العدد 700 صدر بتاريخ 25يناير2021
مشكلة اللغة - وظهور الفلسفة والدراما :
فى “معجم المسرح” يقول باتريس بافى: [حتى أوائل القرن السابع عشر، كانت كلمة الممثل ((acteur تدل على الشخصية المسرحية، ثم أصبحت تعنى (الذى يؤدِّى دورا ما) كممثل وكحرفى .] ص 62. ويضيف: [إن الإعداد التقنى للممثل ظل غائبا ومهملا لزمن طويل، حتى تلمَّس الممثل حركة ذات أسس تنظيمية مستمدة من فنون الإخراج] 62.
أداء الممثل فى المسرح اليونانى القديم، فيما تقول المراجع المعتمدة بهذا الشأن، لم يخرج عن كونه أداءا خطابيا يستند إلى قوة الصوت وجماله وحسن تلوينه، إلى جانب الحركة والرقص؛ أى أن التمثيل لديهم لم يكن قد تطور تقنيا إلى ما نعرفه الآن. هذا وارتكازه على “الصوت” كان يعنى أن المسرح لديهم [غالبا ما حُجِّم إلى نوع أدبى. الفن الدرامى... كان منذ أرسطو يعتبر الجزء المشهدى منه ككماليات ولوازم، وهو بالضرورة خاضع للنص.] بافى ص 90.
فى المسرح اليونانى كان النص هو كل شئ، وكان الممثل “acteur” هو الشخصية المسرحية ذاتها “الشخصية الورقية- كما يقول بارت”، أوالشخصية اللغوية، وليس الكائن البشرى القائم بتجسيد تلك الشخصية. أرسطو- فى سياقه التاريخى- كان محقا فى إعلائه من قيمة النص الدرامى على حساب العرض المسرحى، إذ يبدو أن استحواذ النص على القيمة كاملة يعود لعقيدة سائدة لدى اليونانيين، ربما لأن ظهور الدراما والفلسفة فى اليونان القديمة كانا هِبتين من هِبات مشكلة اللغة. من هنا لا تنفصل الدراما عن الفلسفة، بما هما النافذتان اللتان تطل منهما مشكلة اللغة علينا .
(1)
لم يكن لدى الإنسان القديم- فى المرحلة الأسطورية- فى الزمن المتعلق بـ “القوة السحرية للغة على الأشياء”- ثمة “نص وعرض”، كما حدث بعد ذلك فى المرحلة الإغريقية، ذلك لأن الأسماء- أو مفردات اللغة- لديه، لم تكن علامات أو رموز، تحيل إلى “الأشياء”، بل كانت هى الأشياء نفسها [ففى الفكر الأسطورى، حالما يتم النطق باسم الشئ، يكون قد حضر بلحمه ودمه .]. اللغة والأسطورة- لكاسيرر ص 13.
أما فى المرحلة الإغريقية المتعلقة بـ “القوة المنطقية للغة”؛ أى فى الزمن الذى بدأ فيه إدرك المدى الذى تستقل به اللغة عن الأشياء، فقد ظهرت ثنائية “النص والعرض” .
ما يعنينى هنا، هو أن فكرة المحاكاة أو التمثيل، بمعنى المطابقة بين “الكلمة والشئ”؛ إذ يحاكى كل منهما الآخر، هى التى تبقت من المرحلة الأسطورية- بعد أن اغتسلت فلسفيا وأدرجت فى (العالم- الأفلاطونى- المعقول)؛ ذلك أن كل تصور عن المثال أو الجوهر، إنما يقترن، فى الوقت نفسه: بتصور عن “الشئ الأصلى، الشئ الحقيقى”؛ هكذا فالأفكار الخالصة هى أشياء خالصة أيضا .
سأحاول تقصى الأمر أكثر، نظرا لأهميته المركزية فى هذا البحث:
فى “أصل العمل الفنى” يقول هيدجر: [... وهذا الشئ الذى لا يُظهِر نفسه، أى “الشئ فى ذاته” إنما هو حسب ما ذهب إليه “كانت” مثلا كلية العالم ... فالأشياء فى ذاتها، والأشياء التى تظهر، وكل ماهو موجود عموما، يطلق عليه فى لغة الفلسفة إسم شئ .] 64. ثم يضيف: [وعلى العموم فإن كلمة شئ تطلق ... ببساطة على كل ما ليس عدما.] 64، ويضيف أيضا: [... الأشياء المجردة ... تعتبر هى الأشياء الحقيقية .] 65.
إذا كان تشييئ المادى؛ الذى يظهر أمام البصر يعد أمرا طبيعيا، فتشييئ المجرد، الذى لا يظهر، هو ما يشغلنى هنا. ذلك أن عملية التشييئ التى نمارسها تجاه كل ما يتَّصف بالوجود، أو تجاه كل ما ليس عدما، يبدو أنها تعود إلى التطابق القديم، الغائب، بين الكلمة والشئ؛ ذلك التطابق الذى يتردَّد- لايزال- فى ذاكرة اللغة بماهى (الوثيقة الحافظة للترسُّبات التاريخية الخاصة بالوعى الإنسانى) .
وبوضوح أكثر، ماهية الشئ هى دلالته الأصلية “مدلوله الأصلى”، ومن المدلول ينحدر أو يشتق “الدال الأصلى”، ذلك أن كل دال إنما هو “دال على مدلول عليه”. يقول أرسطو: [وبما أن الكتابة ليست هى هى بين كل البشر، فإن الكلمات المكتوبة تكون كذلك. فى حين أن أحوال النفس التى تكون هذه التعبيرات بمثابة علامات عليها بصورة مباشرة هى واحدة عند الجميع، كما تكون الأشياء التى تكون هذه الأحوال صورا لها واحدة أيضا] دريدا، فى علم الكتابة، ص 72.
إذن، “أحوال النفس”؛ ويعنى بها “المعانى المتكوِّنة داخل النفس”، واحدة عند البشر، تماما مثلما الأشياء واحدة أيضا، وما يختلف فيه البشر فقط هو اللغة منطوقة أو مكتوبة ؛ بماهى (علامات) على تلك المعانى. هذا ومرجعية هذا التصور تتلخص فى أن الإنسان هو قبل كل شئ جزء لا يتجزء من الطبيعة ذاتها، وما تتصف به الطبيعة من “عِلِّيَّة ومعقولية وغائية”، لا تدركه الطبيعة، الإنسان فقط هو الذى يدركه، ويمتلك القدرة على التعبير عنه، بحكم كونه حيوانا “عاقلا، ناطقا”- أى أن الإنسان هو المتحدث باسم الطبيعة، ولسان حالها.
يقول “دريدا”: [فبالنسبة لأرسطو على سبيل المثال “الأصوات التى يصدرها الصوت البشرى، هى رموز لأحوال النفس، والكلمات المكتوبة هى رموز للكلمات التى يصدرها الصوت البشرى... وذلك لأن الصوت البشرى، المنتِج للرموز الأولى، له علاقة قرابة جوهرية ومباشرة مع النفس. وباعتبار الصوت منتِجا للدال الأول، فهو لا يكون مجرد دال بين آخرين. إنه يدل على حالة النفس التى يعبر عنها، أو يعكس الأشياء بواسطة تشابه طبيعى. فهناك بين الوجود والنفس، وبين الأشياء والإنفعالات، علاقة ترجمة أو دلالة طبيعية. ]، فى علم الكتابة، ص72 .
ومن هنا يأتى اللوغوس، يضيف دريدا: [كما أن هناك بين النفس واللوغوس علاقة ترميز إصطلاحية conventionnelle. وأول إصطلاح هو ذلك الذى يتعلق مباشرة بنظام الدلالة الطبيعية أو الكونية ويُنتج كلغة منطوقة] 72، ففى اللوغوس تتطابق اللغة والعقل أو النحو والمنطق- على مرجعية كونه [الكلام الإلهى أو كلام العقل بماهو كلام تدبَّرته ذات إلهية متعالية، هو بالتالى خطاب الذات بماهى موسَّسة ومدعومة بذلك الخطاب...]، صيدلية أفلاطون، ص 5 .
عند أرسطو، علاقة المعنى باللفظ تعبر عن “المعقول والحكم عليه سلبا وإيجابا” وهى الوظيفة المنوط باللوغوس القيام بها، ولاشك أنها تتضمن الإشراف على مدى”مناسَبَة وملاءمة الأسماء للمسميات”، إذن، لدينا “دال ومدلول ومرجع”، “المدلول” عام، كونى أو طبيعى- يشترك فيه جميع البشر- أما “الدال” فخاص، إذ تصطلح عليه كل جماعة لغوية على حدة، ومع ذلك فهناك علاقة “لوغوسية” بين طرفى العلامة اللغوية، من جهة، وبين العلامة ككل و”المرجع”- بالضرورة- من جهة أخرى، تقوم على المناسبة والملاءمة .
الإشكالية هنا تنحصر فى أن الموقف الوسطى- الذى قيل بأن أرسطو إتخذه من اللغة- يفصل “لغويا” بين الدال والمدلول، ليعيد التطابق بينهما “منطقيا” .
وبتفصيل أكثر، تلك الفكرة هى أصل ما سمى بعد ذلك بـ “العالم كتمثل”، الذى يعنى المطابقة بين “الذات والموضوع”- مما يجعل الواقع شفافا، أو مطابقة بين “الوعى والمقولات”، بين “النوع والشكل”، بين “المدلول والدال”. فـ [الوعى لا يعترف إلا بما يحضر... لديه فيتخذ شكل الدلالة والمعنى والقانون والهوية، فيتطابق هكذا مع مقولاته. وتذهب فلسفة الوعى، أو فلسفة الحضور هذه إلى القول بأن كل ماهو واقعى لايمكن إلا أن يكون عقليا، أى أن كل ما هو واقعى “سيكولوجيا كان أوموضوعيا “ لابد وأن يحضر فى الوعى وتتمثله المفاهيم العقلية)، الدال والإستبدال، لإبن عرفة، ص 16.