثلا، تتعلق حالة التقمص بـ”كأن”، أو حالة عاطفية بالإنابة، تتولد بواسطة التصوير التخيلي للمتقمص لحالة شخص آخر. وتقوم طاقة خلق تجارب بالإنابة على نوع خاص من التخيل (ولنسميه تخيل محاكاتي Simulative imagination) (4)، الذي يتعلق بتشغيل مستوى عالٍ من المحاكاة خارج السيطرة (بمعنى مستوى واعٍ، وواضح) للحالات العقلية لشخص آخر.
هناك عدة مشكلات في ما يتعلق بالاعتبار المحاكاتي. وسوف نذكر اثنين منهما هنا: مشكلة البداية ومشكلة التعدد. وتتعلق مشكلة البداية بكيف يمكننا أن نبدأ هذا النوع من التخيل المحاكاتيsimulative imagination. وهذه المشكلة واضحة في وصف (جولدمان) للخطوة الأولى. «أولا، يخلق المصمم في نفسه المقصود بها مطابقة تلك الحالات المستهدفة (الشخص الآخر). بمعنى آخر، يحاول المصمم أن يضع نفسه في المكان الذهني للمستهدف. وهذه الخطوة الأولى يبدو أنها تفترض فعلا أننا نفهم الشخص الآخر، بمعنى أننا نعرف ما هي الحالات العقلية التي نتخيلها. ومع ذلك هذا ما تقصد المحاكاة شرحه. فكيف أعرف ما هو الاعتقاد أو الرغبة التي تطابق الحالة الذهنية للشخص الآخر؟ فإذا عرفت ما هي الحالة المطابقة للمستهدف، عندئذ يمكن فعلا حل مشكلة فهم الآخرين أو التعاطف معهم، كما تعرّفها نظرية المحاكاة. وترتبط مشكلة التعدد بالاعتراض الذي أثاره (رايل Ryle) (1949) وعدد من الفلاسفة الظاهراتيين، وتحديدا أننا إذا حصرنا أنفسنا في تجربة ضمير المتكلم، أو فيما نتخيله بناء على تجاربنا، وأسقطنا ذلك على شخص آخر، فلن يتضح أننا قادرون على أن نهرب من منظورنا الضيق أو نفهم بشكل أصيل الحالة الذهنية للآخر، التي قد تختلف تماما عن حالتنا. ويقوم التخيل المحاكاتي على تجربة ضمير المتكلم حيث أسأل نفسي ماذا يمكنني أن أفعل في هذا الموقف. وليس من الواضح أن معرفة ما يمكنني أن أفعله يعطيني فكرة عما يمكن أن يفعله أي شخص، فهناك تنوع كبير في التجارب التي يمكن أن تكون لدى الآخرين، ولكن يبدو أن التخيل المحاكاتي معد ببساطة لإسقاط تجربتنا على الآخر.
ونظرية درجة التقمص العليا غير المحاكاتية المقارنة, التي نفضلها، تجادل بأننا نستطيع أن نتخيل موقف الآخر (فضلا عن حالته العقلية)، وبالتالي نبدأ في التعاطف معه باستنتاج مخزون القصص المستمدة من المصادر الشخصية والثقافية. وعلى أساس هذه الممارسة القصصية، يقلل اعتمادنا الحاجة إلى أسلوب تخيل محاكاتي، لأن التقمص موجه لآخر بمعنى قوي، فلا يكفي التقمص أن يوضح الآخر ببساطة من خلال تجربتي. وبدلا من ذلك، اكتسب من خلال الممارسات القصصية الانفتاح على فهم قصة حياة آخر، وفهم تجربته في بيئته. هذا النوع من التخيل القصصي، باستنتاجه من تعدد القصص التي زودت فهمي وأثرت تخيلي لا يعتمد على المحاكاة، المفهومة باعتبار أنها تعتمد فقط على تجربتي الضيقة. وبالمقارنة إلى (ستوبر)، الذي يقترح أن القصة توفر ببساطة إشارات ومفاتيح لتعزيز عملية المحاكاة (إعادة التجسيد المتعاطف)، فرؤية القصة هي أننا نعتمد بكثافة على مصادر القصص، التي تفتح العملية إلى مزيد من الظروف المتنوعة التي قد تميز الآخر، فالمصادر القصصية يمكن أن تتضمن قصصنا الذاتية، ولكنها من المهم أن تتضمن قصص الآخرين المتنوعة والسرديات الثقافية الأكثر عمومية (الروايات، والأفلام، والمسرحيات.. إلخ) التي يتم التعرف عليها في سن مبكرة.
يبدأ التخيل القصصي في سن مبكرة جدا، ولا نلح هنا على اعتبارات تطور الكفاءة القصصية في الطفولة المبكرة، بل نلح أيضا على اعتبارات التخيل باعتبارها ممارسة مجسدة (5). فمثلا، يوحي تفسير (رايل) للتخيل بأنه يبدأ في الطفولة، ليس باعتباره مجموعة من العمليات النفسية في الرأس، بل باعتباره شكلا للتظاهر أو الاستعراض Playacting. ومثال (رايل) هو الطفل الذي يتظاهر بأنه دب. في هذه الحالة يزأر الطفل، ويلف حول الأرضية، ويصدر صريرا من أسنانه، ويتظاهر بأنه ينام فيما يتظاهر بأنه كهف. بمعنى أن الطفل لا يستنتج أولا صورة ما في رأسه، ثم يبدأ في إظهارها، بل بالأحرى كما يقترح (رايل) أن التخيل في حالة أداء الاستعراض. هذا النوع من الاستعراض هو حالة تجسيد الذات باعتبارها آخر، وهو يتبع بنية سردية (6).
هذا الاعتبار غير المحاكاتي للممارسات القصصية هو جزء من نظرية تجسيدية لنظام تقمص أعلى، ويعتمد هذا النوع من التقمص على تدريبات تخيل سردي، التي يمكننا تجسيدها في بعض الحالات في أفعالنا، كما في حالة لعبة التظاهر عند الطفل. ويتضمن الاعتبار التجسيدي للتقمص تفسيرا بديلا لتفعيل مرآة العصب في التقمص الأساسي، إذ تتبع النظرية التجسيدية الفكرة الظاهراتية التي تقول بأن التقمص الأساسي إدراكي، ولا سيما ذلك التقمص الذي يتعلق بفعل موجه أو إدراك تجسيدي. فأنا أفهم العالم في إطار كيفية استطاعتي المشاركة فيه، وأفهم الآخرين في إطار كيفية استطاعتي التفاعل معهم، حتى لو لم أكن أقصد أن أتفاعل معهم. في داخل هذه العملية الإدراكية يتم تفعيل مرآة العصب ليس من أجل مقارنة محاكاتية للحركات الماضية للآخر فقط التي فهمتها فقط، بل كإعداد مجسد للاستجابة للآخر. يتعلق التقمص الأساسي باستجابة هذا الآخر الموجهة، فالاستجابة للآخرين تتضمن إمكانية محاكاتهم، ولكن، كما سوف نرى فيما بعد، أنها أيضا تتضمن إمكانية تمثيل ذاتنا باعتبارها آخر، التي غير قابلة للاختزال إلى محاكاة.
يبدو أن اقتراح (دلثي) بأننا نستطيع أن نستخدم التقمص كأسلوب لاكتساب فهما للآخرين ينطبق على نظام التقمص الأعلى، فضلا عن تطبيقه على عمليات التقمص الأساسي. ونلاحظ، رغم ذلك، أن شكلي التقمص هذين ربما كانا مرتبطين سببيا وتبادليا. ومن السابق لأوانه أن نفكر، كما فعل (دلثي) بأن نظام التقمص الأعلى قد يعتمد بطريقة ما على التقمص الأساسي لكي لا يؤدي الفهم الفكري المحض لبيئة شخص إلى مرتبة أعلى من التقمص ما لم يتم تفعيل شكل من أشكال التقمص الأساسي. ولكن الحالة هي أن فهم بيئة الآخر أو قصته يمكن أن يعدل أو حتى يولد المزيد من عمليات الصدى الأساسية، كما يحدث أحيانا عند قراءة رواية أو مشاهدة فيلم. توضح الدراسات التجريبية على سبيل المثال، استجابات نسق المرآة التفاضلية للعقاب (الخيالي) لشخص ما تعرف الذات أنه مخدوع نوعا ما على نحو عادل في لعبة العرض – ولا سيما في حالة عدم عقاب المخادع أو تعرضه لأقل استجابة أو عدم استجابة لعقاب المخادع. وتوضح دراسات أخرى أننا أكثر ميلا أن نتصرف وفق مشاعرنا التعاطفية، ونتصرف بشكل غير واقعي عندما نعرف القصة الشخصية لآخر بالمقارنة إلى معرفة معلومات غير شخصية عن الموقف العام، فقد تكون لأنواع معينة من المعلومات الاجتماعية، أو معرفة بيئة الآخر وقصته تأثيرا على عمليات التقمص الأساسية، وجعلها أقل من تلقائية، إذ توحي مثل هذه العلاقات السببية التبادلية بأن التقمص الأساسي والنظام الأعلى للتقمص هما عمليتان متكاملتان، وبالتالي غير قابلين للتمييز بوضوح دائما.
التمييز بين نظام التخيل الأعلى والتخيل الذي يقوم على أساس قصصي والتقمص الأساسي مشابهان لما سماه (كيرت جولدستين kurt Goldstein) التوجهات التصنيفية أو المجردة مقابل التوجهات المادية. في هذا السياق، يجب أن نفكر في العلاقة بين عمليات التقمص الأساسية ونظام التقمص الأعلى بشكل أكبر في إطار علاقة كلية (جشطالتية) كما يقترح (جولدستين).
 يكمن التوجه المادي في التوجه التجريدي ويشارك في تحديده. فمثلا، يحضر كلا التوجهين دائما داخل توجهات الشخص العادي في علاقة شخصية محددة.
3 – التمثيل وأساليبه:
 “أقسى أشكال التقمص هي عندما يسأل الممثل نفسه ببساطة ماذا يجب أن أكون عليه لو حدث لي هذا الشيء أو ذاك؟”.
 (بريخت)
سؤالنا هو هل يستطيع الممثل أن يتعاطف مع الشخصية التي يؤديها. إذا كان الأمر كذلك، فما هو الشكل الذي يأخذه التقمص؟ وأحد الاحتمالات هو أن الممثل على مدار دراسته للدور يتنقل خلال مراحل مختلفة تتعلق بكل من التقمص الأساسي ونظام التقمص الأعلى (أو عملية متكاملة منهما معا). وبالطبع ربما نعتقد أن هذا هو المسار العادي للأحداث بشكل عام في السياقات التي تتعلق بالتعاطف مع الآخرين. بمعنى أننا ربما نبدأ بمواجهة أولية إما مع شكل أساسي للتقمص ينتقل إلى شكل أعلى من التقمص يصل إلى معرفة قصة الآخر (أو الشخصية) وظروفه، والعكس بالعكس. وأحد تحديات هذه الرؤية بالنسبة للتمثيل هو أن الشخصية التي يجب تجسيدها (ولا سيما إذا كانت الشخصية خيالية) ليست حاضرة ماديا. ويمكن أن نبدأ بالنص الذي يصف الشخصية، أو في حالة الشخصية التاريخية، يقرأ عنه أو يشاهد فيلما. وهناك مواقف مختلفة، ولكن في كلتا الحالتين لا يوجد شخص آخر حاضر بنفسه أو وجها لوجه. فهل مثل هذه المواقف تستنتج شيئا مثل الشكل الفوري للتقمص الأساسي؟
وفي حالة البداية بالنص، فإننا لا نتعرف على شخص آخر، أو نرى شخصا مشاركا في أفعال قصدية. وهذا يستبعد الفكرة الظاهراتية التي تقول بالإدراك المباشر لتجربة شخص آخر في إيماءاته وتعبيراته الوجهية.. إلخ. ولكن هناك دليلا ما بأن القراءة عن الأفعال تنشط نظامنا المحرك، وأن القراءة بذلك تولد نوعا من المحاكاة أو ترديد الصدى. وتؤدي القراءة الصامتة لكلمات الأحداث (مثل اللعق والالتقاط والركل) إلى تنشيط المنطقة قبل الدافعة أو الدافعة المتعلقة بالسيطرة على الفم، أو اليد، أو القدم، على التوالي. وقد يوحي هذا بتردد أساسي محرك من النوع الذي يصفه (ليبز) في إطار تنشيط استقبال حسي حركي عميق للتجارب. وحتى لو تم تفعيل نظام مرآة العصب بقراءة كلمات بعينها (كما يوحي “جاليزي” مؤقتا)، ورغم ذلك يبدو هذا قرينا سيئا للتقمص الأساسي لأن الشخص الذي نقرأ عنه، حتى لو كان النص المكتوب أو نص الأداء حدثا معدا مسبقا. وإن كان محددا لمكونات الفعل (اللعق والركل) فإنه يبدو أشبه باستجابة نموذجية استثنائية تحدث تجاه مجموعة متنوعة من الأشياء. فمشهد المطرقة، مثلا سوف ينشط الخلايا العصبية الأساسية في القشرة المخية قبل الدافعة اقتراح أننا نرى الأشياء في إطار احتمالات الفعل الذي لديهم. وإذا حدث شيء مماثل عندما نقرأ جملة مثل “يلتقط المطرقة”، لا يتضح أن هذا التقمص للشخصية، فضلا عن إثارة توجه وسائلي بالنسبة للمطرقة.
ورغم ذلك، نعرف أن قراءة نص أو مشاهدة فيلم يمكن أن تستنتج استجابات بين ذاتية intersubjective – مختلف العواطف والتقمص والتعاطف. تتجسد تجربة الفيلم: الجسم والعقل – وحتى الجلد والأحشاء – وتتردد باستمرار بالتوافق مع تدفق الفيلم، مع تغيرات في التوتر العضلي، والتعرّق، وحالة المعدة.. إلخ. وقد يسترشد هذا بالتزامن السردي والجمالي. وأن تفعيل مرآة العصب، أو العمليات المتعلقة بالإدراك بين الذاتي، ممكن عندما تقترح مشاهدة الأفلام بواسطة (جاليزي وبحثه في جماعة برلين. وعلى أساس هذه الرؤية نستطيع أن نتقمص شخصية في فيلم بمحاكاة أفعالها وعواطفها. ويتجلى ذلك من خلال التغيرات النفسية مثل ردة فعل الجلد الكهربية، التي تشير إلى الإثارة العاطفية. وفي هذا السياق يلتقط (موراي سميث) (2017) مفهوم المحاكاة المجسدة عند (جاليزي)، كطريقة لشرح تقمص المشاهد للشخصية. فمحاكاة الأفعال الأساسية والعواطف قد تدعم التخيل، بما في ذلك التخيل المتعاطف، وحالات العقل المحددة بدقة. وتقترح هذه الدراسات أن الممثل، بقراءته للنص أو مشاهدة فيلم تسجيلي عن الشخصية، يمكن أن يحصل على شعور أولي متعاطف تجاه الشخصية. وهذا يقترب على ما يبدو من الجوانب الفورية للتقمص الأساسي، رغم أن هذه الاستجابة المتعاطفة لا تكون هي نفس الاستجابة بالضبط، وقوية عندما نواجه النموذج شخصيا.
ويفسر المؤلفون الذين استشهدنا بهم هذا الصدى أو تفعيل مرآة العصب في إطار المحاكاة، ولكن، كما اقترحنا سابقا، نستطيع أن نفسر أيضا هذه العمليات من منظور تجسيدي. ويجب أن نضع في اعتبارنا شيئين: الأول، يبدو التقمص الأساسي أكثر تعقيدا ببساطة من مقارنة أو محاكاة ما نراه، ففي قراءة رواية أو مشاهدة فيلم فإن السياق المقدم بواسطتهما هو المهم. في هذا السياق، تستعد بالفعل عمليات القراءة والإدراك وتتكامل مع العمليات الخيالية المركبة التي يمكن أن تشمل بسهولة موقف الفعل الموجه في ما يتعلق بما يمكنني القيام به أو أكون مستعدا لفعله استجابة للشخصية التي أشاهدها أو التي أقرأ عنها (7). وهذا هو التفسير التجسيدي لهذه العمليات، التي تعترف بتعقيد الفعل الموجه. وسواء انطبق الوصف المحاكاتي على المشاهد من عدمه (وهذا يمكن أن يتضمن ممثلا أثناء عملية الدراسة لكي يفهم الشخصية)، فإنه لا ينطبق على الممثل المشارك في الأداء. وفي الحالة الأخيرة، كما يوضح (كوك Cook)، الممثل لا يقلد الشخصية: «الممثلون يؤدون الحركات المطلوبة لشخصياتهم – وهم لا يقلدون هذا الفعل، بل يؤدونه».
إذا تعلقت العمليات التي وصفناها توا بالتقمص الأساسي، فيبدو أنها تتعلق فعلا بنظام التقمص الأعلى واستخدام الخيال والقصة. وكما أشار (جوردال وكرامر)، تسترشد هذه العمليات فعلا بسرد الفيلم أو الرواية. ومن منظور الممارسة المهنية، فإن متابعة القصص هو جزء من العمل التمهيدي الذي يجب أن يفعله الممثل، ولا سيما في بداية العملية، ففي كثير من الحالات نحتاج أن نشارك في ممارسات خيالية لكي نتناغم دون أحكام مع الشخصية. وهنا نميز بين الفهم المتعاطف مع الشخصية، والحكم القيّمي على الشخصية. وقد يحرم الحكم القيمّي الممثل من التقمص، ويخلق مسافة كبيرة أو فاصلا بين الممثل والشخصية. وقد يكون هناك بالطبع بعض المحتويات القيمية متعلقة بالعمليات الإدراكية للتقمص الأساسي، وربما نحتاج إلى بعض التدريبات المنهجية لتجاوز هذه الآثار. وبدلا من تقديم حكم قيمي عن الشخصية، يستخدم الممثلون أحيانا نظام تقمص أعلى كمنهج، وينحون علنا أي أحكام قيمية، لكي يسعوا بشكل كامن إلى هذه الشخصية ويقبلوها الشكل الذي هي عليه بسبب ظروف معينة. وهنا يمكن أن يكون الهدف المحتمل هو تقمص الشخصية من خلال فهم تلك الظروف. وقد يتعلق هذا في بعض الحالات بخلق الشخصية باعتبارها شخصية تمر بنوع من الاستيعاب المنهجي للمادة، وتهدف صراحة إلى فهم تعاطفي في عملية تكامل كل من كلام/ فعل الشخصية في الأداء. ومن الممكن أن يكون هذا إحدى طرق استخدام نظام التقمص الأعلى كمنهج لإنجاز شيء مثل التقمص الأساسي للشخصية.
هذا الاستخدام لشكل أعلى من التقمص، قد يتعلق، عندئذ، ببحث الممثل عن شخصيته بهدف فهم السياقات المفصلة لحياة الشخصية وقصتها أو ظروفها. وبهذه الطريقة يستخدم الممثل تخيله السردي لتجسيد معنى للإحساس المادي والذهني والعاطفي لما يمكن أن تمر به الشخصية في موقف بعينه. فالممثل لا يحتاج أن يُهزم بدنيا حتى يعرف ما يشعر به ماديا وذهنيا وعاطفيا، كأن يكون في علاقة مؤذية جسديا مثلا. وعملية من هذا النوع، رغم ذلك، غير قابلة للاختزال إلى صدى فوري للتقمص الأساسي – إنها تتطلب استخداما أكثر توسطا للخيال السردي, لا تعتمد فقط على تجربتنا الشخصية، بل أيضا على المصادر السردية الأكثر عمومية. ويرتبط هذا بعمل الممثل في التعرف على شخصيته.
وكما أشرنا، قد يكون الممثل في نفس موضع المراقبة مثل المشاهد في بداية عملية التمثيل (يقرأ قصة أو يشاهد فيلما عن الشخصية). وعمل الممثل في هذه الحالة هو الانتقال من موقف المشاهد المراقب إلى وضع تجسيد الشخصية، الذي هو ليس مجرد تمثيل الشخصية مثلما يمثل التصور الزيتي الفكرة، بل شكل من معايشة شخصيته أو أدائها. وفي بعض الحالات، قد يكون هذا العمل أصعب من الحالات الأخرى. تأمل مثلا مشاهدة لما يحدث عندما نشاهد شخصية في فيلم، باعتبارنا جزءا من المشاهدين (حتى لو كانت مشاهدة محاكاتية):
 “تتغذى المشاركة على تجارب المشاهد السابقة في الألم والفقد التي يمكن أن تؤثر في الإطار – اعتمادا على العلاقة بين المشاهد والشخصية. فأحيانا لا تستدعي الشخصية مشاركة للعواطف. ويمكن أن تكون أفعال الشخصية والموقف الذي تكون فيه بعيدة جدا عن المشاهد ولا تسمح له بالتقمص. وفي الحالة الأخيرة قد تكون المحاكاة الواعية من جانب المشاهد مطلوبة لكي يفهم الشخصية”.
ورغم ذلك، إذا لم تدعُ الشخصية، من وجهة نظر الممثل، إلى المشاركة غير المباشرة للعواطف، التي تجعل التقمص عملا أكثر صعوبة، ولكنه الأكثر أهمية. ففي بعض الظروف، قد يكون من الصواب أن نعتقد أن الممثل يفشل إن لم يستطع بشكل متعاطف أن يصل إلى داخل أفعال الشخصية بعيدة المنال (ولكننا سنرى فيما بعد أن هذا مقبول عموما في نظرية التمثيل).
وربما نعتقد أيضا أنه عن طريق عملية نظام التقمص الأعلى للوصول داخل رأس الشخصية، أو التآلف مع أفعاله في مختلف المواقف، فقد يتقوى شعورنا الفوري بالشخصية. وبهذه الطريقة، لن يبقى نظام التقمص الأعلى فهما فكريا بشكل محض، فقد يكون أقرب إلى الفهم العاطفي، لأنه يوصف بواسطة الممثلين. وإحدى طرق فهم هذا هي أن عمل نظام التقمص الأعلى (باستخدام الممارسات السردية التخيلية) يؤدي إلى أداء يستنتج شيئا أقرب إلى تقمص أساسي في الأداء من جانب الممثل، ويسمح للشخصية أن تعود إلى الحياة في عمل الممثل.
وسواء اقترب هذا الشعور من هوية الممثل مع الشخصية، أو اقترب من شكل التناغم القوي، فإنه مسألة قد تؤهل ما يمكن وصفه بأنه تقمص. فمن ناحية، يؤكد أغلب منظري التقمص أنه ليس متساويا مع هوية شخص آخر، فالتقمص يحتاج أن تتم المحافظة على التمييز بين الذات والآخر. وهذا ما يسميه (بول ريكور) عدم القابلية للاستبدال nonsubstitutionability المرتكز على استخدام ضمير المتكلم. ومن الناحية الأخرى، ربما نعتقد أنه عندما ينتهي الممثل من بحثه ويودي فعلا دوره، فإنه يعيد الشخصية إلى الحياة، ويجسد نظامه المحرك الشخصية بطريقة تمضي إلى ما وراء التقمص (9). عندئذ لم يعد الممثل يراقب أفعال شخص آخر أو يحاكيها بشكل متعاطف، فهو يجسدها، إذ يقول الممثل/ الشخصية “أنا” لكي يتلاشى التمييز بين الذات والآخر. وهذه هي المسائل التي تناقش غالبا في نظرية التمثيل.


ترجمة أحمد عبد الفتاح