العدد 849 صدر بتاريخ 4ديسمبر2023
الجسم مفهوم غائب
المصطلح اليوناني skene، بمعنى مأوى مغطى مؤقت، والاستعارة skenos بمعنى الجسم البشري، مشتقين من الاسم المؤنث، وفرا التوفيق المعجمي الذي يتكيف بشكل أفضل مع مؤسسي السينولوجيا العرقية. فما يهم منفذ السينولوجيا العرقية هو فكرة الجسم البشري كرمزية طبيعية. وهذا المفهوم الذي يوحي باستكشاف الجسم في بنيته العميقة ونموه، ورحلته في العالم الرمزي، ودوره كمحفز في التفاعلات وكوسيط على كلى المستويين المرئي وغير المرئي.
وتطلبت المحاولات الأولى لتعريف السينولوجيا العرقية توضيحا لصفتها المتطرفة لكي نتجنب فخ ابتكار شيء قديم من عناصر جديدة، أو في هذه الحالة، تعميم شياطين الخصوصية القديمة، واستيعاب الموضوعات الغريبة ضمن ممارساتنا ونظرياتنا بدلا من التوجه نحو الآخر والتعلم منه. ونعمل هنا في مجال حساس ويجب أن نضع في أذهاننا أن العام هو المحير، الذي تصبح صورته أكثر وضوحا عندما تتجمع الأجزاء معا في كل واحد. وقد أكدنا أن السينولوجيا العرقية لم تكن منظمة حول وصف مقارن للعروض الغريبة والشعبية، وأنها لم تقصر مجال دراستها على الحضارات التي تشكل المجال التقليدي لعلم الأعراق. فالسينولوجيا العرقية ليست توسيعا لمجال الدراسات المسرحية لكي تضم تقريبا الأشكال المنسية والثانوية. بل على العكس، إنها تتطلب أن توضع أعمال وممارسات المسرح الغربي في المنظور من خلال استكشاف خصوصيتها الثقافية. وبذلك، سوف يساهم المجال في تطوير نظرية عامة للأداء الانساني وبالتالي معرفة أفضل للطبيعة الانسانية.
الأداء الإنساني المذهل
لا يتمثل هدف السينولوجيا العرقية في تكوين فهرست للممارسات الأدائية بقدر ما يتمثل في فهم البنيات الأساسية والروابط التي توحد أشكالها المتنوعة. تحظى الثروة الكبيرة والتنوع في التعبيرات الجسدية عن الخيالي بإعجاب الجميع، ولكن ما زال البعض يتساءل عن القيمة الميتافيزيقية لهذه التجارب. وقد دفعتنا الخلفيات المتنوعة إلى الشك في المظاهر، وجمال الجسم وإغراءاته البارعة. ونظرا لأننا ننسى حقيقة الثقافة اليونانية، فإننا نميل فقط إلى الاحتفاظ بتحذير أرسطو من المظهر opsis.
أما بالنسبة الذي يمارس أقصى غواية، فإنها غريبة تماما عن عن الفن ولا علاقـة لهــا بالشعر، لأن التراجيـديا تحقق هدفها حتى بدون أي مساعدة أو ممثلين. ولتقديم هذا التأثير (الخوف والشفقة) بوسيلة المسرح لا يكاد يقترب من الفن. إنه أمــر يتعلق بإعداد المشاهد.
هذا التأكيد أقرب إلى خيبة أمل معاصريه، وهم الخطباء اللامعون. فقد رأى ديمسثينس أن قوة الكلام أقل بكثير من قوة البصر. وأن القوة لا تدل على قيمة المعنى. وقد نصح أرسطو وشيشرون، اللذان لم يدركا ضرورة الإقناع من خلال المنطق فقط، بل أيضا من خلال السحر، الخطيب أن يتدرب على فن الإيماء والتمثيل. فالروح لا تكفي للإقناع، أو العدول، أو الدفاع. أنه يحتاج إلى مساعدة المادة الإنسانية، والعاطفة والجسم. وبعد ذلك سوف ينشأ تمييز بين الفنون الحرة والفنون الآلية، التي تمنح الأولوية للأولى بسبب اقترابها من العقل وتجلياتها: مثل اللغة. وقد صنف المجمع المسكوني الثاني في نيقيا عام 787 ميلادية الرسامين والنحاتين على أنهم حرفيون وصناع ومنعم من القيام بأي تفسير لاهوتي لأعمالهم. بينما أكد المجمع رسميا على عبادة الأيقونة باعتبارها تذكرا للتجسد، ونص على أن الفن وحده ينتمي إلى الرسام، وأن التأليف للآباء. وقد ولدت فنون الإيماء والحركة، منذ زمن طويل، هذا الإرث الثقيل. وأصبح المسرح فنا أدبيا. وطبقا لهذا التوجه، يمكننا أن نشرح ما جاء به المجمع بهذه المصطلحات: تنتمي “الفنون الجسدية (الدال) إلى المؤدي، وينتمي المعنى (المدلول) إلى الكاتب.
ومن المهم أن نضع في أذهاننا التمييز الأساسي بين “مشهدي «spectacular – كمفهوم أساسي – و“مشهد spectacle”. وفي الفرنسية يخفي مفهوم “المشهد” مجالا دلاليا ضيقا، يتميز بالمعايير الثقافية التي تميز الأشياء الموزعة إلى التصنيفات التي تبدو عامة، مع أنها عشوائية وفرعية. ومن الشائع أن نقارن ندرة مفرداتنا الوطنية بالبذخ اللغوي للثقافات الآسيوية والأفريقية لتحديد البد البدني للممارسات الفنية والروحانية والعسكرية. وتكشف دراسة المجال المعجمي لكلمة “«spectacular في اللغات الغربية الفروق العميقة، والتشعبات والقصور والابتكارات والاختراع العرضي لتأثير التاريخ المحلي. فمثلا، يكشف المجال الدلالي للمصطلحات الثلاثة في اللغة التشيكية، التي تقترب من كلمة «spectacular”، عالما من الفروق الدقيقة والقيم ليست موجودة في اللغة الفرنسية. وبالمثل تميز اللغة التشيكية كلمة “حي Living” باعتبارها جنسا نحويا محددا. وعدم استخدامها للحيوان يمنحها دلالة نفعية، فالحيوان أشبه بالآلة.
وهناك العديد من الأمثلة التي توضح كيف يمكن أن تكون المكانة المتغيرة لكلمة spectacular في أي ثقافة. وتوضح أدلة الدراسة في فنون الأداء التصنيفات التاريخية والفكرية التي تشكل بوجه خاص النماذج الأنثروبولوجية البارزة. في الواقع إن اطلاق صفة “نفسية” على المسرحية يشير إلى مفهوم علم النفس باعتباره العلم الذي يظل برغم جهود علماء النفس للسعي الى نفس الصرامة العلمية مثل العلوم الصارمة ( الفيزياء والكيمياء )، علما نظريا. والمفهوم المعاصر العلاج بالفن art therapy، ولاسيما العلاج بالدراما drama therapy، يقوم أولا على التمثيل العلمي للطب، حيث سوف يتم استبعاد البعد العلائقي والمشهدي في العلاج وفعاليته، ثانيا، يقوم على تصور الفن كفعالية منفصلة عن الحياة اليومية العادية، فهل الفن يعالج؟ تبرز تجربة اليسوعي ايريك دو روزني، الذي بدأ مع قبيلة نجانجا nganga في الكاميرون، الطابع النسبي للتناول الطبي العلمي الذي يتعامل مع الجزء - العضو - فضلا عن الكل – الذات في بيئتها. وبالنسبة لقبيلة نجانجا، التي تمارس الطب الشمولي التقليدي، إذ ليس الفرد هو الذي يجب أن يُعالج، بل أيضا الجماعة التي ينتمي إليها، كما أن العلاج ليس وحده هو الذي يشفي، بل إن حدث العلاج هو الذي يشفي.
إن فرضية السينولوجيا العرقية هي أن الفعالية الإنسانية الواعية والمشهدية هما نتاج وحدة الجسم/العقل والسمة الأساسية للكائنات. ومن خلال العمل على مفهوم “الجسد المعرفي knowing body” تساهم السينولوجيا العرقية في فهم أفضل للممارسات الإنسانية وتتجنب المقاربات الوصفية للأنثروبولوجيا القديمة ودراسات المسرح. وتنشئ المصدر الرئيسي حيث يتم تنظيم الأشكال المتعددة في المجالات الأكثر تعددا في حياة الفرد والجماعة. أن تشبيه الموسيقى واللغة واضح، فكما أن الحس الموسيقي هو الذي أسس تقاليد الموسيقى حول العالم، وأن القدرة على اللغة هي التي ولدت لغات الأنواع وقد أدى التطور البشري والتطور الثقافي إلى تكوين استقلال ذاتي، والكيانات المشهدية التي تتوافق مع الفعاليات الأخرى في المجتمع: الشعائر الدينية والاحتفالات والمسيرات والطقوس والمهرجانات والعروض المسرحية والمواكب والكرنفالات والتمثيل والمسرح هي المظاهر التاريخية والمحلية للقدرة العامة. ورغم ذلك، لا يمكن أن يدعي أحد دور الأب الأصيل، حتى لو كانت خاصية التجزئة في تطور الثقافة تكشف عن البنوة والتشابه والتحويلات والطعوم. وقد حدث التبادل بين الأشكال. والأشكال الأخيرة لم تنجبها حواء المعروفة. ومن وجهة نظر بيولوجية عصبية، فان امتداد القشرة المخية الحديثة عند الانسان وتكوين ارتباطات عصبية جديدة أثناء التعلم، هما المسئولان عن تطور السلوكيات المنظمة بالاضافة التنوع الغني للأشكال في الأنواع.
تنبع مفارقة تحليل الممارسات السابقة على ظهور المسرح والمنفصلة عن قيمه، باتخاذ هذه الأخيرة نموذجا لها، من الفخاخ التي نصبها المجاز. إذ يؤجذ جزء من النشاط البشري الأدائي المنظم – المسرح – بشكل كلي. وهذا التوجه يوضح مدى صعوبة أن نفكر في ممارسات الأداء البشري في إطار نسق دينامي مرن. وبالتأكيد يعد الشامان هو الرائد السابق للشاعر، كما اعتقد الياد. إذ يمكنه أن يعتبر بسهولة السلف السابق على الممثل، كما يقترح روبرت همايون، ولكنه أيضا الكاهن، والمعالج والراقص والمشعوذ وكثير من المهن الأخرى.
عيوب الرؤية
مفارقة الأداء الأداء أو الحدث المشهدي هي أنه الأكثر سرية وخفاء لأنه مرئي. وقد اشترط المثل القائل «ما تراه هو ما تحصل عليه” أن يتبعه تذكير “أنك لن تدرك ألا ما تدربت عليه” .وبالمثل التأكيد الذي يقول “أصدق فقط ما أراه” يتضمن حقيقة أنني “أصدق ما أريد أن أصدقه”. وبمراجعة الخطاب الأثنولوجي، وضح جيمس كليفورد ازدواجية اثنوجرافيا العشرينيات من القرن القرن العشرين، التي تأرجحت بين أنها أيديولوجية الوصف الثقافي المركب الذي يقوم على الملاحظة والرغبة في الهروب من الفخ الذي تنصبه صيغ المفسر. وبالنسبة لكليفورد، فإن الثقافة تُفهم كمجموعة من السلوكيات، والاحتفالات، وإيماءات مميزة، ومن المرجح أن يسجلها ويفسرها متفرج مدرب جيدا. وقد ذهبت ميد إلى أبعد من ذلك. فتحليلها البصري في واقع الأمر كان مذهلا. وأصبح المراقب المشارك هو معيار في البحث. بالطبع، لقد حرك البحث الناجح أوسع مجموعة من التفاعلات، ولكن الأولوية كانت للمرئي: ظل التفسير مرتبطا بالوصف. وبعد مالينوفسكي، عكس عدم الثقة العام في المعلومات المميزة هذا التفضيل المنهجي لملاحظات عالم الأثنولوجيا، بدلا من تفسيرات المصلحة الذاتية للسلطات المحلية. وبطريقة مماثلة، لاحظ عالم الأنثروبوجيا الفرنسي أندريه مارسيل دا أنز في ندوة كورنافاكا 1996 أن علماء الأنثروبولوجيا لا يثقون دائما في البعد المشهدي حتى لا ينخدعوا بواسطة المظاهر الجذابة، مع أنها مظاهر مضللة.
وإذا كان الجانب المشهدي للحدث الذي ندرسه يمكن أن يؤدي إلى وصف، فان هذا الأخير غير كاف، لدرجة أن تكون الذروة الناشئة المدركة هي في الواقع الجزء المرئي من حلقة إعادة الدخول التي تعمل على النسق المركب الذي تستحقه وتغذيه. ويتلخص الأمر في التركيز في الكل حصريا، دون الافتراض ضمنيا بهوية الملاحظ والموضوع الخاضع للملاحظة.
والأداء الناجح للشامات الذي يظهر من وجهة نظر المتفرج، للوصول إلى حالة النشوة، هو التغذية الرمزية والبيولوجية للمسئول. والشامان يمثل من أجل الآخرين، ويمثل لنفسه أيضا في الجسم والروح وفي الرقص والفكر. وأحد مميزات الشامان – التي لاحظها هامايون – هي تحديد أن المسئول بدنيا بشكل رسمي يظهر أنه على اتصال بقوى خارقة. ويمكننا أن نقول إن الجانب المباشر لهذا الاتصال تكمن تعبيره البدني، الذي يقدم على نحو ما الدليل. إن ضرورة قيام الشامان والمشاركين معه بتفعيل الرحلة، حتى بطريقة غير رسمية، تشير إلى أهمية النشاط الذي يولد معنى سريا وداخليا يصعب تقييمه بسبب تفاهة سطحه.
وبالمثل، يثري الأداء المشهدي للممثل الراقص للمشاهدين مؤلفه كثيرا على المستويات الإدراكية والخيالية والتقنية. فممثلو مسرح أودين يتدربون يوميا للحفاظ على الجودة الفنية وليس لحماية تكاملهم وحياة عرضهم. ويلخص تعليق يوجينو باربا بدقة بأن الحركة التبادلية الدقيقة بين الفعل المشهدي المتقن – أو البراعة والابتكار، فالتلقائية لا يمكن أن تكون مضادة للبراعة، إنها الشيء الذي يليها.
............................................................................
جان ماري برادير كاتب وباحث فرنس في مجال المسرح، وأهم كتبه
تدريب الممثل عام 2000
علم المسرح عام 2003
الأثنوجرافيا عام 2012