هاملتهن.. بنية درامية متقنة

هاملتهن.. بنية درامية متقنة

العدد 588 صدر بتاريخ 1ديسمبر2018

كثيرا ما تتداول نصوص شكسبير على خشبة المسرح كونها نصوصا مسرحية مُثمرة بخطوط درامية كثيرة تحتمل تناولها بمنظورات مختلفة تخلق الكثير من التأويلات، حيث تغلب على دراما شكسبير مرونة تمكنها من أن تتناسب مع السياقات المسرحية المختلفة، ويُعد نص “هاملت” ذلك النص الأطول مقارنة بنصوص شكسبير الأخرى والأكثر وصفا للمأساة أكثرهم تصدرا ورواجا على خشبة المسرح برؤى مختلفة منها ما يتمسك ببنية النص التراجيدية ومنها ما يخلق بنية كوميدية مُغايرة تماما لبنية النص الأصلي، ويشتهر نص هاملت بمقولة “أكون أو لا أكون.. تلك هي المسألة” التي تُعد أكثر الجمل الحوارية إلقاء على خشبة المسرح.
أما عن العرض المسرحي “هاملتهن” الذي عُرض على خشبة مسرح النهار ضمن فعاليات الدورة الثالثة لمهرجان نقابة المهن التمثيلية (للتجربة الأولى) تأليف سعداء الدعاس وإخراج هدير عبد الرحمن، فقد تناول نص “هاملت” برؤية مُميزة تختلف تماما عن سابقيها كونها المرة الأولى التي تشهد بها خشبة المسرح نص هاملت من هذا المنظور، فنحن بصدد ديودراما نسائية بُنيت أحداثها على الشخصيتين الأنثويتين الوحيدتين في النص الأصلي وهما جرترود وأوفيليا، حيث تطرح الكاتبة جدلية الأحداث الأصلية وآثرها في نفس كل من جرترود وأوفيليا بخلق عالم آخر خيالي يعكس مكنون الشخصيتين وتداعي أحداث انتهت لكنها لا تزال تؤرقهما فترى كل شخصية منهما ذاتها والآخرين من خلال الأخرى، فقد نُسج الخط الدرامي للعرض بدءا من انتهاء الفعل الدرامي في نص شكسبير حتى يمكننا أن نُطلق عليها “دراما ما بعد شكسبير” كونها لا تسير على النهج الكلاسيكي للأحداث بل بدأت من حيث انتهى شكسبير.
بُنيت اللعبة الدرامية لأحداث العرض بين الصراع القائم بين جرترود وأوفيليا، التي عبرت عنها المخرجة بالأداء الحركي المُقيد على خشبة المسرح، وذلك بسبب الحبل المتصل برأسهن مما تسبب في أن تتحرك الشخصيتان في مساحة محددة ومقيدة ولم تستطع أي منهما أن تتمتع بحريتها فهي الأضعف ما دامت الأخرى هي من تجذبه نحوها، وكأنه مصدر القوة فمن تمتلكه منهن تتحكم بذمام الأمر، وهو ما نجده متحققا بالفعل داخل المشهد المسرحي، وباستخدام تقنية الفلاش باك نجد انتقال الشخصيتين ببعض المشاهد إلى تجسيد بقية شخصيات النص الأصلي مثل” هاملت وكلاوديوس وبولونيوس، ليظل الحبل محتفظا برمزيتة – القوة – مثل مشهد تجسيد أوفيليا لشخصية هاملت بإحدى المشاهد حيث نجدها تجذب الحبل نحوها، وبالتالي تتحكم بحركة جرترود على خشبة المسرح، وعلى الرغم من ضيق المساحة التي تتحرك بها الشخصيتان فإن المخرجة استطاعت أن تستغل مساحة الخشبة عن وعي ملحوظ كما استطاعت أن تخلق تكوينات بصرية متنوعة بجسديهما مُتماهية مع سينوغرافيا العرض، مما صنع صورة مسرحية مُتميزة بإتقانها وجماليتها الفنية، ومن ثم خلق العرض حالة من الترقب، فقد ظل المتلقي منشغلا بكيفية تجسيد الممثلتين لحوارهما الدرامي وتجسيدهما للشخصيات النص الأخرى، خصوصا أنها تجتمع حينا بل وتتشابك حينا آخر في كثير من المشاهد، ولذا يُحسب للكتابة التدقيق في اختيار واقتباس مشاهد بعينها وإهمال الأخرى فيما يخدم دراما العرض، كما يُحسب لها الابتعاد عن كلاشيهات التناول التقليدية للنص، فنحن بصدد نص حدد أولوياته فعنصر التكثيف في التعامل مع نص كالنصوص الشكسبيرية أحد أهم العناصر التي يجب أن يتطرق إليها صُناع العرض، ولكن دون أن يُحدث خللا بدراما العرض؛ أعني لا اللجوء إلى التطويل الممل ولا إلى التقصير المُخل.
والجدير بالذكر أننا أمام ممثلتين محترفتين وهما هدير عبد الرحمن – مخرجة العرض – وريهام دسوقي تتمتعان بقدرة تمثيلية فائقة ووعي بتفاصيل وأبعاد كل شخصيات النص، ولذلك يمكننا أن نُجزم بخضوع الممثلتين لكثير من تدريبات الأداء على كافة مستواياته سواء على مستوى الأداء الحركي التحكم بانفعالات الوجه وتنوعها بإتقان شديد ينم عن حالة الشخصية ودوافعها تجاه الحدث وأيضا التلوين بين طبقات الصوت، وجاءت موسيقى هيثم الخميسي موظفة كعنصر يزج بالمتلقي للتماهي مع الحدث الدرامي، بالإضافة إلى إضاءة محمد صلاح التي لعبت دورا هاما في التعبير عن لحظات الاضطراب والحزن.. إلخ، ولتهيئة المتلقي إلى الانتقال من مشهد إلى مشهد ومن وعي إلى وعي.
وقد حاول ديكور أيمن صبحي أن يكمل الصورة الفنية المتناغمة للعرض إلا أن ذلك لم يحدث مطلقا بل على عكس ذلك تماما، فنجد أن ديكور العرض قد أشعر المتلقي بالغرائبية والتشتت فلم يستطع أن يدرك ماهية الديكور، فعلى الرغم من وعي المتلقي بإنه بعالم آخر قد يبدو كعالم خيالي فإنه لم يعبر عن تلك الحالة مطلقا، فلم يستغل الديكور بشكله الأمثل لخدمة الدراما والشخصيات.
أما عن ملابس سارة خالد فكانت العنصر الأكثر عبثية داخل العرض المسرحي فبدون أي مبرر درامي نجد جرتورود وأوفيليا ترتديان ملابس تُحيلنا إلى الصورة الذهنية المتعارف عليها لعصر الفراعنة، وربما كان هذا هو السبب المنطقي لأن يدور بذهن المتلقي كثير من الأسئلة دون أن يجد إجابة لها حول علاقة الملابس بالفضاء المسرحي والدرامي، خاصة بعد أن جاء على لسان إحدى الشخصيات أن الأحداث تدور بالدنمارك (المكان الذي دارت فيه أحداث النص الأصلي) لذا بدا عنصر الملابس كعنصر دخيل على دراما العرض دون جدوى أو مبرر.
وبقي فقط أن نذكر أن العرض المسرحي “هاملتهن” هو عرض أكاديمي من الدرجة الأولى كونه استهدف فئة بعينها من الجمهور – المتخصص، المثقف مسرحيا – وأغفل الجمهور العام لصعوبة إدراك المتلقي العام للفعل المسرحي قائم من الأساس على أحداث حدثت بالفعل وانتهت، وهو ما أخفقه صُناع العرض وذلك لأن المتلقي الذي لم يتطرق إلى قراءة نص “هاملت” بدا له العرض كشذرات لمشاهد مسرحية ممزقة وأفكار مُتشظية.


رنا أبو العلا