مسرحية القديسة إيفيتا.. مناقشة فكرة الصعود إلى ذرى المجد من أجل الوطن

مسرحية القديسة إيفيتا.. مناقشة فكرة الصعود إلى ذرى المجد من أجل الوطن

العدد 824 صدر بتاريخ 12يونيو2023

ما الفرق الجوهرى بين العمل الأوبرالي والعمل المسرحي؟ كان هذا السؤال يتردد على ذهني كثيرا عند قراءة هذا العمل «إيفيتا»، وجاءت الإجابة في البداية بسيطة وسطحية أيضا؛ ربما العمل الأوبرالي يحتوي على دراما موسيقية  –غير مفهومة للكثير منا- ولكن المسرح أيضا قد يكون مسرحا شعريا أو غنائيا أو استعراضيا أو جميع ما سبق معا. إذن، ما الفارق الجوهري بين الفنين؟ هذا ما يجب أن أبحث عن إجابة ناجعة عنه قبل تقديم هذا العمل للقراء.
وفي الحقيقة، العمل الأوبرالي يعتمد أولا وأخيرا على الغناء أكثر من الكلام (الحوار)، ويستفيد المؤلف الأوبرالي إلى درجة كبيرة من إمكانيات الموسيقى المصاحبة التي تعمق الإحساس لدى الممثل والمشاهد معا، وتتميز الأوبرات بأنها تجمع بين أكثر من لون من ألوان فنون الأداء مثل التمثيل والغناء والموسيقى والأزياء، وفي أحيان أخرى كثيرة، الرقص والباليه. 
ولم تقدم شخصية “إيفيتا” وسيرتها الذاتية في الأوبرا والمسرح فقط؛ بل تحولت المسرحية إلى فيلم للمرة الأولى عام 1996م من بطولة المغنية مادونا والنجم أنطونيو بانديراس، كما سطرت رواية تحمل اسمها أيضا للكاتب الأرجنتيني توماس إيلوي مارتنيث (تقع فى 416  صفحة)، وهي الأروع، والأكثر إنصافا لحياة سيدة الأرجنتين الأولى أو قديسة الأرجنتين وملهمتها على مر العصور.
 وإن كان كاتب الرواية والمسرح معا اختارا تقنية «الفلاش باك» أو فيما يُسمى بـ«الاسترجاع السردي»، وجاءت بداية العملين من لحظة وفاة إيفيتا، ربما لأن جنازة أي شخصية سياسية تُعد استفتاء شعبيا حقيقيا على دور هذا السياسي وما حققه من نضال من أجل بلده، فعلى سبيل المثال جنازة مصطفى النحاس في أغسطس 1965م، وعلى الرغم مما تعرض له من عزل سياسي لسنوات قاربت الثلاثة عشر عاما، وعلى الرغم من اسمه لم يُذكر منذ نهاية أزمة الديمقراطية في عام 1954م، في وسائل الإعلام الرسمي -التي لم يكن هناك غيرها وقتئذ- إلا مصحوبا باللعنات وبالأكاذيب والمبالغات حول سيرته السياسية والشخصية؛ فإن الشعب كان له رأي آخر، وكانت كلمة الفصل في تقييم الشعب لرجل أخلص لوطنه ولقضاياه. ثم تسير الأحداث في العملين، وسواء كانت هذه المشاهد ترصد رؤية الكاتب نفسه (في العمل المسرحي ضد شخصية البطلة ؛ وذلك لأسباب سياسية -العداء السياسي بين إنجلترا والأرجنتين- وفي العمل الروائي مع شخصية البطلة)، أو الذات الروائية المتخيلة هنا.  
 فقط أظن أن التعامل مع هذه المشكلة (الالتزام بالموضوعية في كتابة السير والتراجم) يعتمد على ثلاثة أسس: أولها منهج مقارن للتوصل إلى الحد الأدنى من الحقائق التي اتفق عليها الطرفان، وثانيها منهج الفرز والتمييز بين الحقائق من ناحية وتلوينها من كل طرف من ناحية أخرى، وثالثها منهج الرؤية العامة المعتمدة على أطراف أخرى غير الطرفين المتحيزين مع أو ضد. 
والكتاب الذي بين أيدينا عمل مسرحي غنائي، (يقع في 121 صفحة، تُمثل (45) صفحة الأولى (ثلث الكتاب تقريبا) مقدمة تاريخية مهمة عن رحلة صعود زوجة «الدكتاتور» الأرجنتيني السابق خوان بيرون (إيفا دورات وشهرتها إيفيتا) وشريكته منذ صعوده إلى الحكم وتألق نجمه، التي وقفت بجواره في أخطر سنوات الفترة الأولى من حكمه قبل أن يتم نفيه إلى إسبانيا بعد وفاتها عام 1952.. المرأة التي كانت خلف العديد من قراراته ومواقفه السياسية. ويلقي الضوء على طبيعة الحياة السياسية في دول أمريكا اللاتينية في الفترة من عام 1943 وحتى عام 1952م وما قبلها، والغريب والمدهش أيضا أن الأحداث ما زالت تعكس واقع ما يحدث حتى الآن!!
في البداية، ظهرت أوبرا «إيفيتا» لأول مرة في هيئة شريط كاسيت عام 1976، ولم يقدم على المسرح إلا بعد هذا -عرض للمرة الأولى عام 1978 على مسرح برنيس إدوارد في لندن، واستمر عرضه ثماني سنوات- الأوبرا تبدأ باستهلال بارع، إذ نسمع موسيقى لفيلم أمريكي مدبلج إلى اللغة الإسبانية، ليعرض بدار عرض سينمائي في بونيس إيريس في يوم 26 يوليو عام 1952، وهنا يقطع متحدث الموسيقى ويعلن عن نبأ وفاة إيفا بيرون قرينة الجنرال بيرون رئيس الأرجنتين.
وتلا هذا افتتاحية العمل، وهو جنازة إيفا بيرون (1919-1952م)، التي يقطعها صوت الثائر الأرجنتيني «تشي جيفارا»، وهو يعلق ساخرا على الأحداث بأن الأرجنتين قد تحولت إلى سيرك.. وقد استغل المؤلف البريطاني «توم ريس» شخصية الثائر الأرجنتيني الشهير «تشي جيفارا» ليعلق على أحداث المسرحية ويعبر عن ضمائر شخوصها، وليس لجيفارا وجود فعلي في حياة إيفا أو بيرون، وربما لم يلتقِ بهما قط، فعندما رحلت إيفيتا كان هو في مطلع العشرين من عمره.
ثم تغني إيفيتا أغنية «لا تبكي من أجلي أيتها الأرجنتين» التي تعتبر بحق أجمل ألحان الأوبرا، وهي أول لحن وضعه المؤلف الموسيقي البريطاني «أندرو لويد ويبو» أثناء العمل الذي يعبر عن فكرة إيفيتا عن نفسها باعتبارها تجسيدا لشعب الأرجنتين، مثلما حاولت أن تبدو دائما. ويعقب «تشي جيفارا» في سخرية مريرة عن هذا بأن هذه جنازة الأرجنتين أيضا! وفي الحقيقة، كان هذا الاستخدام لشخصية «جيفارا» من أهم مواطن الضعف في هذه المسرحية الجميلة.
فشخصية جيفار هنا شخصية غير عادلة كما أن موقفها العدائي (الحاقد) من أول العمل لا يمنحه الحق في نصب محاكمة لإيفيتا، ويظهر ذلك جليا في حديثه إلى نفسه (صفحات 92، 93، 94): جميلة رقيقة كاملة المعاني، شيء بين الحلم ومسوح القديسين، وكانت مجرد فتاة ساقطة، قطة برية تخدش وتخمش، تعض وتجرح. وهي اليوم في قمة المجد معبودة الجماهير إيفيتا: هل خطر ببالك يوما ولو في الأحلام أنك ستكونين على هذا الحال، وأنك ستصبحين سيدة عليهم جميعا؟
كما يظهر ذلك جليا أيضا في ختام العمل، ففي الوقت الذي تنسحب إيفيتا من الحياة السياسية-بسبب مرضها- نجد جيفارا يوجه لها هذه الكلمات (صفحة 116): عفوا، لتدخلي يا إيفيتا، فإني أريد أن أشهد كيف تعترفين أنك قد خسرت المعركة، يالها من تجربة جديدة تماما عليك.
وحتى السجال الذي سطره المؤلف بين  شخصيتي جيفارا وإيفيتا، لم يمنح الفرصة كاملة أمام شخصية إيفيتا للدفاع عن نفسها؛ بل سلبها هذا الحق! ويظهرها بشخصية سلبية أيضا. نقرأ معا هذا الحوار (صفحة 108، 109):
جيفارا: خبرني قبل أن أرقص خارجا من حياتك، قبل أن أولي ظهري للماضي.. اغفري لي سلوكي الوقح، ولكن –بالله- خبريني إلى متى تستمر هذه المسرحية المضحكة. بالله- خبريني قبل أن أخبو مع الغروب وأذوي، أجيبيني.. وضحي لي ما لم أفهمه قط.. كيف تدعين أنك المنقذة والقديسة. بينما من يعارضك تقطع منهم الأوصال في غياهب السجون أو ببساطة يختفون.
إيفا: بالله- خبرني قبل أن نركب الأوتوبيس الأخير، قبل أن تلحق بالسرية التي طواها النسيان، كيف لإنسانة مثلي أن تغير قواعد اللعبة التي استقرت مع الزمن؟ بالله- خبرني قبل أن تمتطي صهوة حصانك ماذا تتوقع مني أن أفعل؟ 
وفي فقرة أخرى تجيب جيفارا بإجابة تتنافى مع شخصية إيفيتا، فيأتي الكلام على لسانها: عندما تعرضت لأعتى مشاكل العالم من الحرب.. إلى تلوث البيئة أدركت أنه لا أمل.. لا حيلة حتى لو عشت مائة عام والشر من حولنا.
هذه الشخصية التي رسمها المؤلف الإنجليزي -بشكل مغرض- تتنافى مع ما عُرف عن هذه السيدة العظيمة، معشوقة الشعب، والتي وصل عشقهم لها حد التقديس.. نقرأ في العمل الروائي الذي سبق وضعه في وضع المقارنة بينه وبين العمل المسرحي، نقرأ هذا الحوار الممتع قبل رحيل هذه السيدة عن الحياة:
بيرون (الزوج): إنني أقضي النهار في الرد على الرسائل التي يرسلونها إليك. إنها أكثر من ثلاثة آلاف رسالة، وفيها جميعا يطلبون منك شيئا: منحة للأبناء، جهاز عروس، طقم حجرة نوم، وظيفة حارس ليلي.. وما أدراني أنا؟! عليك أن تنهضي بسرعة قبل أن أسقط أنا أيضا مريضا.
كما نقرأ وصيتها الأخيرة لزوجها: لا تتخل عن الفقراء، عن شحومي الصغيرة (تقصد فقراء الشعب) فجميع هؤلاء الذين يتجولون هنا، ويلعقون حذاءك سيديرون لك ظهورهم ذات يوم، أما الفقراء فلن يفعلوا.. إنهم الوحيدون الذين يعرفون كيف يكونون أوفياء.
وبالفعل، بعد رحيلها أنهى انقلاب عسكري فترة رئاسته الأولى عام 1955، مما اضطره إلى ترك الأرجنتين، لكنه عاد إلى بلاده عام 1973، وانتخب رئيسا لها حتى وفاته بعدها بعام.


رضا عبدالرحيم