العدد 892 صدر بتاريخ 30سبتمبر2024
حين شاهدت مقاطع الفيديو الطريفة التي تم الإعلان بها عن مسرحية “مش روميو وجولييت” اعتقدتُ أنها معالجة لمسرحية شكسبير الشهيرة “روميو وجولييت”، وتعجبت من أنّ بطلي العرض هما “علي الحجار” و”رانيا فريد شوقي”؛ إذ تساءلتُ بيني وبين نفسي: كيف يجسدان هاتين الشخصيتين غير المناسبتين لهما بالنظر إلى المرحلة العُمرية لكل منهما! وهكذا تكوّن عندي فضول لمشاهدة تلك التجربة، التي اكتشفت -حين شاهدتها- أنها بعيدة تمامًا عن “روميو وجولييت”، فالرابط الوحيد بين هذا العرض و”روميو وجولييت” هو استحالة ارتباط علي وميرنا لكونهما لا ينتميان لدين واحد، وليس للفوارق الطبقية ولا العداوة بين العائلتين، وقد نقلتنا دراما العرض إلى منطقة مختلفة تمامًا وهي التطرف وقضايا الإرهاب وكيفية معالجتها حتى يعيش المجتمع في سلام.
العرض إنتاج المسرح القومي، إعداد: محمد السوري وعصام السيد، صياغة شعرية: أمين حداد، إخراج: عصام السيد، بطولة: علي الحجار، رانيا فريد شوقي، عزت زين، ميدو عادل، طه خليفة، رانيا النشار، ومجموعة متميزة من الممثلين الذين قدموا الأدوار وأدّوا الاستعراضات أيضا.
يتناول العرض المسرحي مجموعة قضايا لا قضية واحدة، دون شعارات ولا كلمات مباشرة تفضح المعاني المُراد توصيلها. فمثلا يحاول الفعل الدرامي أن يشكل أو يصوغ مفهوما ل”القوة الناعمة” وكيف تتحول عبر الحدث المسرحي من مجرد مقولة إلى فعل إيجابي في مواجهة الأفكار التي يمكن وصفها بالمتطرفة، وبهذه الطريقة ينجح العرض في تقديم معالجة فنية لقضية من أخطر القضايا التي قد تدمّر أسرا أو مجتمعا من الداخل. وفي تلك المعالجة يظهر التطرف المتمثل في الأفكار الهدامة وهي تصدر عن عنصريْ الأمة كأفراد، ودون المساس بالأديان، فالأديان بريئة تمامًا من ذلك (أو فلنقل إن المعالجة الدرامية أرادت أن تنحو هذا النحو). يتم كشف كل هذه الدفقات من الأفكار والمعاني ليس عبر الكلمات، بل عبر الأداء التمثيلي والغنائي والاستعراضي. لم يكتف العرض بذلك، بل إنه تناول قضية حساسة جدّا لكل فتى وفتاة في بداية مرحلة المراهقة؛ حيث المشاعر الأولى تجاه الآخر، وغالبًا ما يكون هذا الآخر من الصعب بل من المستحيل الارتباط به مستقبلا؛ قد يكون المدرّس بالنسبة للفتاة أو المدرّسة بالنسبة للفتى، أو أن يكون أحد الطرفين مسلما والآخر مسيحيا مثلا، وهنا يأتي دور المدرّس -والذي افتقدناه اليوم- ليشرح لطلّابه طبيعة المرحلة التي يمرون بها، وليؤكد لهم أن مشاعر الإعجاب والانجذاب بين الفتى والفتاة لا تمثل أيّ خطر ولا تُعتبر خروجا عن القيم والأخلاق، هي أمر جميل، لكنه يجب أن يأخذ مسار الحبّ في معناه العام الذي لا يضرّ ولا يجرح، فهذا النوع من الارتباط (مثال اختلاف الديانة) يتسبب في إيلام الأسر التي يخرج أحدُ أبنائها عن مساره الطبيعي. لا شك أن كثيرا من أبناء جيلنا أو أجيال أخرى قد وقعوا أسرى لهذا اللون من المشاعر، لكنهم لم يجدوا ذلك المدرّس الذي يأخذ بأيديهم ويوجههم.
من هنا فقد أصاب العرض عدة أهداف مهمة، حيث أعاد الحدث المسرحي للمدرّس اعتباره، وللمدرسة أهميتها ودورها في التربية قبل التعليم، وواجه الفتنة الطائفية وانتصر على غربان الظلام، بالفنّ وبالقدوة الحسنة.
هذه هي الفكرة العامة، أما السياق الدرامي وكيف استطاع توظيف مسرحية “روميو وجولييت” فيتضح فيما يلي:
تدور أحداث العرض داخل مدرسة تسمّى “مدرسة الوحدة”، وتبدأ الأحداث بمشاجرة عنيفة بين فريقين من طلبة المدرسة يمثلان طرفي الأمة المسيحي والمسلم، ومن خلال تحقيق الناظر لمعرفة سبب المشاجرة يتضح أن الجميع يعتقد بوجود علاقة حبّ تربط بين الأستاذ يوسف المسيحي الذي يجسد شخصيته علي الحجار، والأستاذة زهرة المسلمة التي تجسدها رانيا فريد شوقي، وهو ما لا يرضاه الطرفان، وعلى الرغم من أن هذا الاعتقاد ما هو إلا مجرد شائعة تم إطلاقها بسبب وجود صداقة قوية بين يوسف وزهرة لكونهما جاريْن منذ طفولتهما وقد تربيا معًا في منزل واحد، إلا أن أحدا لا يصدقهما. ثم تأتي المفاجأة التي تدهش الجميع؛ وهي أن الناظر الذي يجسد شخصيته عزت زين قد قرر إنتاج مسرحية “روميو وجولييت” ويشارك فيها كل التلاميذ، ودون اتخاذ أي إجراء تجاه المشكلة المطروحة، وبالطبع اعترض الفريقان إلا أنهما اضطرا لتنفيذ تعليمات الناظر لأن أعمال السنة ستكون مقابل المشاركة في المسرحية. وعبر جلسات العمل والبروفات وحب الطلبة للمسرح يبدأ الجليد بين طرفي الخلاف في الذوبان، بينما تقع “ميرنا” المسيحية التي تجسد دور جولييت “رانيا النشار” في حب “علي” المسلم الذي يجسد دور روميو “ميدو عادل”، لكن المدرس يوسف يتدخل ليقنع ميرنا بأن هذا الشعور طبيعي جدا في هذه المرحلة، ولابد أن يستمر هذا الحب بمعناه العام والأخوي كما هي العلاقة بينه وبين زهرة.
قبل افتتاح المسرحية يندلع حريق في المدرسة، وتتضافر جهود الطلبة والمدرسين لإطفائها، ويتم إنقاذ الأستاذ يوسف، الذي يعترف الجميع بفضله وخطئهم في حقه.
تدور الأحداث في قالب غنائي استعراضي، وتسيطر على معظم الحوارات اللغةُ الشعرية التي صاغها الشاعر “أمين حداد”، ولكوْن ذلك مجهدا جدّا بالنسبة للممثلين فقد جاءت معظم الحوارات الشعرية والغنائية مسجّلة، وعلى الرغم من ذلك لم يخطئ الممثلون في الأداء الذي يعدّ الأصعب، وذلك نظرًا لطول مساحات الحوارات المغناة والشعرية.
يعدّ العرض مغامرة كبيرة من المخرج عصام السيد من زاويتين؛ الأولى اختياره لتناول هذه القضايا الشائكة بهذه البساطة، والثانية أنه العرض الأول له في مجال الاستعراض والغناء وأين؛ على خشبة المسرح القومي وليس خشبة البالون التابعة للبيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية، ويمكن القول إن العرض يقدّم فُرجةً مبهجة، حيث تضافرت وتكاملت تقريبا كل مفرداته؛ من استعراضات شرين حجازي التي اتسمت بالبساطة والفانتازيا وخفة الدم، مع عنصر الملابس: الزي المدرسي للطلبة، وملابس المدرّسين والناظر والعامل، إذ عبّرت بدقة عن الشخصيات، مع إضاءة ياسر شعلان، وديكور محمد الغرباوي الثري جدّا من حيث الحجم والشكل والألوان، اعتمد على بانوهات يتم تحريكها لتغيير المكان مع وجود شاشة كبيرة في عمق المسرح تمثّل الملمح الأكبر للمكان، كما أنه اهتم بكل تفاصيل أماكن العرض حيث المدرسة والكنيسة والشارع والفصل، ولم يغفل صور رموز الفكر والفن: طه حسين، العقاد، أحمد شوقي، نجيب محفوظ، قاسم أمين، د. سميرة موسى، والمكتبة الضخمة التي تشكّل الرمز والجمال في الوقت ذاته. بالطبع يلعب الرمز دورًا كبيرًا في العرض خاصة في فكرة الحريق وإخماده بتعاون كل الأطراف، كذلك اختيار اسم “الوحدة” للمدرسة (وإن كان هذا مباشرا بشكل زائد يشبه عنصر التأكيد في اللغة التراثية).
مما لا شك فيه أن أداء الممثلين هو العنصر الأهم في أيّ عرض مسرحي، ولأن الأداء الغنائي والشعري هو أصعب من أداء الحوار العادي كما سبق وأشرت في أول المقال، فهذا يعني أن جميع الممثلين قد بذلوا جهدًا كبيرًا يجب أن يُحسب لهم. وكانوا على قدر المسؤولية، خاصة نجوم العرض: علي الحجار، رانيا فريد شوقي، عزت زين، وإن كنت أرى الجميع نجوما بمواهبهم التي استطاع أن يوظّفها هذا العرض الممتع.