تجليات المسرح الشعبي.. عند يسري الجندي

 تجليات المسرح الشعبي..   عند يسري الجندي

العدد 828 صدر بتاريخ 10يوليو2023

تتميز التجربة المسرحية للكاتب يسري الجندي (1942-2022) باستلهام الموروث الشعبي، والبحث في التراث عن مناطق مضيئة لتقديمها على خشبة المسرح الحديث.
كان المسرح _بالنسبة للجندي_ هو فن المغامرة والبحث عن صيغ تجريبية دائما، فقد كان يرى أن المسرح عبر تاريخه الطويل قد تعددت أشكاله من خلال تنوع طرق الأداء في التمثيل والتأليف والإخراج، ويكاد يكون هو أكثر الفنون كسرا للنمط، فما أكثر المحاولات الجادة للخروج عن الشكل التقليدي للمسرح من أجل الوصول بذائقة الجماهير إلى حالات متعددة من الدهشة، وهذا التجريب لا يتأتى إلا من خلال مبادرات فنية فردية كانت أو جماعية ترتبط بالواقع السياسي والاجتماعي، فالتجريب –في أحد جوانبه– مرتبط بالعنصر الزماني والمكاني، الذي يهيئ للعملية التجريبية فضاء مختلفا بالإيجاب أو السلب.
  كما أنه من جيل السبعينيات الذي خرج من رحم المأساة، فجاءت تجاربه الإبداعية رافضة لأشكال الهزيمة، ويظهر ذلك جليا في كثير من أعمال يسري، وكذلك أبناء جيله: محمد أبو العلا السلاموني، ومحمود نسيم، ورأفت الدويري، والسيد حافظ، وأعتقد أن مرحلة «السبعينيات» في المسرح المصري قد تميزت بعنصرين مهمين؛ أولهما: البحث في الموروث الشعبي لتقديم فرجة مسرحية شعبية، تستفيد من الجذور العربية لفن المسرح، بإحياء فنون كادت أن تندثر مع التطور الحضاري مثل خيال الظل والأراجوز والعرائس القفازية، التي شكلت في مراحل انتشارها ما أسماه د. على الراعي بـ»مسرح الشعب»، وهذا المنحنى الذي اتجه إليه كتاب المسرح في هذا الجيل أمثال محمد أبو العلا السلاموني ويسرى الجندي، يعد امتدادا لدعوة د. يوسف إدريس في مقدمة مسرحيته «الفرافير» التي أسماها «نحو مسرح عربي»، والتي أكد فيها على ضرورة العودة إلى لمسرح السامر بما يحمله من معنى «جماعية الأداء»، وهو ما أسماه «بحالة التمسرح» التي تقوم على حد تعبيره على «التجمع»، فتلك الأشكال المسرحية كثيرة الحدوث في حياتنا اليومية في الأفراح والمآتم والمناسبات، في الاحتفالات الكثيرة التي ابتكرها الجنس البشرى كحجة «أحيانا مضحكة»، مثل التجمع للاحتفال بطهور أحد الأولاد، أو الاحتفال بأعياد الحصاد والمناسبات الدينية. أكثر هذه السهرات اليومية في البيوت بعد انتهاء اليوم والعمل، والتجمعات التلقائية في الأسواق وبعد انتهاء البيع والشراء؛ بل إن الشعوب ابتكرت أماكن ثابتة لتجمعات مستمرة يذهب إليها الفرد استجابة لغريزته الجماعية مثل القهاوي والحانات والنوادي.
يسري الجندي كاتب مسرحي اهتم اهتماما خاصا بالتراث الشعبي في معظم ما كتبه، كما ساهم في تدعيم وتطوير مسرح الثقافة الجماهيرية لما يمثله هذا المسرح من أهمية للجماهير العريضة على امتداد مصر.
ومن أهم أعماله في هذا الإطار مسرحية «جحا مع الود قلة»، ومسرحية «علي الزيبق» 1973، ومسرحية «عنتر زمانه» 1977، ومسرحية «عاشق المداحين» 1977، ومسرحية «الهلالية» 1978، ومسرحية «الإسكافي ملكا» 2007، وغيرها.
ومسرح «الجندي» هو مسرح القضية والموقف والرؤية، مسرح كاشف وراصد يتسم بخطاب المواجهة، ينحاز للبعد الشعبي والهامش الاجتماعي، «مسرح الشعب» على حسب تعبير الناقد د. علي الراعي.
لذلك كان دائم البحث في التراث الشعبي العربي ليقدم من خلاله رؤيته التي تؤكد على البعد الإيجابي في الشخصية العربية التي تتسم بالأخلاق والقوة في مواجهة الأعداء، وكذلك التسامح والعقلانية في رؤيتها لأمور الحياة المختلفة.
 وتعد مسرحية «اليهودي التائه» أحد أهم الأعمال المسرحية التي اعتمد فيها يسري الجندي على لغة الكشف والبحث الدقيق عن أسباب الهزيمة، كما أعطى من خلال مجموعة من المشاهد المتلاحقة الأمل للشعب الفلسطيني، بعودة الأرض المحتلة، وإن طال الزمن، بفعل المقاومة المستمرة وتضحيات الشهداء، واعتمدت اللغة المسرحية ورؤيتها على فكرة «المخلص» الذي ينتظره الملايين، كما تمت الاستفادة من تيمات المسرح الغنائي وتوظيف الكورس، ويؤكد «الجندي» في أحد المقاطع الدالة على فكرة الانتظار، قائلا: 
        «دائما كانت هذه الأرض 
        تنتظر المخلص 
        ودائما كان المخلص يأتي 
        ودائما كان المخلص يأتي 
        في أحلك الساعات كان يأتي».  
 وظهرت ملامح الصراع العربي الإسرائيلي -أيضا- في كثير من تجارب الكاتب محمد أبو العلا السلاموني، مثل «الثأر ورحلة العذاب» و»سيف الله»، وإن جاء توظيف الأحداث في إطار رمزي، حيث تمت مناقشة القضية كجزء من أزمات سياسية واجتماعية يعاني منها المواطن العربي، وصراعات متعددة يمر بها.
 ولكن يبدو أن هذا الجيل من فناني المسرح أثرت عليه تجربة النكسة وانهيار الحلم القومي، هذا التأثير -فيما يشبه الضياع- وحسبما يرى المخرج د. هناء عبدالفتاح؛ أحد أبرز المسرحيين في هذا الجيل، فإن هذا الجيل بفعل المؤثرات السلبية يموت ببطء: «جيلنا يموت ببطء، وموتنا نورثه للأجيال القادمة، أما السقطة الدرامية لجيلنا -واستعير هذا المصطلح من لغة الدراما في المسرح- فهي أننا لا نؤمن بالاستمرارية».  
وقد يكون لجوء هذا الجيل إلى غربلة الموروث الشعبي بحثا عن هوية مسرحية، لمواجهة تداعيات هزيمة يونيو 1967 التي أحدثت شرخا عميقا في الوعي الشعبي، وكان هذا الشرخ أعمق عند النخبة المثقفة.
وقد تميز الخطاب المسرحي –أيضا- ليسري الجندي بتوظيف عناصر الفرجة الشعبية، وقد كان دخول عناصر «الفرجة الشعبية» مغامرة تحسب لهذا الجيل، فلم تدخل فقط في الشكل الخارجي للعرض؛ بل دخلت في عمق النص المكتوب الذي لم يقدم التراث بشكل حرفي؛ بل استفاد من تقنياته مضيفا إليها الرؤية الواقعية متشعبة الدلالة سياسيا واجتماعيا وثقافيا. ومن هنا تحقق التمرد، وتحقق عنصر المواجهة، وربما ذلك ما قصده المخرج هناء عبدالفتاح حين قال: «الأزمة الحقيقية لجيلنا أنه واجه قدره المحتوم، وهو (الموت) منذ أن بدأ، فهو من ناحية وقف ضده بالمرصاد مسرح يعتمد على الكلمة فقط، حيث توظف مفردات العرض المسرحية لخدمته، مغفلا كل الإنجازات الأخرى في ميدان التشكيل للرؤية البصرية لفضاء خشبة المسرح، ولإنجازات ميدان سينوغرافية العرض المسرحي (التشكيل لجسد الإنسان وللإيماء) وأسلوب الأداء الصوتي الجديد الذي لا يعتمد على الصياح أو الصراخ أو الإعلان، وإنما يصل من خلال الهمس والخفوت، واحترام لحظات الصمت التي تنطق. فالمسرح الذي غدا ظاهرة شائعة هو مسرح (ثرثار) سيعيد أطر مسرح العلبة الإيطالية، أو المسرح التقليدي في الشكل والمحتوى».
كما قام «الجندي» بتوظيف التراث في عدد من المسلسلات التليفزيونية ومنها مسلسل «جحا المصري» ومسلسل «السيرة الهلالية» عام 1996، ومسلسل «الطارق» عن شخصية القائد العربي طارق بن زياد. 


عيد عبد الحليم