العدد 620 صدر بتاريخ 15يوليو2019
وكأنه أصبح أمرا معتادا رؤيته على خشبة المسرح في الآونة الأخيرة، أن ترى مخرج العرض هو ذاته مؤلفه وأحد ممثليه، وهذا ليس عيبا على الإطلاق، فمنذ بدايات المسرح اليونانية وكان مؤلف النص المسرحي هو ذاته من يقوم بإخراج العرض المسرحي وتمثيله على خشبة المسرح أحيانا، فتلك السمة لم تكن مستحدثة أبدا ولكنها بقدم تاريخ المسرح، ولكن في ظل تطور المسرح وتقنياته علي مر العصور بات هذا الأمر صعبا بعض الشيء، ويرجع ذلك إلى المهام الشائكة التي تقع على عاتق المخرج فهو رب العمل الذي ينسج للمتلقي صورة مسرحية متكاملة ومتقنة فنيا يتلمس بها إبداعا بدوره يعمل على إمتاع المتلقي، فقد لا يؤثر هذا على العرض حين يكون مؤلف النص هو ذاته مخرجه، ففي كلتا الحالتين يرى المخرج الصورة كاملة ومن ثم يمكنه ان ينسج خيوط اللعبة المسرحية بإتقان دون أن يتخللها سقطات لا منطقية في أي من عناصرها.
أما في حالة أن يصبح المخرج أحد ممثلي العرض فكيف يرى تلك الصورة كاملة إذا كان جزءًا منها؟! وهنا تكمن صعوبته.
وإحقاقا للحق فنجاح ذلك أو إخفاقه يتوقف على قدرة المخرج الإبداعية ومهارته الفنية فحسب، فقد ينجح البعض في إدارة كافة عناصر العمل الفني بالإضافة إلى وجوده كأحد ممثلي العرض. وبتعبير آخر يمكننا أن نذكر أنها ملكة يمتلكها البعض وليس الكل ومن ثم تأتي سقطة المخرج الذي لا يمتلك تلك الموهبة ويخطئ في تقديره لدوره المهم كمخرج للعرض عليه أن يطهو وجبته الفنية بإتقان حتى لا تفسد وهذا ليس يسيرا على الإطلاق.
وربما قد يكون هذا تحديدا ما حدث مع المخرج أكرم مصطفى مخرج ومؤلف عرض «نوح الحمام» وأحد ممثليه الذي يعرض حاليا على خشبة مسرح الطليعة، حيث أغفل مصطفى بعض العناصر سواء على مستوى الصورة أو المستوى الدرامي، مما جعله لم يصب في خلق تلك الوحدة المتكاملة فنيا وإبداعيا، خاصة وإن كنا بصدد دراما تنبش بإحدى قضايا المجتمع وتحاول أن تعكسها بصورة أقرب إلى الواقع، ومن ثم فنجد أن العرض لا يحتمل أن يتخلله عناصر مشتتة تفسد حالة الإيهام التي حاول العرض أن يخلقها ولم ينجح.
حيث جاءت سينوغرافيا العرض لتتربع على العرش وتحتل الجانب الجوهري والأبرز من العرض لما بها من انضباط فني متقن بما يتناسب مع حالة العرض في أغلب عناصرها، فقد لعب المخرج على خلق صورة بصرية متزنة إلى حد كبير سوى ببعض التفاصيل المنطقية، لتكتمل الصورة على شاكلتها الأقرب إلى الواقع كما ذكرت تلك التي أغفلها تماما صناع العرض، ومع ذلك تظل سينوغرافيا العرض المسرحي «نوح الحمام» هي الأفضل بالإضافة إلى الأداء التمثيلي لجميع ممثلي العرض الذي أتقن كل منهم دوره وجسده بحرفية وإدراكهم لأبعاد الشخصية، فنحن أمام طاقات تمثيلية جديرة بالثناء، فنجد موسيقى تشق طريقها بما يتناسب مع دراما العرض حيث جاءت ألحان محمد حمدي رؤوف لتتناسب مع دراما العرض المأسوية وتسهم بشكل كبير في خلق حالة الإيهام مع الحدث الدرامي، وجاءت إضاءة عمر عبد الله لتشكل حالة درامية بحتة تتسم بهرموني شديد مع بقية عناصر السينوغرافيا، كملابس شيماء محمود التي ساهمت أيضا بدورها في أن تعكس الصورة الواقعية لصعيد مصر المنغلق الذي طرح من خلاله دراما العرض، وعن ديكور فادي فوكيه، ورغم اهتمامه لأدق التفاصيل في تصميم ديكور العرض المسرحي لدرجة أنه قد أبرز شقوق الجدران مما تمكن المتلقي من رؤيتها بوضوح وكأنها حقيقية، فإنه اتضح أن اهتمامه بتفاصيل صغيرة جعلته يغفل تفاصيل لا تقل عنها أهمية وإن كانت تفوقها بكثير، حيث قسم المسرح إلى ثلاثة أحدها يعكس ويجسد أروقة منزل “وطني” – البطل المحوري للعرض – والآخر ساحة أمام المنزل، أما الجزء الثالث فكان لحانة بتلك القرية، ففي حين جاء تقسيم المسرح على هذا النسق مناسبا لأحداث العرض ومشاهده التي تنتقل سريعا بين الثلاثة أماكن المختلفة تلك، وفي حين جاء تجسيده لصورة المنزل الصعيدي والساحة بشكل أقرب إلى الواقع بعض الشيء فقد أغفل في تصميمه للحانة ما يجب أن تكون عليه الخمارة بتلك القرية الصغيرة، فهل يعقل أن نرى حانة بقرية صغيرة تبدو بهذا الثراء كما لو كانت بمدينة كبيرة في شوارع القاهرة الكبرى؟! وهو ما أثار تشويش المتلقي ووضع الكثير من علامات الاستفهام حول رمزية المكان الذي من المفترض أن يجسده ديكور العرض دون إجابة، مما أفسد حالة التماهي مع الحدث لما بالحانة من خلل بين ما يسمعه المتلقي من حوار درامي وما يراه.
وفي ظل تأرجح عناصر سينوغرافيا العرض بين التميز والإخفاق لم تجد دراما العرض المسرحي إجابة لأسئلة المتلقي التي أثيرت بذهنه، دارت دراما العرض حول قضية الثأر التي تحدث بإحدى قرى الصعيد، ولأن تلك القضية قد طرحت مرات ومرات عبر أنواع الدراما المختلفة، فقد حاول مؤلف النص أن يثيرها بصورة تختلف عن سابقيها ولكنها لم تتمكن من أن تصل إلى مرادها، فقد بدت أحداث النص كشذرات جُسدت في خط درامي واحد محوره حكايات عن شخص يدعى «وطني» ترك البلدة من سنوات ولكنه بقي حاضرا في أرجاء البلدة بحديث أهلها المستمر عنه – أشبه بفكرة الاسكتش المسرحي – حيث قسمت أحداث العرض إلى ثلاث مجموعات كل منها يتحدث بدوره عن “وطني” وحسب، وقد اختلفت تلك الحكايات بين نافرين من هذا الفتى الذي قتل وبطش في البلدة دون طرفه عين هؤلاء الذين انتظروه للأخذ بالثأر منه وأخريات انتظرن لولعهن به، وحتى لا يصبح الحوار الدرامي على وتيرة واحدة حيث الحديث عن “وطني” وحسب لجأ مؤلف النص إلى التطرق إلى الحكايات الأسطورية يسردها الشخصيات لتحرر من قيد الحكايات عن هذا الغائب الذي قيد بها المتلقي طوال مدة العرض، ولكنها لم تصب أحيانا كثيرة مما أثار شعور المتلقي بالملل، ويكمن هذا في إيقاع العرض الرتيب نتيجة طبيعة الحدث الذي كُشفت لعبته الدرامية بعد بضع دقائق من بدايته وتأكد المتلقي بأنه متورط في انتظار شخص يدرك تماما أنه لن يأتي وأن ما يحدث هو ثرثرة حول شخصية هلامية ربما لا تكن شخصا من الأساس، فربما هي فكرة أثارها أهل القرية ليجدوا مبررا لخوفهم من الأقوى أو من المجهول، أو ربما أنه شخصية قد تأتي... إلخ، وهو ما لم يسمح العرض بتأويله من قبل المتلقي، لما بدا عليه الحدث الدرامي دون تصاعد درامي أو صراع خارجي للشخصيات فهي ثرثرة لا طائل منها، وكأنها تجليات تعكس ما تحمله بواطن كل شخصية من صراع داخلي يشكله الخوف من الآخر ومن المجهول وكأنها مناجاة لكل شخصية تفرقت مشاعرهم تجاه هذا الشخص ولكن عبثية الانتظار وضرورة وجود الخوف واحد بداخل كل منهم، ومن ثم فكانت نهاية أحداث العرض بتلك النهاية العبثية لدراما مخلخلة كهذه متوقعة لحتمية استمرارية الفعل الدرامي الذي أدركها المتلقي تماما فهو لن يأتي وهم لن يكفوا عن الثرثرة وحسب.