فينومينولوجيا الصوت في المسرح (3)

فينومينولوجيا الصوت في المسرح (3)

العدد 792 صدر بتاريخ 31أكتوبر2022

 أي عمل من أعمال الأداء، كما أشرت سابقا، هو صيرورة مستمرة، إعداد  لعالم شيء لم يكن موجودا فيه . بالنسبة لهيدجر، فان هذا الإعداد يعني ضمنا أن العمل الفني يُقدم باعتباره ذاته وفي العالم الذي يسكنه ويأتي به إلى الوجود –  فالصخرة تتحمل وتستريح، وبذلك تصبح أولا صخرة، والمعدن يلمع ويومض، والأبوان تلمع، والأنغام تغني، والكلمة تقال . صنع العمل الفني ( وبالتالي الفنان ) هو صيرورة العالم في ذاته وفي العالم – الشامل والمحاط والمحيط . 
     في هذا الاستغراق في العالم، يتزامن مع ذلك أن يكون الأداء في صيرورة معه : دائما ما يكون في حالة عرض علي الجمهور . فنحن نؤدي بقصد الأداء، وبقصد أن نعرض لآخر، ورغم ذلك نعّرف ذلك الأداء – في حالتي المتحيزة لممارسات إعداد الصوت، إذ أنني أقصد الإشارة إلى الأداء المسرحي، بينما يتناول باحثون آخرون التقديم في ذاته، أو يتناولون الحياة العامة، أو الأحداث الرياضية باعتبارها أداء، وربما يوجد العديد من التعريفات بقدر ما يوجد ملاحظات أدائية بحد ذاتها . هذه التعريفات ترتبط كلها بعنصر أساسي : العرض : في هذا العرض الموجه، وقصد الأداء هذا، يسبق الأداء ذاته – في التدريبات وفي اختيار ما يلاءم اليوم، وفي سماع الموسيقى واتخاذ قرار الرقص . والأداء لا يسبق الجمهور، فالأداء لا يُعرض فحسب بل يعرض إلى (جمهور) . 
     أن أي عمل باتجاه الأداء – الكتابة والتدريب والبناء – لا ينفصل عن حقيقة الأداء في المستقبل . فكل أداء ينشأ من استمرارية الممارسة، أو علي أقل تقدير من تتابع السلوك. فالطفل يكتشف أن رفرفة الذراعين هكذا بينما يقفز من ركبتيه هكذا  عندما يجذب عزف الأغنية المفضلة الانتباه وضحكات المديح : الفارق الذي يحدثه التدريب البدني للممثل هو اختلاف الأسلوب وليس الحجم . ونعلم من جود دراسات المسرح ذاتها، ودراسات الدراما والأداء كمجال تخصص أن هناك استمرارية في الممارسة في كل أشكال أداءنا . والحجة التي أقدمها هنا هي أن هذه الاستمراري تعمل حتما بنفس الإطار الاشاري باعتبارها لحظة الأداء نفسه – لأنه إذا كان لا يمكن تصور الأداء بدون جمهور، فان كل جزء متمم للأداء، وكل خطوة في مساره، يجب أن تكون في هذا السجل بين الذاتي للتقديم أو للعرض علي (الجمهور) . 
     وهذا كله جيد من أجل التمثيل، والرقص، والإخراج وتصميم الرقصات والألعاب البهلوانية . فهذه العناصر وهذه المجالات موجهة للجمهور . وتوفر في أساسها أدني تعريف للأداء : شخص يشاهد شخصا يفعل شيئا . وعندما نستخلص من هذا، اعتمادا علي تلك العناصر التي تحدث بالضرورة بعيدا عن عيون الحشد الليلي، يتطلب الأمر قفزة منطقية أكثر جرأة لإبراز أهميتها لتجربة الأداء بين الذاتية نفسها . 
أنا معك وأنت لست موجودا :
      يعتمد عملي كمعد للصوت على مشروع : في مرحلة ما قبل العرض أو فترة التدريبات علي العمل، وسوف أرتبط بالمشروع . وغالبا ما يكون المخرج هو الذي يدعوني، وأحيانا العرض أو مدير خشبة المسرح أو المنتج . وما يلي ذلك هو رقص مركب أو جدولة للتدريبات، والعرض واللقاءات وإعداد التقديم وزمن الاستديو، وكلها تؤدي إلى ليلة الافتتاح وتقديم العمل للمشاهدين . وعموما، أحضر التدريبات لكي أرى كل مشهد أو جزء من العمل يتطور، وتخطيط الأفكار في مجموعة من منصات البرامج المتنوعة أو أبتكر مجال التسجيلات المطلوبة . وتبرز الأفكار في الاستوديو الخاص بي – مضبوطة وممتزجة ومصقولة – ثم تضاف كطبقات إضافية في التدريبات التالية . وفي أغلب الحالات، يكتمل إعداد الصوت وظيفيا قبل أول تدريب تقني . 
     في الاختبارات النموذجية لعمل الأداء والجمهور، من الثابت تقريبا أنه في لحظة الأداء يوجد تسامي عن الإطار الفردي الذاتي – الجمهور الذي يضحك ويبكي ويصفق بينما يقدم المؤدون فنهم . وهذا مفيد – يساعدنا في فهم ما يوجد في الوسط بين مكان المشاهدين ومكان المؤدين – ولكننا نقوم بمخاطرة كبيرة : نفس المخاطرة التي توجد في تأمل اللونين الأخضر والبرتقالي في لوحة روثكو . فلا يمكننا أن نتجاهل حضور خطوط روثكو في العالم وضربات فرشاته . ولا يمكننا أن نحدد اللونين الأخضر والبرتقالي علي اللون الأحمر نقية وتامة وكصياغة فنية مستقلة، لأن عمل روثكو في عام 1956 يتضمن فقط اللون الأخضر علي الأزرق والبرتقالي الأحمر والأصفر، يعمل علي مجال مماثل والرسم علي أصداء اللون العاطفية والمتسامية، وظهور أجواء الفكر والخط . في عملية صنع العمل الفني، يجب علي الفنان أن يعرض للجمهور في الوقت المناسب العمل الذي ينتمي إلى مجتمع أولئك الذين يجدون أنفسهم فيه . وهذا لا يعني أن نقول إن المبدع نبي أو عراف . إنها نفس عملية التعلم والاكتشاف والبهجة التي تتضح في مثال الطفل الذي يرقص السابق ذكره . ولا عجب أن تعد العملية الإبداعية هي التعلم والتطوير أو اللعب . ونحن كمبدعين فإننا نسقط أفكارنا علي زمن عرض عملنا، في معرفة ما يصلح وما لا يصلح في الماضي وما يجب أن نجربه فيما بعد . 
     لذلك، يمكنني التوليف أو التوفيق بين مختلف خبراتي كمستمع للصوت ومبدع للصوت وأقدم اقتراح بشأن تلقي الصوت بواسطة الجمهور . وأعتمد علي عدة عناصر من التدريب ولممارسة في الأداء . 
1- الصوتيات والصوتيات النفسية ( كيف يُصنع الصوت ويُسمع) . 
2- هندسة الصوت ( الإنتاج التقني والتجهيزي للصوت، وبناء واستخدام أنظمة الصوت لإعادة التشغيل ) . 
3- الفيزياء ( علم الصوت الفيزيائي ومبادئ توليف الصوت ) 
4- نظرية الموسيقى ( سرعة الإيقاع والنغمة والتوازن والتنافر والديناميات) . 
5- التفسير والتحليل النصي للأداء ( مستمدا من النص والحدث وعناصر الإعداد الأخرى ). 
6- البحث في السياق التاريخي والدرامي والفني للأداء أو العرض . 
7- الاستماع ( الموسيقي، معاصرة أو صوت سياقي، الخ ) . 
وبشكل ملحوظ، تم إجراء كل هذه الخبرة السابقة والتعلم مع جزء منها علي الأقل في سياق عام، مثل أعمال الإعداد للعروض السابقة . والتالي، من خلال الجماهير السابقة وردود الفعل النقدية الجماعية، وتقييم ما كان فعلا وما لم يكن فعالا، يستطيع المعد بناء عمل التجربة للجمهور في المستقبل . وفي كتاب “ الصوت : قراءة في الممارسة المسرحية Sound : A Reader in Theater Practice “ وضع روس براون مقولة المؤلف الموسيقي سكوت جيبونز “ مقولة حول العلاقة بين الصوت والمسرح “، وهي سلسلة من الأسئلة الفينومينولوجية للدراسة بواسطة أي مبدع للأداء . والأسئلة مثيرة، وتدفع السائل أن يتأمل الحواس الأخرى باعتبارها متزامنة مع السمع : “ ما يمكن أن يُعرف عن عمق الصوت، وكتلته وارتفاعه، وبنيته وثباته ؟ وما هو مساره، وانتهاء صلاحيته ؟ . 
     ومن خلال مثل هذه الأسئلة، حوا خبرة الصوت في سياق الأداء من وجهة نظر المستمع، يستطيع معد الصوت أن يتحول من مبدع إلى مشاهد، ويحاول أن يفهم ما هي خبرة هذا المستمع . بالمعنى الحقيقي، فان فعل إعداد الصوت هو استجابة إلى استفزاز نانسي “ هل الاستماع نفسه له صوت ؟ “ أي أنه فعل من أفعال الصوت الذي هو في حد ذاته فعل من أفعال الاستماع المشارك والمفتوح . فالمعد يستمع إلى الصوت الذي يبدعه وكأنه مستمع ويعود إلى اللحظة مرارا لتنقيته  وتوضيحه وتجسيده داخل عالم العمل الفني الذي لم يتكشف بعد في الأداء وعالمه الصوتي . وعلي غرار العمل المادي والتجهيزي الذي يشكل معبد هيدجر الذي يعرض في العالم ويتجاوز تلك المادية، يتخطى فعل إعداد الصوت بطريقة ما الذاتية الحالية للمعد كمعد والذاتيات المستقبلية للجمهور كجمهور : 
لا يتسبب العمل كمعبد في إنشاء عالم وفي اختفاء المادة، بل يتسبب في ظهورها لأول مـرة والدخـول إلى المنطقة المفتوحة من عالم العمل ... فالعمل يعيد نفسه داخل كتلة الحجر وكثافته، وفي داخل صلابة الخشب وبريق المعدن وفي سطوع اللون وقتامته، وفي رنين النغمة، وفي قوة تسمية الكلمة . 
هذا النوع من العرض الوقائي، وهذا العرض غير المرئي، يبدو غير قابل للتصديق، كيف يمكن لتلقي العمل وتجليه في العرض علي الجمهور، أن يوجد قبل التلقي نفسه ؟ . تكمن الإجابة علي هذا السؤال في المفارقة التي يؤسسها هيدجر في تعريف الفن نفسه : 
بماذا ومن أين يكون الفنان ما هو عليه؟ بالعمل الفني ولكي نقول بأن العمل ينسب إلى مبدعه فهـذا يعني أن العمـل أولا يسمـح للفنان بأن يكـون المسيطـر عليـه . 
ويوجد أحدهما بدون الآخر. ومـع ذلك لا يكون أي منهمـا الداعـم الوحيـد للآخـر. وفهما في ترابطهما معــا، كفنان وعـمل، يوجـدان في ذات كل منهمـا بفضل شيء ثالث سابق علي كليهما، وهو تحديدا، الذي يمنح الفنان والعمل اسميهما . 
ومن خلال هذه المفارقة يمكننا استخلاص الطابع الزمني لفعل الإعداد . ومشروع هيدجر هو الاستغناء عن أسلوب التفكير بطريقة  الفرخة والبيضة فيما يتعلق بالكيفية التي ينشأ بها الفن . وفي الجوهر، فمن خلال هذا التعريف المتناقض للفنان والعمل الفني والفن يقرر هيدجر أن التسلسل الذي ينشأ منه الفن غير مادي . ولا داعي لأن نفترض أن وجود فكرة الفن سابق علي الفنان، أو أن فكرة الفنان سابقة علي العمل . وبدلا من ذلك يقدم قضية مقنعة للثلاثي الذي يظهر بالداخل بسبب كل منهما، وأن الفن هو كل ما يفعله الفنان والعمل الفني بفضل خاصيتهما كأشياء في العالم . 
     لذلك كيف يرتبط هذا بالماضي ( أو الحاضر ) في فعل الإعداد وحاضر (مستقبل) تقديمه للجمهور ؟ ولماذا يسمح لنا هذا بالوصول إلى مستقبل مشاركة المعنى بين المعد والجمهور ؟ انه يفعل هذا لكي يجعل الفعل في كل ما يجب أن نملكه من فهم لمعنى الفعل الذي نقوم به . ولاحظ أنني لا أقول « المغزى « : انه قدرة المعنى لكي يكون منقولا،وليس حضور المعنى في العمل هو المغزى . فالعمل قابل للتفسير قبل تحميله بالمعنى لكي يكون مفهوما . ولأن هيدجر يحررنا من التتابع الزمني الذي ينشأ منه الفن بالضرورة، نستطيع أن نرى أن التقديم والعرض الذي يميز عمل الأداء ليس مقيدا بلحظة منفردة في تقديمه لأي جمهور . فقصد الأداء الذي عبرت عنه آنفا هو إنشاء استمرارية – مسار – يؤدي بين المبدع والجمهور دون تقييده بتتابع أو زمن تاريخي معين . وبدلا من ذلك، تنشأ مختلف طبقات الاكتمال والمعنى من خلال المعالجة . صحيح أن مشاهدة العمل في الأداء هي النقطة التي يمكن عندها افتراض أقصى كثافة للعمل، ولكن المعنى يمكن أن يتدفق في أي اتجاه : انه بمعنى ما موجه، ومسار يمكن أن تتحرك من خلاله المعلومات والأجسام، تقليلا من قيمة مجاز بول فيريللو علي نحو ما . 
     يشارك إعداد الصوت في أكثر من التيسير التقني للعالم الصوتي . وفضلا عن إضافة بنية جديدة مقنعة، وتعزيز المشهد والجو والحالة المزاجية، فان إعداد الصوت جزء مكمل للفكر المسرحي نفسه في العالم . فدخول عوالم الأداء في التجربة ممكنا من خلال انفتاح الجمهور، كمشاهدين ومستمعين، علي الشيء المُشاهد والمسموع . ولكن الأكثر تشجيعا من الإدراك البسيط للصوت باعتباره صوتا لشيء يصدر صوتا، فان المعد يتعهد بمعنى الصوت نفسه . فنحن نقدم بإصدار الصوت صوت قدرة هذا الصوت أن يكون له معنى على الإطلاق : وهناك علاقة واضحة وصريحة من أحدهما للآخر في فهم تلك القدرة، التي لا تنشأ بشكل تلقائي ولكن يتم تعلمها من جانب كل من السامع والمسموع، دون تقييد بالزمن والمكان ولكنها جزء من سببية أو منطق أكبر . 
     والنتيجة الفورية لهذا موحية : نحن منجذبين لرؤية الزمنية المركبة للعمل الفني في زمن تاريخي . لأنه بينما يبدو للجمهور أو الذات المشاهدة أن العمل غير المرئي سابقا يكون العمل قد دخل إلى العالم وتشكل بداخله . وربما يتناظر هذا مع العنقاء التي تعيش طويلا : سنوات الحياة والتطور، التي تُستنفد في اللحظة الدرامية والاشتعال هي التي تعيدها إلى الحياة ثانية – وهي تحترق بنفس السطوع . . 
..............................................................................
كريستوفر وين: باحث ومعد صوت في مجال المسرح والأداء المعاصر ويعمل أستاذا بجامعة ملبورن باستراليا . 
هذا المقال هو الفصل الثالث عشر من كتاب «فينومينولوجيا الأداء: نحو الشيء ذاته Performnce Phenomenology :To The Thing Itself” 
إعداد: ستيورارت جرانت – جودي ماكنيللي رينودي – ماثيو واجنر، والصادر عن Palgrave Macmillan 2019 


ترجمة أحمد عبد الفتاح