التجسيد والحضور تأمل أنطولوجيا الحضور في الأداء المسرحي

 التجسيد والحضور  تأمل أنطولوجيا الحضور في الأداء المسرحي

العدد 612 صدر بتاريخ 20مايو2019

يعالج النقاش التالي الادعاءات في نظرية الأداء حول مفهوم الحضور. وهناك وجهتا نظر متضاربتان وواضحتان. أولا، هناك أولئك الذين لا تزال ظاهرة الحضور المعاشة منطقية ويتم الاعتماد عليها في التجربة العملية، فالحضور يتم تأمله باعتباره لغة مشتركة Lingua franca عند كثير من المؤدين في المسرح، وأساتذة التمثيل، والنقاد، والمشاهدين. ثانيا، هناك المفسرون بعد البنيويين لفن الأداء الذين يرفضون احتمال وجود أي تجربة فردية ذات معنى للحضور، إذ يتم الاعتراض على تجربة الحضور من خلال التفسير اللغوي لطبيعة المعنى وحده. ولذلك، فإن التحدي بالنسبة إلى نظرية الأداء التي تهدف إلى تأكيد التجربة المعاشة للحضور، هو معالجة تصويبات ما بعد البنيوية المهمة للاعتبارات التقليدية للمعنى، علاوة على الحجج المضادة لميتافيزيقا الحضور. وأعتمد هنا على أعمال موريس ميرلوبونتي على حد سواء للتحايل على الحجج المعارضة وإعطاء مفهوم الحضور المزيد من الترابط والدقة، فوصف ميرلوبونتي لصورة الجسم أو مخططه تساعدنا في شرح تجربة الحضور بطريقة لا تتفق مع المزاعم بعد البنيوية في ما يتعلق بغموض المعنى.
ويمكن تعريف الحضور على خشبة المسرح بأنه التجلي النشط لفهمنا القصدي استجابة لبيئة ما، إذ يجب أن نكون واعين بجمهور معين وملامح معينة في الحدث المسرحي بدلا من التكرار المثالي لنمط سلوك مألوف متدرب عليه جيدا. ولا شك أن تفسير ميرلوبونتي مفيد لنظرية الأداء لأنه من المنطقي الادعاء بأن بعض الفنانين المؤثرين يكون لهم حضور في لحظات معينة من أدائهم. علاوة على ذلك، فإن هذا الاعتبار للحضور يقوي شروط التجربة ذات المعنى في اللغة أو للغياب المثمر للاختلافات. وبدعم هذا التعريف، أتأمل الحضور على خشبة المسرح باعتباره تجربة معاشة وظاهرة حقيقية. وسوف أدرس أيضا حجج جاك دريدا الذي يضع طموحا على المفهوم الفلسفي للحضور وتحليل فيليب أوسلاندر، وبالاعتماد على أعمال ميرلوبونتي، سوف أوضح مفهوم الحضور على خشبة المسرح في ضوء تفكيك الحضور.
الحضور في بيئة الأداء الحي:
على الرغم من الميل اللغوي الحالي في نظرية التمثيل، يستمر الممثلون الشبان في أداء تدريبات تساعدهم في تعزيز حضورهم البدني. وقد طورت أعمال بيتر بروك إلى حد كبير حول فكرة فورية المسرح وقدرة الممثل أن يكون حاضرا في تلقائية الأحداث التي تقع مرة واحدة فقط. وبالمثل ركز جوزيف تشاكين على فورية حضور الممثل في الأداء الحي. ويقول الناقد الدرامي الأمريكي جون لار John Lahr عن استجابته لحضور الممثلة تينا تيرنر Tina Turner المشع على خشبة المسرح في عرض «مرحبا تينا Hi Tina»: «لقد نسينا أين نحن.. فالناس تتحرك في اتجاهها كالفراشات في اتجاه الضوء. فطاقتها فوق طاقة البشر. وبينما يمارس الحضور بواسطة المشاهدين مثل الكاريزما charisma، فإنه يتحقق بواسطة المؤدين باعتباره طاقة خاصة بالتلقائية».
فالمؤدون، ولا سيما الراقصين يتكلمون أحيانا عن «أنهم في لحظة توهج» أو أنهم «يتألقون في الأداء» بمعنى أنهم في قمة الأداء، أو في أفضل شكل. ويرتبط هذا المعنى بالنسبة لكل من المؤدي والمشاهد بوعي بأشياء تأتي معا بشكل فريد. إذ نرى أن هذا التألق، والاتصال الخاص بين الفنان والمشاهد، يزداد بوعي عاطفي نابض بالحياة يتكشف في الداخل ويتجلى بشكل متفرد في أداء بعينه. فلحظة التألق تحدث عندما لا يكرر المؤدي بشكل صحيح كل شيء تدرب عليه فقط، بل يكون لديه وعي شديد بذاته، وبالمؤدين الآخرين وبالجمهور في فورية الأداء الحي. ويقال إن الفنانين يشعرون بأنهم أحياء بالشكل الكامل أمام الجمهور والمؤدين الآخرين، وهو شعور بالسيطرة الفائقة والقوة، ولكنهم أيضا وبشكل تناقضي منفتحون على مشروطية الأداء الحي. ويوصف ذلك أحيانا بأنه «التدفق» أو «الطلاوة». ويتحدث بعض الفنانين عنها أنها لحظة ضعف أو مخاطرة في الأداء الفوري المباشر.
وبالمقارنة، يركز فيليب أوسلاندر على رفض الحضور المسرحي من جانب فناني ما بعد الحداثة الذين يدمجون تقنيات الاتصال الجماهيري في أداءاتهم الحية. وفي إيماءة نقدية ذاتية ولأسباب متباينة، يقول أوسلاندر، يتحدى هؤلاء الفنانون بشكل ساخر معنى الحضور في فن المسرح. ورغم ذلك، تسليما بأن كثيرا من الممثلين والمخرجين والمجددين في أساليب المسرح، قد طوروا أعمالهم باكتشاف ملامح التجربة البشرية المرتبطة بالحضور، فلا يزال يبدو معقولا أن نسأل كيف يتم تفسير لحظات ذروة حضور خشبة المسرح؟ ومن الممكن إيجاد إجابة في تأمل فرانسيس سبارشوت Francis Sparshott للملامح المميزة للملامح النخبوية في التعبير الفني، إذ يصف الإنجازات المذهلة للراقصين المحترفين مثل إتقان نسق من المهارات والبدائل المرتبطة بها إلى مستوى التنقية التي لا يمكن أن يحققها الهواة، فالفنان المحترف لديه مجموعة مدربة جيدا ومتطورة من القوة الجسمية. ومسألة التألق في الأداء يمكن شرحها باعتبارها اللحظة التي يقترب فيها الراقص المحترف من التعبير المتقن عن أسلوب حركته الجسمية التي تستخدم مهاراته بالكامل بطريقة منفصلة مرتبطة بالمطالب الموضوعية للشكل الفني. فراقصو الباليه مثلا يسعون إلى تجسيد القيم الجمالية للخط الجمالي وطلاوته. وبالمثل يهدف الراقصون المعاصرون إلى تجسيد خصائص منفصلة عن الأسلوب الحديث في الرقص، مثل السرعة والتدفق الدرامي، التحديد الدقيق والغنائية. فالإتقان الفني هو محاولة لتجسيد بأقصى ما يمكن وبشكل موضوعي قيم جمالية محددة أو معاني رمزية. وتحدث لحظة التألق عندما يقترب الراقص من هذا الإتقان.
تؤكد هذه التفسيرات صحة مزاعم بيجي فيلان Peggy Phelan في ما يتعلق بوجود ممثل ذي مهارة لخلق ذات لها مصداقية. فالحضور، ووفقا لرأي فيلان، يرتبط بقدرة مؤدٍ بعينه أن يكون مقنعا، مسيطرا، آسرا، لخداع الجمهور لتصديق تمثيله للشخصية التي تم تصويرها. فالأداء قابل للتصديق لأن المؤدي قدم بدقة أسلوب وحركات شخصية معروفة. والمتلقي يميز تقديم نموذج معين أو مجموعة من الأفعال المألوفة على نحو ما. أو قد يكون غير مألوف بطرق متعلقة بالخبرات ذات المعنى. وطبقا لهذا التفسير للحضور، يرتبط حضور الممثل على خشبة المسرح، مثل لحظة تألق الراقص، بقدرته أن يعبر بإتقان، في لحظة التألق عن أداء مسرحي معين، أو سمات ذات مغزى أو تصوير مهم اجتماعيا، إذ يمكن تأمل ما يجعل الشخصية أو الممارسة الاجتماعية ذات معنى لاعتبار أنها قواعد لعبة أو نسق بنيوي معتاد وكذلك أفعال مألوفة. فحضور خشبة المسرح طبقا لهذا النموذج، هو تأثير تطابق المؤدي وإتقانه اللعب بقواعد ألعاب لغوية معينة. ويستخدم المؤدي بخبرته الدقيقة القواعد الخفية للممارسات الاجتماعية التي يمكن تمييزها إن لم يكن من جانب الجميع، فعلى الأقل من جانب المشاهدين المزودين بالثقافة التي تكون فيها هذه الكلمات إيماءات ذات معنى.
وقد تم تحدي هذا الاعتبار التقني الخالص لما يجعل أداء راقص معين خاصا بواسطة أولئك الذين لفتوا الانتباه إلى الفروق بين الذي لا تشوبها شائبة من الناحية التقنية، مع أنها أداءات فارغة وأداءات يتم تحريكها فنيا. فالفرق في القدرة بالنسبة لبعض الراقصين هو استغلال الرقص من خلال حقيقة نفسية. والفرق مرئي دائما في ملامح الرقص. والسبب الثاني لماذا لا يختزل حضور خشبة المسرح بسهولة براعة، أو براعة نخبوية، هو بسبب المفارقة المتعلقة بطاقة وتقديم المعنى. فمن المفترض أن يمتلك المؤدون تمكنهم من إتقان الشكل الفني، ولكنهم يخضعون أنفسهم للقيم الجمالية أو المعاني التي تولدها أداءاتهم. فهناك إحساس لا يستخدم فيه الفنانون لغة الشكل الفني للتعبير عن أنفسهم باعتبار أنهم يلعبون بالمعاني المحددة اجتماعيا والقيم الجمالية. ويقدم أوسلاندر وجها آخر لهذه المفارقة، إذ في مناقشته لأسلوب التمثيل، يقرر أنه إذا كان يجب على الممثل أن يكون سيد المعنى، على حد تعبير رولاند بارث، فإنه يكون في مواجهة مأزق. فالممثل يجب أن يصور بشكل مقنع شيئا ما غير ذاته أو شيئا ليس لديه خبرة مباشرة به. فالممثل يجب أن يصبح مثلا، فيزيائيا أو محاميا، أو ربما قاتلا لزوجة أو طفل.
وقد واجه ستانسلافسكي وبريخت وجروتوفسكي هذا المأزق، ووفقا لأوسلاندر، بشكل خاطئ عن طريق تأسيس شخصية الممثل, ليس فقط تجربة الممثل الحياتية، ولكن أيضا حضور بعض التقديم الصادق لذات الممثل. وقد اعتقد هؤلاء المنظرون الثلاثة أن التمثيل الدينامي يقوم على التجربة الفعلية في الحياة وأن حضور خشبة المسرح يرتبط بشكل أساسي بتقديم الذات. وكانت تفسيراتهم لانغماس الذات، من بين أشياء أخرى، هو الفهم الوجودي الذي يفترض تقديم مشاعر صادقة واختيارات استجابة لمعانٍ محددة اجتماعيا. ومثل المفكرين الوجوديين الآخرين، فإن لب المصداقية هو الحرية في اختيار ذواتنا استجابة لتمثل ذاتي غير صادق تحدده ثقافة العامة. إذ كان يتم تشجيع الممثل المدرب بأساليب وجودية على الحصول على التجارب من وراء عالمه المحدود. وهذا لا يعني فعلا أن يصير محاميا أو قاتلا لزوجة أو طفل، بل امتلاك بدلا من ذلك خبرات تساعد الممثل أن يفهم بشكل عاطفي الموفق الحياتي لشخصيته. إذ من الممكن أن يقوم تصوير الممثل على تعبير ذاتي صادق. ونقد أوسلاندر لمفهوم المصداقية هذا يثير قضايا مهمة.
يهتم أوسلاندر، مثل الوجوديين، بأسئلة الاستقلال في ما يتعلق بالثقافة الجماهيرية. ورغم ذلك، يحتج ضد مفاهيم الذات الصادقة باعتبارها أصل حضور الممثل، ويدعم موقفه بتبني ادعاءات جاك دريدا في ما يتعلق بالأصل اللغوي لتقديم الذات. ومثل دريدا، فإن اللغة بالنسبة لأوسلاندر هي وسيط كشف الذات. إذ يقول لا تنفصل الذات عن اللغة التي تعبر بها عن نفسها: فهي وظيفتها ولا يمكن للغة أن تسبقها. علاوة على ذلك، لأن كل التعبيرات، سواء كانت إيمائية أو لفظية، فهي وظيفة للاختلافات، ويتحدد معناها بواسطة قواعد اللغة باعتبارها نسق الاختلافات. وقد يتأمل الفنانون أعمالهم في إطار التعبير الذاتي، ولكن المؤدي في التحليلات اللغوية لن يعدو كونه نقطة الصفر التي يولدها الأداء. فهو نص مقروء يتحدد بالقيم الجمالية الواضحة اجتماعيا وسياسيا. وموت الذات هو أحد نتائج الامتناع عن نظرية المعنى بعد البنيوي. فالإشارات إلى النيات الفنية للمؤدي لاحقة على الاستراتيجيات السيميوطيقية في قراءة الأداءات باعتبارها نصوصا متعددة التكافؤ. ولذلك يحتاج الممثل فقط إلى التركيز على الكلمات، فضلا عن التجارب الداخلية لكي يجد دوافع مقنعة. وفي الجزء التالي سوف ندرس بدقة أكثر نقد دريدا لميتافيزيقا الحضور، على الرغم من أن تفكيكه للمفهوم يواجه صعوبات أيضا، إذ يوحي بشكل مذهل بإمكانية تفسير فلسفي مقنع لظاهرة حضور خشبة المسرح.
 ما بعد البنيوية، والحضور، والتجسيد:
أعتقد أن أفضل فهم لنقد دريدا لمفهوم الحضور، هو في علاقته بنظرية المعنى التمثيلي representational theory of meaning. فطبقا للنزعة التمثيلية، ترتبط كلمة «صورة image» أو «دال signifier» «بمدلول Signified» أو «مرجع referent». والمرجع هو شيء، سواء كان شيئا ماديا فعليا أو فكرة (شيء مادي). والكلمات لها معنى وفقا للنزعة التمثيلية، لأن جماعة الناس تشترك في نفس الدلالات لنفس الأشياء (المادية والذهنية). والدلالات سواء كانت لفظية أو مكتوبة أو إيمائية، فهي بدائل الأشياء غير الحاضرة فعلا. ولذلك نتحدث عن العلامات أو جعل الدلالات تحضر هذه الأشياء الذهنية باعتبارها مفاهيمنا المشتركة في الحب والعدل والصداقة. وبالمقارنة، يجادل دريدا ضد ثنائيات العقل/ الجسم المفترضة بإلحاح على هذه الأشياء الذهنية مثل «الأفكار» في العقل. واللغة طبقا لدريدا، هي نسق الفروق المميزة ماديا وسواء كانت دلالات لفظية أو إيمائية تعمل باعتبارها علامات ملموسة في نسق اختلافات ملموس لدينا معرفة به لا أكثر ولا أقل. فمستخدمو اللغة يتعلمون نسق الاختلافات. ويصبحون معتادين على اقتصاد معقد ومتطور للاختلافات التي تميزها الدلالات. ولذلك، فإن المعنى هو نتيجة لعب الاختلافات. وتفسيرنا للاختلاف لا يحتاج، رغم ذلك، حضورا من وراء الدلالات أو سابق عليها يمكن أن يفهم بشكل شائع بأنه يشير إلى الأشياء أو يمثلها، ولكن معناها معطى في علاقة مع مدلولات أخرى في كل سياق محدد يتكررون فيه.
ومفهوم التكرار مهم في تفسير دريدا للمعنى. فهو يستخدم مصطلح «الإعادة iteration» لكي يشير إلى شرط احتمال الاتصال. ويشير إلى وظيفة اللغة التي تسمح بالمعنى وترجئ الحضور. والإعادة، في أحد معانيها، شبيهة بوظيفة التكرار المذكورة آنفا في ما يتعلق بالحضور باعتباره تعبيرا متقنا عن قواعد (أو الاقتصاد) الممارسة (أو نسق الاختلافات). وقد فهمنا بحق كلمة جديدة، مثلا، عندما نستطيع أن نستخدمها بشكل صحيح في سياق جديد. والإعادة هي أيضا، رغم ذلك، شرط استحالة المعنى المحض: فتكرار الكلمة أو الإيماءة هو دائما إعادة صياغة لها، كما يقول دريدا، ولذلك تحدث العثرات في المعنى. إذ يتم الحصول على المعاني الجديدة لفضل تكرار كلمة أو إيماءة في سياقات جديدة. وجدال دريدا ضد الحضور هو جدال ضد الاستمرارية في المعنى. والسياق الجديد (وهناك عدد لانهائي من التكرارات للكلمات في سياقات جديدة) يتولد اقتصاد جديد في الاختلافات. ويستخدم دريدا مفهوم الاختلاف لكي يشير إلى علامة أو أثر الاختلافات بين المدلولات المتكررة التي تولد معاني جديدة، ولكن الاختلاف، طبقا لدريدا، هو لا شيء في ذاته. فعلى الرغم من أن المدلولات ومراجعها تجعل الاختلاف يبدو وكأن كلماتنا وإيماءاتنا لها معانٍ ثابتة عبر السياقات. ويركز تحليل دريدا على عدم ثبات اللغة. ويؤكد على الانقطاع في معانينا المقصودة، وتعدد المعاني المحتملة بفضل إعادة الصياغة. ومفاهيمه في الاختلاف والتكرار كانت مفهومة علاوة على ذلك، لكي تطبق ليس فقط على الكتابة واللغة الشفهية، ولكن أيضا تطبق على كل الخبرة البشرية. فقد أتاحت أعماله استراتيجيات تفكيكية تتحدى التلقي المعياري للمعنى الثقافي. فمثلا، يزعم منظرو الأداء مثل بيجي فيلان أن الجسم ليس مترابطا، بل تجعله قراءة الممارسات جميلا، أو مريضا، أو يحيا جيدا، أو يموت. والأداءات، بالنسبة لفيلان، مثل الآخرين الذين طبقوا السيميوطيقا التفكيكية، هي نصوص للقراءة والتفسير. فالكلمات والإيماءات، والملابس والموسيقى والمجموعات والأحداث... إلخ، كلها مادة تميز الاختلافات في سطح النص. وسوف يكون المشاهد معتادا، لا أكثر ولا أقل، على نسق اختلافات توظف فيه هذه العلامات بشكل له معنى. فهناك، رغم ذلك، طرق جديدة ومختلفة دائما لتفسير النصوص نظرا للطرق المتعددة التي تكون فيها النصوص نسخا من دوال متكررة.
يشير الاختلاف والتكرار إلى آليات البنية اللغوية وبذلك يحافظ تفسير دريدا على ثنائية الشكل كوظيفة للخطاب أو البنية اللغوية، والمادة باعتبارها لغة الخارج، إما أن تكون بلا شكل أو بلا بنية أو لا يمكن الوصول إليها بمنطق اللغة. وقد تم انتقاد تفسيره بأنه مفرط في الشكلية، وبالتالي غير مجسد. وكما تقول جوان سكوت Joan Scott: «لم يعد الأفراد هم الذين يملكون الخبرة، ولكن الذوات هي التي تأسست من خلال الخبرة... فالخبرة حدث لغوي... وعندئذ يصبح السؤال هو كيف نحلل اللغة؟». وبالمثل، يخلص أوسلاندر، في السياق من نقده للتفسير التقليدي للحضور على خشبة المسرح، أنه لم يعد التوضيح الذاتي المحض ممكنا على المستوى المادي أكثر من المستوى اللفظي بسبب توسيط الاختلاف. فالاتصال سواء كان تعبيرا إيمائيا أو لفظيا، يتحدد بواسطة قواعد اللغة باعتبارها نسقا من الاختلافات.
للوهلة الأولى، يبدو أن تفسيرات المعنى، مثل تفسير دريدا، تستبعد تفسيرات ظاهرة الحضور على خشبة المسرح باعتباره تجربة صادقة لذاتنا الحية بشكل خلاق «في لحظة التألق» وفي العلاقة الفعالة مع ما يحيط بنا. إذ تصبح ذاتية المؤدي هي نقطة الصفر في تقديم المعنى من خلال دوال إيمائية وأخرى بدنية. والحضور باعتباره ظهور شيء حقيقي، هنا والآن، وظهور ذات وجسم مادي فاعل في العالم، يشارك بشكل تبادلي مع أجسام أخرى حقيقية أو ملامح أخرى للعالم، إذ تبدو كل هذه الأفكار التي ترتبط بمفاهيم الحضور على خشبة المسرح والانفتاح على العالم الحقيقي، من منظور سيميوطيقي، مستحيلة للدفاع عنها فلسفيا. وبمجرد أن يحاول الشخص أن يعبر عن شيء يتعلق بخبراته اللاشفهية، فإنها تظهر داخل النسق الرمزي للاختلافات التي تميزها الدوال. والصعوبة ليست فقط، رغم ذلك، أن الفهم الذاتي يتم بناؤه بواسطة اللغة التي نستخدمها لوصف أنفسنا. فإيماءاتنا الجسمية، ونوع الثياب، وأسلوب الحركة، ووضع الجسم، والسلوك والتعبير الوجهي والتعبيرات الأخرى، تُفهم كلها باعتبارها صورا مشروطة اجتماعيا للوجود الإنساني. وعلى هذا النحو فهي أفعال معتادة، وتكرارات، وكذلك أيضا دوال ذات معنى في نسق من المعاني المحتملة المحددة اجتماعيا. فكل ما نجد له معنى في الحياة يتحدد بالنسبة لنا من خلال تكيف اجتماعي - لغوي خارج عن سيطرتنا، وغالبا خارج عن معرفتنا الواعية. إن تعريفنا الممتد للذاتية الإنسانية كوعي أحادي مستقل وحر يتم تحديه من خلال تفسير لغوي للمعنى. فالطاقة التي كان يعتقد أنها في صميم الذاتية هي في النهاية عرضة للخطر، وكذلك، الامتناع عن موت الذات.
وتساهم فيلان في هذه المناقشة بتطوير أنطولوجيا الحضور من مفهوم الاختلاف عند دريدا. فهي تعرف مفهوم الحضور المنسوب إلى الأداء الحي بشكل تناقضي بأنه غياب. فحياة الأداء الوحيدة هي في الحاضر، كما تقول فيلان. إذ لا يمكن إنقاذ الأداء وتسجيله وتدوينه، أو أي شيء آخر يشارك في نشر تمثيلات التمثيلات: وبمجرد أن يحدث ذلك يصبح شيئا مختلفا عن الأداء... فكينونة الأداء مثل أنطولوجيا الذاتية... تصبح ذاتها خلال الاختفاء. وطبقا لفيلان، ذلك لأن الأداء يحدث في لحظة المزن المعيش لدرجة أن له إمكانية إحضار ذلك الذي لم يتم الاستدلال عليه. مثلما أن التكرار، بالنسبة لدريدا، هو الشرط لإمكانية كل من الاتصال وغموض المعنى، فإن الأداء بالنسبة لفيلان هو احتمال الانفتاح على ذلك على ما هو خارج النص، الذي هو غير مميز. إن فورية المظاهر التي تتجلى زمانيا ومكانيا هي التي لها معنى خاص عند فيلان. وبخلاف اللغة المكتوبة، فإن الأداءات الحية المجسدة ليست متشابهة. والفرق بين الأداءات الحية، وأيضا الفرق بين قراءة بعينها أو تفسير للأداء وحقيقته المادية، هو مثل الاختلاف، ليس شيئا في ذاته، بل احتمال السقوط في العلاقة متماثلة الخواص المزعومة بين المعاني اللغوية وحضورنا المعيش المتجسد في العالم. ولذلك، فإن تفكيك دريدا للحضور بالنسبة لفيلان لا يستبعد بالضرورة احتمال أن ينتقل المعنى اللغوي بواسطة غير المميز.
وعلى الرغم من أن أوسلاندر متعاطف مع الدور السياسي الذي تقدمه فيلان للحضور في نظرية الأداء، فإنه ينتقد فيلان لعدم فهمها لمغزى التكامل المنتشر والتأثير التطوري للسينما والفيديو وتكنولوجيا الحاسوب على الأداء الحي. فاهتمامه السياسي المدعم بأعمال والتر بنيامين Walter Binjamin، هو التلاعب في صناعة الترفيه في الثقافة الجماهيرية. وينتقد أوسلاندر أيضا مفهوم الحضور على خشبة المسرح باعتبار أنه يقوم على افتراضات ميتافيزيقية زائفة. وباتباع دريدا، يزعم أوسلاندر أن وصف الحضور على خشبة المسرح هو أحلام الحنين إلى أصل مفقود للمعنى. ويعترض على ادعاءات تتعلق بالحضور على خشبة المسرح التي تروق للجسد باعتبار أنها تجاوز للعب الاختلاف الذي ينشئ اللغة. ولكي يقدم حجته ضد فيلان، يبني أوسلاندر قضيته على أنطولوجيا الحضور عند فيلان باعتباره اختفاء علاوة على تفكيك دريدا لميتافيزيقا الحضور لكي يوضح كيف أن كل من الأداء الحي والأداء الوسائطي كلاهما محمولان على أنطولوجيا الاختفاء. فهو يجادل بأن تاريخ مفهوم الحركية Liveness يبين فارقا بسيطا بين الأداء الحي والأداء الموسط بخلاف مشروطية تاريخية، ومفهوم رومانتيكي للحركية باعتبارها مفاهيميا أكثر مصداقية وتسبق زمنيا الأداءات الوسائطية. فالأشكال الوسائطية مثل السينما والفيديو، كما يقول أوسلاندر، يمكن أن يتضح أن لها السمات الأنطولوجية نفسها مثل الأداء الحي، ويمكن استخدام الأداء الحي بطرق لا تختلف عن الاستخدامات المرتبطة عموما بالأشكال الوسائطية. ويتضمن المثالان اللذان يصوران رؤيته تكامل تسجيلات الفيديو والموسيقى المسجلة في الأداءات الحية والعروض التالية لجولات عازفي موسيقى الروك في جولاتهم الحية بتسجيلاتهم الموسيقية الأصلية. ويهتم أوسلاندر بمثل هذه الحالات مع تحويل الحضور إلى سلعة وتفضيل شكل على آخر على افتراضات مشكوك فيها. مع أنه، يقدم ذلك على أن الأداءات الوسائطية تنطوي على المعاني نفسها مثل العروض الحية، ذلك أنها قد تشغل الحواس بشكل مختلف. ويقرر أيضا أن الفروق في النوع أقل ملاءمة من الفروق في الأهمية. ورغم ذلك، فإن الاعتراف بأن الحواس يمكن أن تنغمس بشكل مختلف يسمح بأن تكون الأنطولوجيا الحركية والحضور اختلافات غير ضرورية. ورفض أوسلاندر للمعنى المحتمل للكيفية التي يمكن أن تكون بها الحواس منغمسة بشكل مختلف يتجاهل أهمية الجسم. علاوة على ذلك، فإن القول بأن أنطولوجيا الحضور هي مؤشر ضعيف للفروق الملائمة معياريا بين الأداءات الحية والأداءات الوسائطية يتجاهل العلاقة بين ارتباطنا الأخلاقي وفهمنا للخبرة البشرية.
والسؤال النقدي هو هل التكرارات في اللغة الشفهية هي نفسها التكرارات في الوسائط الأخرى؟ بمعنى أنها تكرارات بلغة مكتوبة أو منطوقة هي نفسها التكرارات في تعبيرات الوجه والإيماءات والحركات الجسمية وأوضاعها؟ إن تكرار إيماءة أو حركة جسمية هو بالتأكيد مختلف عن تكرار الكلمات المكتوبة. ففي أبسط المستويات وأكثرها حرفية، فإنه ما يجعل الموسيقي يكرر نغمة موسيقية على لوحة المفاتيح، بينما في الحفلة الموسيقية الحية يختلف الأمر بالتأكيد عن إعادة سماعها من أسطوانة DVD في غرفتي. وربما من الصواب أن نقول إن كل الحواس منغمسة في كلتا التجربتين، ولكنهما قد تكونا أيضا منغمستين بشكل مختلف تماما. وأقترح هنا أن أنطولوجيا التكرار هي ملاءمة رغم ذلك. ومفهوم دريدا للتكرار مفيد، ولكنه يظل مفهوما بشكل فضفاض شكلي عند تطبيقه على كل التجربة. والطرق المختلفة التي توظف بها الحواس في سياقات مختلفة له مغزى. ولا أشير هنا فقط إلى العلاقة بين المؤدي والمشاهد، ولكن إلى التكرارات التي نشأت بشكل مختلف والتي تنتمي إلى مختلف الوسائط في إبداع فن الأداء. وكيف تنغمس الحواس هو ذي مغزى لمعنى التجربة. فمفهوم التكرار هو بداية جيدة لفهم بنية التجربة الإنسانية باعتبارها ذات مغزى، ولكنها تظل مجردة جدا وآلية حتى تقدم الكثير في سبيل تفسير الخبرة الإنسانية كما تتجسد بالشكل الكامل.
 أنطولوجيا الحضور عند ميرلوبونتي:
يتجه الفلاسفة المهتمون بأنطولوجيا الخبرة إلى فلسفة ميرلوبونتي الظاهراتية المتعلقة بالوجود الجسدي في العالم لتفسيرها للمعنى المتأصل، ليس فقط في اللغة والإدراك، بل أيضا في القوى الجسدية للإدراك. وفي كتاب «ظاهريات الإدراك Phenomenology of perception» يحلل ميرلوبونتي مختلف صيغ الإدراك، مثل التنقل، والرؤية، والسمع، والتذوق، واللمس، والشم، والسلوك الاجتماعي، والسلوك الجنسي، واللغة. وعلى الرغم من أن هذه القوى المختلفة منفصلة كل منها عن الأخرى، فإنهم متضافرون أيضا. ويسمى هذا التفاعل «إدراك مصاحب synaesthetic perception». وبالنسبة لميرلوبونتي، يحدث هذا التحول في حواسنا داخل حدود كل صيغة باعتبارها وسائط مادية منفصلة نرتبط من خلالها بملامح معينة من العالم. ومثل هذه الادعاءات ملائمة لمفهوم الحضور.
وعلى الرغم من أن مادية أعضاء الحواس تتراجع في الانغماس الوسائلي بالبيئة، فإن كل صيغة للإدراك مبنية بشكل فذ بواسطة دستورها المادي المنفصل. ويمكن أن نختبر عيوننا كنوافذ تطل على العالم مثلا دون أن نكون واعين بمادية العضلات والأعصاب.. الخ التي تساعد النظر. توظف عيون البشر بطريق متفردة بالنسبة لبنيتها ومختلفة عن الطريقة التي نرى به عيون الحشرة وعيون الثدييات الأخرى البيئة. ويصف ميرلوبونتي قوى الإدراك بأنها تستعد للعالم. فهي بنيات قصدية، بمعنى أنها صلات مميزة عن ملامح معينة في البيئة. ويستخدم مصطلحا التسامي transcendence والقابلية للانقلاب reversiblity لكي يصف هذه البنيات القصيدية. ويترتب على هذا الترابط الجسدي مع البيئة أن طرقنا في التحرك لا تكون فقط تأثيرات للقيم الداخلية المتأصلة في الأنساق اللغوية الاجتماعية. بمعنى أنني لا أتحرك بطرق نسوية فقط لأنني أستوعب القيم الإنسانية للأنوثة. بل أتحرك بطرق معينة لأن لي جسما معينا له طاقات معينة في الحركة، جسما مماثلا لبشر آخرين، بعضا فريدا في جسدي إلى حد ما، لأن هذه القوى الجسمية المميزة موجهة إلى سمات معينة في العالم. فأسلوب الحركة ليس تأثيرا لقوى تنبع فقط من ممارساتنا التمثيلية. إنها أيضا تأثير ملامح معينة في البيئة تنضم بشكل معقد إلى القوى الجسمية الفريدة التي تنتمي للفرد. وهي تتأسس داخليا بواسطة خصائص الانتماء إلى كل من قوى الفرد الجسمية الفريدة في الإدراك والخصائص النوعية، علاوة على مؤثرات المفاهيم الجمالية، أو ما يسميه ميرلوبونتي في أعماله الأخيرة «المؤثرات العابرة المتقاطعة» من مختلف طرق الإدراك الأخرى (بما في ذلك اللغة) ومن ملامح معينة من البيئة التي يتفاعل معها الفرد. بمعنى آخر، أسلوب الحركة مبني بشكل مركب بواسطة الكثير من مختلف القوى المشاركة.
يصف ميرلوبونتي خلاصة مختلف الصور التي تكون معا الادراك باعتباره إدخالا قصديا للفرد في عالمه. فهو يستخدم مصطلح «القصدية» لأنه، مثل هوسرل، يفهم النهاية المتسامية للإدراك بأنها أشياء وأفعال في العالم المادي. فالشيء هو التركيبة المتألقة في دمج القوى الجسمية للإدراك. فمثلا، رؤيتي عبر العمق الممتد لقاعة العرض، والمعاني المحددة الصدارة من حركات راقص بعينه، هي نقطة التألق لمختلف طاقات القوى الجسمية. فعيناي لها قدرة مادية معينة على تركيز الضوء وتعيين ملامح الرافض بوضوح أمام خلفية مقدمة خشبة المسرح، وصفوف الناس الآخرين الجالسين في قاعة المسرح، والديكور والإضاءة والملابس والراقصين الآخرين. كما أن معرفتي لفن الرقص الغربي تساعدني أيضا في التركيز على المعنى، وكذلك أيضا الإضاءة انكسارها خلال عدساتي، ومادية الراقص وبيئته، ومعالمها المتغيرة والألوان وظلال الضوء والظلام، وتغير التجليات وردود أفعال المشاهدين.. إلخ. ويطلق ميرلوبونتي على وحدة إدراك الشيء اسم «الرمزية symbolism» بمعنى أن هناك عدة صور تضم العلاقات ذات المغزى للأشياء في العالم، بعضها مادي، وبعضها عاطفي، وبعضها اجتماعي لغوي، وبعضها إدراكي، وبعضها متفرد بفضل تفرد أجسامنا، وبعضها عام، والطرق الأكثر شيوعا من خلال تشابهنا مع الآخرين والطبيعة الاجتماعية لعالم الإنسان.
وفي سياق حجته ضد أحادية هوسرل وافتراض أن الحقيقة هي الشيء في ذاته، يقرر ميرلوبونتي أن «ما يصنع حقيقة الشيء هو بدقة ما يبعده عن فهمنا». وهنا تكون أنطولوجيا الحضور عند فيلان موحية لزعم ميرلوبونتي بأن استقلال الشيء، وحضوره غير القابل للتحدي وغيابه الدائم داخل ذلك الذي يتراجع، هما صورتان لا تنفصلان للتسامي. فإدراك الشيء هو دائما عملية ناقصة، وحقيقته بالنسبة لنا معطاة في الصفة الناقصة من التجربة الإدراكية. إذ لن نصل إلى كلية ما يجعل الشيء ما هو عليه. فإدراكنا دائما محدود بما لم نره بعد، وما لم نعد نراه، وما هو غائب عن رؤيتنا الحالية. فالفكر يخطئ في تصور الإدراك حتى يتم إتمامه بفعل الإدراك. فمثلا عبارة «هذه رقصة عن الحب الرمانتيكي، أعرف ذلك الآن». أعرف ذلك بطريقة مجردة كلية الحضور وبعيدة عن أي تصور بعينه بسبب المفاهيم المجردة للرقص والحب الرومانتيكي. وبالمقارنة، يقول ميرلوبونتي إننا نفهم الشيء مثلما نفهم نوعا جديدا من السلوك.. فشكل السلوك يحدد طريقة معينة في تناول العالم. وذلك يعني أن مفاهيم الرقص والحب الرومانتيكي يشاركان بطريقة معينة في الفهم، ولكن التجربة الإدراكية تكون دائما ناقصة، وجزئية، وغامضة على نحو ما، ولن تكون كلية. إذ يكتسب الفهم والرؤى الجديدان مع المزيد من المواجهات مع الشيء.
ويدفع المغزى المعرفي لنقص الإدراك بجانب فلسفته الظاهراتية في التأسيس البدني المركب للقصدية، إلى الزعم بأن هناك نسقا من المستويات يوجه الشخص نحو مسافة مثالية أو إلى القرب الذي يفضل من خلاله فهم شيء معين. والقرب هو التوازن بين الوضوح والثراء عندما تكون الأشياء بنسبة معكوسة تجاه بعضها البعض. فمثلا، إذا أردت أن أرى التعبيرات على وجه الراقص وتفاصيل إيماءاته، فإنني أحتاج إلى الاقتراب أكثر. ورغم ذلك، أستطيع أيضا أن أقترب جدا إلى أن معاني الرقص المقدمة في تغير علاقات الراقص المكانية بالنسبة للراقصين الآخرين فسوف نتوه. وطبقا لميرلوبونتي، فإن نسق المستويات الذي يميل إلى المثالي ينشأ من خلال مختلف القوى الجسمية، أو من ملامح الشيء علاوة على اللغة، أو الإدراك، مثل مفاهيم معينة في الرقص. ووحدة أو تركيبة هذه المقومات المختلفة هي تحقيق حضور اتصال فائق أو غير قابل للتغير أو حضور فردي لشيء في بيئة. والمصطلح الآخر الذي يستخدمه ميرلوبونتي لكي يصف هذا الفهم القصدي المركب على البيئة هو «تخطيط الجسم Body schema». إنه التركيب المعقد لهذا الفهم الذي يقود ميرلوبونتي إلى أن يقول إن الحواس محملة أو حاملة للمعاني التي تظل خفية حتى تمنح تمثيلا. ولن نفهم تماما الشيء أو نستهلك مجال الخبرة الإدراكية في أي بيئة. ولذلك، فإن ميرلوبونتي، مثل دريدا، يؤكد على عد ثبات وشكوكية المعرفة الإنسانية، ولكن لأسباب مختلفة.
يقوم فهم ميرلوبونتي لعدم ثبات التجربة ذات المعنى على ظاهراتية الإدراك. وتقوده حجته في النزعة المنطقية إلى استخدام واقعية مخففة في ما يتعلق بالشيء باعتباره حافزا لوحدة التجربة الإدراكية. فأفعالنا أو ممارساتنا تربط المدرك بالمدرك Perceiver with the perceived أو تربط الشخص بالبيئة. وهذه الإبستمولوجيا، رغم ذلك، ليست مقولة نقيضة للتفسيرات السيميوطيقية للمعنى بسبب الناقصة والمقوضة لطبيعة الإدراك. فمن المفهوم أن هناك محفزين آخرين للوحدة بجانب الشيء. ومن الممكن أن تحفز تلك الأفكار أو المفاهيم المجردة, أو الرموز أو المشاعر، فضلا عن الأشياء في العالم، وحدة التجارب الإدراكية. ويعترف ميرلوبونتي بإمكانية منطق للإدراك مركب بشكل مختلف في تعليقاته الفصام والفكر المنهجي باعتبارهما تعبيرين مختلفين عن الوجود المكاني. وذلك لأن هناك دوافع متحدة يدعي ميرلوبونتي من خلالها أن الارتباط بين المدرك والبيئة ليس فقط نتيجة السببية المادية. فالإدراك ليس نتيجة السبب المادي فقط جزئيا بسبب نشأته التركيبية المعقدة، ولكن بسبب طبيعته الفعالة فضلا عن طبيعته الكامنة. فمعايشة البنية ليس تلقيها داخل ذاتنا بشكل كامن: إنما نعيشها، ونتلقاها، ونفترضها ونكتشف مغزاها المهم. إذ يتم تحفيز ملاحظات العالم بطرق مختلفة. فمثلا، موضوع العلم هو وظيفة قياس علاقات الفراغ والقوة والكتلة، وتفترض انفصالا من الذات، وصعوبة قياس الاهتمامات الكمية بالشيء. وبالمقارنة، المفاهيم الشاعرية للأشياء تتحفز غالبا بالمشاعر والذكريات والرغبات والارتباطات المجازية الشخصية.. إلخ. وكذلك يمكن أن تحفز المعاني اللغوية طرقا معينة في معايشة العالم، ولكن الذي يميز إبستمولوجية ميرلوبونتي عن نظريات المعنى الأخرى هو الدور الذي يلعبه التجسيد في صناعة المعنى.
تفشل الاعتبارات اللغوية للمعنى في الاعتراف بكيف أن صور الشيء والبيئة تساهمان في تركيب الإدراك، فهي تفترض على نحو ضيق أن الوظائف اللغوية فقط يمكنها أن تكون محفزات للوحدة الإدراكية. وبالنسبة لميرلوبونتي، لأننا ننشغل بالطبع بالأشياء في العالم، لأن جسمي هو حركة في اتجاه العالم، والعالم هو نقطة الدعم لجسمي، فإن الإدراك ليس اضطرابا في الإحساس الذي يتركب إما في فعل العقل أو في آليات اللغة أو في القيم المتأصلة في الممارسات الاجتماعية. ولا يعتبر الإدراك مفهوما اجتماعيا تماما بالقدر الذي يفهم فيه أن الشخص المتجسد يتم تغييره وفصله عن الظروف المادية للبيئة. فوحدة التجربة الإدراكية هي وظيفة الانشغال المركب والفعال والمجسد بملامح معينة في البيئة. فالممارسات اجتماعية، ولكنها أيضا تتجسد وترتبط كذلك بالبيئة بطرق مميزة. وبالنسبة لميرلوبونتي، فإن بناء التجارب باعتبارها ذات معنى ينتمي إلى الإنساني واللاإنساني. فوعيي بالعالم يتأثر بضوء الشمس، القوى الكهرومغناطيسية، والطاقات النفسية الذاتية المتبادلة وعناصر أخرى في الطبيعة التي أستجيب إليها، بطرق غالبا ما تكون مستعصية على الوعي الإدراكي.
وفي سياق مناقشة الإحساس، يقرر ميرلوبونتي أن الذات هي الزمن نفسه. وفهمنا القصدي للعالم، بالنسبة لميرلوبونتي، هو كل من المفهومين الزمني والمكاني. فاللحظة الحالية، بمعنى تجربتي الإدراكية الفورية، لها عمق زماني - مكاني. فهناك على الأقل طريقتان مختلفتان لفهم الزمنية المكانية للقصدية. أولا هي تأسيس التجربة كمركب من مختلف القوى الجسمية المنغمسة أو المرتبطة بملامح البيئة. ففي المركب المنشئ للإدراك، مثل الإدراك المرئي للشيء، يمر الزمن ليس فقط باعتباره سلسلة من الفترات المتكافئة والمسجلة، بل أيضا باعتباره إيقاعا للانفتاح في إدراك الشيء. والمثال المفيد لهذه التجربة المكانية غير المتتابعة يمكن أن يكون الإحساس الذي يكون لدينا عند فقدان مسار الوقت المسجل أثناء استيعابه في نشاط. وفضلا عن الفترات المنتظمة للوقت المسجل، ننغمس في إيقاعات تنشأ من الفعالية نفسها، يتولد المد والجزر من العلاقات المادية (الجسمية) في البيئة المعينة التي نشارك فيها. فمثلا، من السهل أن تصبح منغمسا في ظهورك القادم على الشاشة. وبدون التفكير بوضوح في العضلات وتناغم الأصابع، نكتب المعنى كله على لوحة المفاتيح الذي يظهر عندئذ على الشاشة. ونؤدي الحركات باستخدام الضغط على الفارة التي تحملنا بمشروع محدد، جزئيا، من خلال وسيطه الإلكتروني. والصلة بيننا والمعنى الرمزي للنص مراوغة، إذ يتم الجمع بين الوسيلة الإلكترونية التي يتم تمثيلها ماديا في تجربة زمن مميزة بقدرات إدراك منغمس بشكل معين، وسمات خاصة للبيئة، وقوى جسمية خاصة بالفرد، وخشية من صور أخرى والتي يمكن أن تكون مركبة من عناصر هذه الفعالية.
والثاني المتعلق بالطريقة التي يمكن أن توصف بها القصدية باعتبار أنها كل منهما زماني ومكاني، هو تكراري، وذو بنية معتادة في التجربة الإدراكية. فالإدراك في أكمل معانيه، بما في ذلك كل الصيغ المتنوعة للوجود في العالم التي يناقشها ميرلوبونتي في كتابه «ظاهريات الإدراك»، تتعلق بالنماذج الحدسية المعتادة للارتباط الجسمي بالبيئة. ويستخدم ميرلوبونتي مصطلحات مثل «الأسلوب» و«الإيقاع» و«المخطط الجسماني» لكي يصف البنيات المترسبة والكامنة أو تراكيب مختلف العناصر التي تؤسس إدراك الفرد ذا المغزى والمتفاعل مع البيئة. فالأفراد لديهم، مثلا، أسلوبهم في المشي والجري والرؤية والتفكير. فالأسلوب هو نموذج مترسب مدرك من الصور المتداخلة مع البيئة. وبشكل مماثل لمزاعم دريدا حول التكرار، فإن التجربة الفورية أو الحضور في بيئة، بالنسبة لميرلوبونتي، مشروط بنماذج راسخة، وتكرارات، وعادات إدراك. ويمكن أن تفهم عادات الإدراك هذه باعتبارها أنساقا للاختلاف، فمثلا، قدرة الراقص أن يقدم إيماءات معقدة جماليا بشكل له معنى هي القدرة على تحريك جسمه في علاقة مع الجاذبية، فالقيم الجمالية للشكل الفني، والراقصون الآخرون، وبيئة خشبة المسرح... إلخ مسيطر عليها بوجه خاص، وهي كذلك أساليب متكررة. ورغم ذلك، بالنسبة لميرلوبونتي، فإن الحضور ذا المغزى فيما هو غير مألوف ومختلف عنا لن يكون مستحيلا بهذه الطريقة. وبدلا من ذلك، يكمن تعديل بنيات الإدراك المعتادة بفضل تأسيسها كانغماس في البيئة. إذ يتم تعديل عادات الإدراك في علاقة دينامية مع تلك الملامح المتوقعة التي تأسست عليها أولا باعتبارها نماذج إدراك. فالادراكات هي محمولات أو صلات بملامح معينة من البيئة تؤسس أسلوب الوجود في العالم. فهناك تحولات في البنيات المعتادة بسبب «وجود» العالم الذي يتسامى ويؤثر كذلك في عادات الإدراك التي تبني خبرات معينة.
وطبقا لميرلوبونتي، فإن وحدة المخطط الجسمي كذلك مفتوحة وغير محدودة. على الرغم من أنه قد يصح أن تكون التجربة الإدراكية ذات المعنى محتملة بسبب أسلوب الإدراك المكتسب أو الاتصال بملامح من البيئة. فبيئاتنا لن تكون ثابتة ولن تكون هي قوى الجسم. فالأجسام تتغير بالمزيد من التجارب وبسبب الشيخوخة والقوى الأخرى المؤثرة في ظروفها المادية. والبيئات أيضا في تدفق مستمر. علاوة على ذلك، لأن الإدراك جزئي ويستحيل أن يكون كليا، فإن وحدة الإدراك، بمعنى، المخطط الجسمي أو أسلوب التصرف الذي ينشأ في علاقة مع ملامح معينة من البيئة، هو أيضا مفتوح على النقلات الدقيقة والتكيف. ومثال هذه النقلة هو التحول الذي يصنعه مستخدم الواقع الافتراضي من أسلوب للفهم في العالم الفعلي إلى فهم آخر موجه إلى الصور المتولدة من الحاسوب. فأغلب تقنيات الواقع الافتراضي، مثل عروض الشاشات المحملة Head mounted displays، التي تستخدم التحفيز المباشر لشبكية العين، فضلا عن الضوء المنعكس والمنكسر (والذي هو كيف نفهم الأشياء الحقيقية في العالم الفعلي). وهذه النقلة في البنيات القصدية التي توجه الشخص إلى العالم بطرق معينة ومجسدة تماما، يفسر لماذا يمارس كثير من مستخدمي شاشات العرض المحمولة الغثيان الشديد من التشويش، ولماذا يتبدد الغثيان مع الاستخدام المتكرر. فالبيئات الاصطناعية تحتاج طرقا جديدة في استخدام الجسم، وتجليا جديدا لوحدة المخطط الجسدي الذي يربط الشخص بالبيئة. فالشخص، وليس كما يُعتقد أحيانا، لا يتجسد باستخدام التقنية، بل يعاد تجسيده في تجربة الحضور في بيئة جديدة سواء كانت بيئة فعلية أو افتراضية.
وهاهنا تكمن الفكرة الأساسية. فإبستمولوجية ميرلوبونتي تقدم تفسيرا للحضور باعتباره تجليا للمخطط الجسدي، فالحضور هو انفتاح على بدائل في وحدة المخطط الجسدي، أو ذلك النشاط المجسد للمركب والتوازن بين الثراء والوضوح الذي يؤسس خبراتنا الإدراكية. وهذا التفسير للحضور باعتباره نقلة في المخطط الجسمي الذي يربطنا بالبيئة لا يؤسس الجسم، بل يؤكد ماديته وتأسيسه المرن. ولا يستثني هذا الشرح التأمل الفلسفي في طبيعة التجسيد. فالتأمل ممكن لأن القوى الإدراكية واللغة هما الصورتان المؤسستان للتجربة الإدراكية علاوة على صيغ الإدراك الأخرى. علاوة على ذلك، يتكامل هذا الشرح مع التفسيرات السيميوطيقية للمعنى بدون اختزال التجربة ذات المعنى إلى مجرد وظائف للغة.
ومثل مفهوم فيلان للحضور باعتباره غيابا، فإن الحضور كنقلة أو تغير في المخطط الجسدي يتضمن اختفاء أو غيابا. فالغياب الذي ينطوي على نقلة في المخطط الجسدي، رغم ذلك، ليس النفي الفارغ أو المنطقي للتمثيل. فالحضور المجسد كنقلة هو إمكانية التغير الثري أو الإيجابي، بمعنى آخر، احتمال حقائق جديدة. فالتعديل في الأساليب المميزة للتجسيد، النسوية والذكورية مثلا، لا تجيء فقط لأن الوظيفة الشكلية لإعادة تأليف أو تكرار التمثيل في سياقات جديدة. وتأتي التغيرات في معنى وبنيات الإدراك المعتادة بسبب تأسيس هذه البنيات المعتادة باعتبارها ارتباطات جسمية بالبيئة. والتأكيد هنا على كلمة علاقة. فالغياب ليس مجرد نفي فارغ للحضور، ولكن تجربة النقلة في المخطط الجسدي الذي يربط فرد بعينه ببيئة بعينها. والنقلة التي تجلب معها احتمالات طرق جديدة في الربط أو العلاقات الجديدة بمختلف الملامح داخل بيئة مألوفة.
والنقطة الأخيرة ملائمة لحجة أوسلاندر ضد التمييز الأنطولوجي بين الأداء الحي والأداء الوسائطي. فتجارب الأداء الوسائطي هي بالطبع مثل الأداءات الحية في أنها قد تنشغل بها كل الحواس، ولكنها تنشغل بشكل مختلف. فمثلا، بفضل السلوك الفريد للأساليب الجسمية، إذ لا يوجد لهما نفس التجربة بالضبط. علاوة على ذلك، لأن التخطيط الجسدي يتحول بواسطة خصائص تنتمي إلى عناصر بيئية مختلفة، فقد يكون الفرق واضحا فنيا وأخلاقيا. فمثلا، ربما نختار أن نتواصل مع آخرين عن طريق التليفون أو البريد الإلكتروني أو بالاتصال الشخصي. وسوف يشغل كل وسيط اتصال مختلف القوى الإدراكية بشكل مختلف ويساهم بأسلوب معين في الربط، الذي يتأسس جزئيا بواسطة شروط مادية تنتمي إلى وسيط هذه العلاقة. وبالطريقة نفسها التي نختار بها وسائط معينة للتحدث في الحياة العادية، أحيانا لأسباب ترتبط بوجه خاص بأسلوب الاتصال المقدم بواسطة وسيط واحد بالمقارنة بآخر، ويختار الفنانون أيضا وسائط معينة للتعبير الفني بسبب لعب معين لحواس الادراكات التي يتيحها الوسيط. فليست بنية اللغة فقط، بل إن بيئتنا أيضا تحدث فرقا في أسلوبنا أو طريقة وجودنا في العالم (ما يمكن أن يسمى الوعي). فالمعاني في التجربة البشرية هي غامضة بشكل أكثر تطرفا، وفقا للإبستمولوجيا المنسوبة لميرلوبونتي، منها في التفسيرات بعد البنيوية التي تفترض أن اللغة هي الوسيط الوحيد للتجربة ذات المعنى. فطبقا لميرلوبونتي، المعنى عرضة إلى التقلبات المستمرة الناجمة عن التغيرات في العناصر التي تشكل بيئاتنا. وأجسامنا، وكذلك أيضا فهمنا للبيئة. لذلك، من المهم أن نحدد اختياراتنا في ما يتعلق بالعناصر المنشئة للبيئات. ونحن نفعل ذلك طوال الوقت، بالطبع على الرغم من أن النتائج المادية لهذه الاختيارات قد تكون ذات طابع سلعي.
باختصار، تذكرنا ظاهريات التجربة الإدراكية عند ميرلوبونتي أن أي احتفاظ بممارسة اجتماعية يفترض انفتاحا إدراكيا (أوجسميا)، على الأقل، كطاقة لتعلم الطرق المحددة اجتماعيا في بناء التجربة. والانفتاح الإدراكي أو حضور ما هو جديد، فالمختلف والمغاير يجب أن يؤسس بطريقة ما قدرة الفرد على معايشة العالم. فالحضور هو احتمال تحول المألوف والمعتاد، والنماذج الراسخة اجتماعيا التي نعايش من خلالها العالم. فلحظة التألق في الأداء أو لحظة الحضور على خشبة المسرح ممكنة بسبب هذه الطاقة المفتوحة على ما هو مختلف عن مجرد تكرار طرق مألوفة في بناء التجربة. فالحضور يحتاج امتلاك أسلوب مميز للوجود في العالم، كما أنه أيضا يحتاج القوة للتركيز على فردية اللحظة، والاستعداد للنقلات، والتكيفات والموائمات، التي تنتمي إلى تحدي الانغماس الفعال، والواعي والمتجسد في اللحظة. ويمكن أن يراه المشاهدون. فالأداء حي مع تلك الميزة الخاصة التي يملكها المؤدون والتي نسميها الحضور على خشبة المسرح.
 - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -  سوزان جبجر تعمل أستاذا للفلسفة في جامعة تورونتو بكندا. وقد ركزت أعمالها على فلسفة التجسيد وطبيعة صناعة المعنى في سياق جماليات الأداء في فن الرقص.
 وقد نشرت هذه المقالة في كتاب «فلسفة الأداء المسرحي».. وتقع في الفصل السادس، الصفحات 122 – 139.

 


ترجمة أحمد عبد الفتاح