الأشباح.. بين واقعية المكان وخيال الزمن

الأشباح.. بين واقعية المكان وخيال الزمن

العدد 616 صدر بتاريخ 17يونيو2019

“ما قيمة هذه الدنيا التي تتعلقون بها...” بهذه الجملة يفتتح أروين شو نصه المسرحي الشهير «ثورة الموتى»، وهي الجملة - ذاتها - التي تجلت في ذهني حين شاهدت العرض المسرحي «بيت الأشباح» الذي كتبه وأخرجه محمود جمال الحديني على المسرح العائم بالمنيل.
«بيت الأشباح» هو الإنتاج الفني الأول لورشة مسرح الشباب – ابدأ حلمك - والعرض يدور– دراميا - حول شخصية «حسن» ذلك الشاب الرافض والمتمرد على العيش وفق تقاليد الواقع، ذلك الواقع الذي يمثله دراميا العم وزوجته، وهو لهذا، ينعزل بعيدا ليؤجر شقة في محاولة منه لإيجاد ذاته التائهة، ويبدأ الحدث فعليا حين يفاجأ حسن بأن الشقة التي استأجرها مسكونة بالأشباح!
وعبر مناورات بين شخصية حسن والأشباح، نتعرف – نحن المتلقين - على ما يبغي النص المسرحي طرحه من أفكار ومضامين.
وللوهلة الأولى لنص العرض، سوف نلاحظ أن طبيعة الحدث الدرامي أو ما يمكن أن نطلق عليه تيمة العرض طبيعة فنتازية، وهي تيمة الأشباح بوجه عام، ولأن التجربة الفنية تبدأ من الواقع بمشكلاته وتناقضاته، يصبح من المفهوم، أن يستدعي هذا الواقع نقيضه وهو الفانتازيا، ولكن كيف عبر هذا الطرح الفني عن أفكاره ورؤاه؟!
دراميا يدور العرض عبر مجموعة من الشخصيات، نحو عشرين شخصية مسرحية أو لنقل عشرين نمطا مسرحيا، قد ماتوا و”تعلقت أرواحهم” وكأنهم رافضين الصعود لأعلى، وهو الجانب الذي يذكر بالتيمة التي أبدعها «أروين شو» في نصه سابق الذكر، وإن كان بكيفية أكثر فنية وأكثر منطقية، إن الجنود الذين قتلوا في الحرب يرفضون أن يغادروا الحياة، وهو ما يمثله إزعاجا للأحياء، وهذا الرفض لأنهم ضد الحرب، لما تنطوي عليه من وحشيه ودمار وخراب. أما في عرضنا هنا، فإن الشخصيات ترفض الصعود لأعلى، متمسكة بالحياة التي فارقتهم، أو لنقل إن هذا اللقاء بين شخصية «حسن» والأشباح، سوف يتيح لكل نمط مسرحي أن يجتر أحزانه وإخفاقاته قبل أن يغادر الحياة! ليس هناك تبرير درامي كما هو الحال في نص أروين شو.
إن نص العرض يبدأ بالفعل الدرامي، بما يمكن أن نطلق عليه عنصر «البوح» الذي يقترب من السرد في مقابل غياب تام للمسرحة أو الحوارية، وهو ما يفسر – أيضا - غياب الاحتدام أو الصراع، ليس جريا وراء كتابة مسرحية جيدة، ولكن لأنها الطريقة الأسهل، فنجد لدينا نمط الأم التي تموت تاركة ابنها ذا السبع سنوات، والحبيبة التي فارقت حبيبها، والكومبارس الصامت، والشحات حرامي الغسيل، ومصمم الأزياء، وعارضة الأزياء، ونمط الزوج الذي تزوج وفارق الحياة دون أن يخبر زوجته أنه يحبها، ونمط الباشا الذي لم يتزوج وعاش حياته كارها الآخرين ظنا منه أنهم يطمعون فيه، ثم الكمسري بالسكة الحديد، ولاعب البيانولا، والمرأة التي ماتت في زلزال 1992.
من هذه الأنماط البشرية المتعددة، ليس من شخصيات درامية لكل منها ما يميزها ويجعلها قادرة على التعبير الفني باعتبارها شخصيات دالة ومعبرة، هي فقط تسير لفكرة وتيمة.
وإن هذه الأنماط لا تملك مبررا واضحا لوجودها في هذا المكان، أقصد مكان الحدث، فإن هذا التناول لنص العرض، بسمات محددة أهمها – فيما أظن – غياب الفعل بين شخوص العرض، في مقابل تجاور، لتيمات كل شخصية ومن ثم يصبح من الوارد أن كل نمط يتحدث بشكل عشوائي وكأن النمط بأسراره لطبيب نفسي، وبالتالي ينتفي الفعل المسرحي ويتحول الحوار المسرحي إلى مونولوج داخلي، يعرض فيه كل نمط مسرحي إحباطاته وهواجسه وفشله وتصبح المقولة الأخيرة للعرض هي الندم على مفارقة الحياة، والنفي بشعور الحب الذي لم يكتمل أو الحضن الذي تأجل... إلخ.
إن غياب التحديد في رسم الشخصيات أو الأنماط المسرحية، يتبدى أيضا - في مفهوم الفترة الزمنية التي يدور حولها الحدث أو ما يطلق عليه زمن الحدث الدرامي، فعلى سبيل المثال، نمط شخصية الراقصة (الست عواطف) وهي «عالمة بشارع محمد علي» تتحدث عن نفسها أنها كانت تنافس الست فتحية أحمد المطربة التي اشتهرت بعشرينات القرن الماضي، في حين أن نمطا آخر هو نمط المرحوم «سليمان عبد العاطي» الموظف بهيئة السكك الحديدية والمعاصر لثورة 1952، 1953، ثم نكسة 1967، إلى أن يصل الحديث عن نمط آخر وهو المرأة التي ماتت في زلزال 1992!
فنمط عم سليمان عبد العاطي هذا والمشجع لفريق الترسانة الرياضي الذي يزمع أن عمره أكبر من الراقصة بنحو ثلاثين عاما وأكثر، ثم يتحدث هذا الموظف الذي أدلى بدلوه في ما يتعلق بوفاته بعد خروجه على المعاش تقريبا بعد النكسة أي عام 67، ويتحدث أحد الأشباح أنهم قد ماتوا والتقوا منذ مائة عام!
فهل يوجد ما يبرر هذا الاضطراب في مفهوم الزمن أو زمن الحدث؟!
كل هذه المفارقات أو الكيفيات التي تعامل بها مؤلف النص التي تخص الزمن المسرحي وزمن الشخصيات بجانب رسم الشخصيات وتطورها وصراعها إلى أن تصل لذروة درامية تحتدم ثم نصل للحل، كل تلك المفارقات، قد اتسمت للنص بسمات غير فنية وغير قادرة على الإمتاع الفني، والأهم والأساس لأي تجربة فنية.
كما أن هذه الكيفية هي المسئولة عن كثير من تبرير عناصر فنية أخرى، فعلى مستوى المنظر المسرحي، فالحدث يدور في شقة ليصبح المنظر الذي يجابه المتلقي هو خلفية في عمق الخشبة تحدد منطقة التمثيل الخلفية، وعلى يمين المتلقي تكوين تشكيلي يصور «لعبة البيانولا» في مواجهة لتشكيل مشابه أهم ما يميزه جهاز صوتي «جرامافون» وهو تشكيل لا ينم على أي دلالة هو فقط يشير لطبيعة المكان باعتباره شقة، كما أن التكوين يعج بعدد هائل من التابلوهات والبراويز التي تعلق على الحوائط، لاعلاقة لها بالحدث أو الشخوص، هذه التابلوهات والبراويز التي تجاوزت العشرين تابلوها، والتي لا تتيح لأي رمز فقط على طبيعة الحدث، فهي فقط تشعر المتلقي بالازدحام والبهرجة!
وبالتالي جاءت الإضاءة دون ملامح درامية وبصرية بحيث لجأ المخرج لاستخدام الألوان الأساسية من الأحمر والأزرق والأخضر فارشا الإنارة الصفراء من جانبي مقدمة الخشبة كنوع من التأكيد على الشخصية، إلا أن ميزانسين حركة المجاميع أحدث تشويها في إضاءتها برمي ظلالها على وجوه بعضها.. وبالتالي جاءت الإضاءة دون هوية ملموسة ومؤكدة على الحدث أو الكلمة الدرامية، سوى الإبهار اللوني والبصري لا أكثر.
أما الموسيقى فلم يضع المخرج موسيقى معدة خصيصا للعمل، فجاءت جملا موسيقية أو بالأحرى مازورة لحنية واحدة على مدار العرض المسرحي كخلفية للحدث والكلمة المسرحية بالتذكر أو الحنين، فأكدت بالتالي على نقاط ضعف النص وافتقاده حتى للفعل المسرحي على مستوى الموسيقى المستخدمة.
ومن هنا أظل أتساءل، هل كانت تلك الأرواح المعلقة رمزا في الأساس للحياة الفائتة؟ أم أنها أشباح بالفعل جاءت لتدق ناقوس الخطر في أذهان المارة والمتلقين الأحياء؟ كي يستغلوا حياتهم في التعبير عن عواطفهم وحبهم وكرههم وصراعاتهم وطموحاتهم وكل شيء يمس الذات الداخلية من ظاهرها وباطنها فقط بحيث لا مكان للندم وقبل أن تفارقهم الحياة، فيأتي بذلك «حسن» هو الشخصية الحية الوحيدة في العرض أيقونة للكثير من الأحياء الأموات الذين فارقتهم الروح دون روح.


لمياء أنور