في الجلسة حفريات اللامرئي وجماليات التحدي

في الجلسة حفريات اللامرئي وجماليات التحدي

العدد 551 صدر بتاريخ 19مارس2018

تعكس مسرحية (الجلسة) تأليف وإخراج مناضل عنتر، وإنتاج البيت الفني للمسرح، واقعا مرا نعيشه يوميا بعد غياب بوصلة القيم عن الخير الاجتماعي وشيوع ثقاقة الفوضى والانقسامات الفكرية والمناطقية والإثنية والطائفية، نص عميق الدلالة ينطلق من الراهن ليعيش دراميا في متوالية زمنية لها خمس محطات، تتوزع على الآتي: 1 - المواجهة
2 - المرأة/ الغرور
3 - المتاهة/ الخداع العقلي
4 - الخطة
5 - الجلسة
هذه المتوالية الدرامية لها شخصيات تمثل مراحل الفعل الإنساني وتصوره للوجود والغايات، منها اللامرئي الذي يعمل بخفة ونعومة ويترك أثرا مدمرا في الوعي والسلوك والتواصل وقد تمثل في شخصية الشيطان وكبير الجن (سوميا) وجنوده، وهناك الواقع الملتبس الذي تتداخل فيه المصالح، والوصول إليها مهما كانت الخسائر، وهو ما يمكن أن يطلق على السياسة المعاصرة التي لها حلم أو هدف قديم. نظر وعى إليه عدد من الفلاسفة والمفكرين في مدونات تباينت في جدواها ونجاحها في حل مشكلات الإنسان وسعيه إلى العدل والمساوة والحكم الرشيد، ولذلك يعاني من انقساما وخلطا في الفكر والعمل الذي يؤدي إلى نتائج كارثية، وقد تمثل هذا الشي في مريم المجدلية/ السياسة، وهناك عالم التعايش والتواصل الذي يراد وجوده في بيئة تمشي على صفيح ساخن، ظهر هذا في شخصيتين، تعيشان خطاب اليومي في الهنا والآن، على الرغم من احتدام الواقع من حولهما بالتحديات العصية على العلاج والحل، وتمثل في الشيخ سليمان والقس إسحاق، وثمة شخصيات تظهر على نحو قائم على المصادفة الميلودرامية التي تفتقر إلى السبب الجمالي المسوغ لوجودها داخل المعمار الدرامي للنص، مثل أم الرجال وبلافيش، إذا كانتا بمثابة زوائد تفيد التوكيد، قد تكون ناجحة لغويا، لكنهما في المعيار الدرامي، زائدة تربك الإيقاع الدرامي الذي هو روح النص وطاقته النابضة بالمعنى والمبنى في نسق ينبغي أن يكون مرنا وطيعا مع ضبط جمالي يراقب كل صغيرة وكبيرة في متن النص.
لقد تضافر في النص/ العرض المسرحي على بنية الأنثروبولوجي في علمها بطقوس الإنسان وعلاقتها باللامرئي والمرئي، الموت والحياة، الفرح والحزن، وعلم الآركيولوجيا أو حفريات النسق الديني وعلاقته بالواقع من خلال محمول متعلق بالسياسة والفساد الناتج عنها حين معيارها المصالح على حساب أمن البلاد والعباد، والبيولوجيا حين نشعر بالطاقة الحيوية لليومي في أنساق الفعل الكلامي اليومي، وكيفية كون المرض النفسي أصله عضوي وبالعكس، وإذ نقسم تلك العلوم على النسيج الدرامي، نجد الأنثروبولوجيا متعلقة بالجن وجلسات تحضير الأرواح وفكرة الشيطان فولكلوريا وأسطوريا. أما الآركيولوجي فنجده في حفريات دلالة مريم المجدلية في الدين المسيحي، وثنائية تصورها قديسة في الأناجيل الأربعة الرسمية، وساقطة ومومس في الإنجيلين السريين، الذي يراها لها روح محبة للرجال، وحين تواصلت مع السيد المسيح - ع - تطهرت من رجس الشيطان، وتحولت إلى قديسة، ترى المسيح بعد انبعاثه من جديد، وتكون لسانه للحواريين. أما البيولوجي فقد كان في حياة الناس وحاجاتها، في مشهد الشارع وعلاقتها بحياة الناس متمثلة بالشيخ والقس.
وإذ نفكك بنية النص ضمن نسق التهديم والبناء وفكرة انبعاث النص من جديد، على ركام فكرة غير مكتملة، هذا الهدم ومحاولة البناء، انطلقت من فكرة معاصرة، تقول: لا يقين ثابت يقود الحياة، بل الشك والنسبية هي معيار أداء العالم المعاصر، وبالتالي لا نجد العالم ضمن تقسيمه القديم في معياره القائد والتابعية، بل أصبحت المراكز الفكرية والثقافية والإثنية، بؤر سياسية ودينبة توتر العالم وتدخله في صراعات إثنية ودينية وطائفية لا تنتهي، والرابح هم محركو العالم الجديد؛ لانتعاش سوق السلاح الذي هو وقود حروب مشتعلة تحرق الأخضر واليابس مع انتعاش مشعلي الحروب الدينية المتمثلة في النص/ العرض في الشيطان وعصبة الجن؛ الذين يحركون مراكز فكرية ضعيفة التكوين، سريعة الهياج السياسي والديني، والمتمثلة في مريم المجدلية مع محاولة التخلص من هذا التشويش وإرجاع الأمور إلى نصاب الاستقرار متمثلة في الشيخ والقس، هذا الوعي لدى/ المؤلف - المخرج، يمتلك تفكيرا مركبا في فهم العالم من حولنا، صحيح أنه دخل في مأزق الحل لهذا الوضع المأزوم والملتبس من حولنا، فأنهى النص في ميلودرامية الانتحار الذي جاء خاليا من السبب الفكري الجمالي المعقول بوصفه نتيجة لصراع الأضداد الذي تلمسناه في عمر النص الدرامي/ والعرض المسرحي، وهو ناتج من غياب اتجاه بوصلة الخطاب السياسي لدى الكاتب/ المخرج، الذي كان عليه وسط هذا الصراع المحتدم أن يتراجع إلى جلسة الزار بقصد التخلص من روح التشويش التي تقود العالم من حولنا، وهو ما يعني أن يكون الجمهور جزءا من المشاركين بالجلسة، وكأنه خطاب جمعي يريد الخلاص للإنسان والأوطان.
يتفاعل العرض المسرحي (الجلسة) مع مبدأ التوازن ما بين المعنى والمبنى في تشكيل العرض المسرحي، في بنية أدائية مفتوحة الحلقة في دلالات الرسالة البصرية والسمعية والحركية، تعطي للمتلقي فرصة تأملها عن بعد من دون إشراكه في الفرجة، هذا الحوار الذهني بين المتلقي والعرض المسرحي، في التحليل والتركيب؛ سمح للعرض أن يحقق نجاحا في رسالة الأداء المنضبط في تسلسل إيقاعه الجمالي، وخصوصا مجموعة الجن والشيطان، تلك الروح الجمالية الجامعة لهم، أوجدت نسقا للتلقي يتطور مع زمن العرض، ينكسر تارة مع مشاهد الواقع المصري ويومياته تارة أخرى، أو مشهد الشيخ والقس في مشهد الحوار باللهجة المصرية، مما دفع العرض أن يكون إيقاعه يفتقر إلى التطور والمرونة، فضلا عن طول العرض من دون تحولات جمالية تعطي ثراء في بنيته، وحركية فاعلة للتلقي، ويرجع السبب إلى أن المخرج نقل حمولة النص اللفظية بأكملها، من دون ترشيقها وقص الزائد الأدبي منها، والإبقاء على الحمولة الدرامية التي تسمح بإنتاج نماذج للاستجابة الأدائية أو التقنية، سواء أكانت على مستوى السينوغرافيا أم أداء الممثل، على الرغم من الفضاء الحركي ذي النكهة الكيروجرافية للممثلين، وأكرر هنا “الشيطان ومجموعة الجن”، الذي اتسم بالدقة الأسلوبية والثراء الدلالي لها، الذي اعتمد وبذكاء على مهارة الممثلين.
لقد حقق العرض المسرحي بعدا بصريا جاذبا للحواس والإدراك الجمالي؛ إذ نجده ينتقل من السردي - الصوتي إلى الفعل المعادل له موضوعيا وفكريا، من خلال النسيج السينوغرافي الذي أوجد بيئة مسرحية اتسمت بالسرية والأناقة في خطوطها وتكويناتها، فضلا عن التناغم اللوني للأزياء، وغرابة تصاميهما وهو ما يزحزح نمطية تصميم الزي المسرحي؛ إذ تتميز أزياء الشيطان والجن والماكياج بأنها شقيقة أزياء الكابوكي - مع ابتعاد الفكر والعمل - بينهما إذ نجد الفاعلية الطقوسية تجمعهما من حيث الأساس العملي، ويتباينان في متن الرسالة الثقافية، هذا الحفر الأنثروبولوجي من مصمم الأزياء أعطى للخطوط التكوينية للتصميم بعدا مفتوح الدلالة بعيدا عن المحلية، ولقد ساعد ضيق الفضاء من تأكيد رسالة الإخراج التي تتمثل في مراقبة حياة الإيقاع التي تتحرك في نسق يجمع البصري والسمعي والحركي في صورة مسرحية يتفاعل فيها الجزء مع الكل في وحدة فنية. إن الإيقاع رأس رجاء المسرحيين، يتقربون به للإمسك بالمتلقي الذين يريدون له تواصلية فاعلة لا تنقطع مع العرض المسرحي، ولهذا أجد من الذكاء لدى المخرج الاهتمام بإيقاع الصوت وعلاقته بالجسد الحر والمقموع على حد سواء، فالجسد من دون دلالة لا تعبير له مثلما يقول ديكارت “يكون بمثابة آلة جسمية ميكانيكية”، والفن بذاته يغادر تلك الميكانيكية الثابتة إلى الحرية الإبداعية التي تسعى إلى البوح الجمالي المغاير على كل ما هو مألوف ونمطي؛ لذا أجد أن الممثلين نجحوا في إيصال رسالة الأداء إلى المتلقي، وحققوا تواصلا فعالا، وتلك غاية الغايات من العرض المسرحي، إن فلسفة الإيقاع تجعل من الأداء حرا في حدود البيئة الضيقة من خلال مبدأ استثمار الجسد بالحركة الموسيقية المتوازنة - مثلما يقول دالكروز «فالجسد هو الآلة الإيقاعية التي ينبغي العمل عليها»، ولذلك كان المنظر المسرحي بسيطا مع بيئة ضوئية متناسقة، تفاعل معها الجمهور.
لقد استند المخرج في تشكيل بنية العرض وعناصرها المكونة للصورة المسرحية، على مفهومين أساسين، وكلاهما جمالي، أولهما: نفي النفي، وثانيهما: استاطيقا القبح، أدخلنا المخرج في جماليات القبح، الذي يعني ببساطة ما ننكره في الحياة سلوكا وقيما، نتفاعل معه جماليا في العمل المسرحي، وهذا معناه، إزاحة الجاهز من التصورات الواقعية، إلى نوع من التعزيز الجمالي للمعالجة المسرحية. أما (نفي النفي) الهيكلي، فهو عدم معالجة الواقع بذاته، بل ينبغي تحويله جماليا؛ من خلال نفيه، فالحرب تكون أكثر بلاغة حين نعالجها جماليا بالسلام، وهذا قد توفر في العرض المسرحي (الجلسة) من خلال معالجة الربيع العربي، أسبابه ونتائجة، بعلامات مسرحية، لا تمت بصلة إليه، على نحو مباشر، بل تذكرنا به وننكره ذهنيا، وهذا أكسب العرض ديناميكة في التواصل، ترتبك قليلا، مع تكرارها الذي مرده التزام المخرج بنقل كل حمولة النص اللفظية إلى فضاء الغرض المسرحي، كل صغيرة وكبيرة من ألفاظ النص تجدها على لسان الممثلين، وهذا يجعل العرض المسرحي يعمل بنظام النقل الأمين للنص بكليته، أدخل المتلقي في أفقية الإيقاع المقطعي، إذن ثمة فواصل قسرية بين مشهد وآخر، من خلال الإطفاء المتكرر للإضاءة، لا تريد الكف أو التغيير، وهذا أفقد العرض في لحظات كثيرة الكيف الجمالي، الذي يتفاعل معه المتلقي، لأنه يمثل لديه غاية الإضافة التي يسعى لها، ورأيي (أن يكون العرض في علبة تقليدية، حتى نضمن انتقالات بين العوالم المرئية/ الواقعية اليومية، والعوالم اللامرئية/ الرمزية الفنطازية التي تمثل عوالم الشيطان والجن والمردة).
طوبى للباحثين في دروب الحقيقة على قلة سالكيها، فإنهم معدودون، يعلمون ما لا يعلمه الساذجون الراكضون في دروب المداهنة والنفاق الممنهج، إنهم يعملون ولا يحصدون إلا الأوهام، أما سالكو الحقيقة، فإنهم سعداء على قلة الجزاء والأضواء. تحية لفريق عمل مسرحية “الجلسة” مخرج ومؤلف وممثلين وتقنيين.


جبار خماط حسن