اسمي أوسكار وجماليات التخمين!

اسمي أوسكار وجماليات التخمين!

العدد 747 صدر بتاريخ 20ديسمبر2021

- الناقد الحق هو من يدخل ليشاهد العرض، ثم يخرج ليكتب المقال.
كثيرا ما كنا نخرج من صالة العرض المسرحي منزعجين بسبب عدم وصول أصوات الممثلين إلينا، إما بسبب ضعف آلاتهم الصوتية، وإما بسبب عدم جودة أجهزة الصوت في كثير من مسارحنا. اعتبرنا ذلك من قبيل المشكلات المزمنة التي تضرب مسارحنا، خاصة في المسارح غير المجهزة جيدا، فكنا نبتلع المشكلة، ذلك إذا كنا نجلس في مقاعد المشاهدين، أما إذا كنا نجلس في مقاعد النقاد، وكان علينا أن نكتب عن العرض،  فلم يكن الأمر يمر مرور الكرام، حيث كنا نتدرج من وضع الانزعاج الطبيعي إلى وضع يكاد يكون مأساويا، حيث لا نستطيع مواجهة السؤال الصعب: ماذا ستكتب عن العرض إذا كنت لم تسمعه أصلا، ومن ثم لم تصلك تفاصيله، أو على الأقل لم يصلك كثير منها؟
ذلك هو السؤال الوجودي الذي كان دائما ما يواجهنا، نحن الذين طالما آمنا بالحكمة الخالدة التي تقول إن “الناقد الحق هو من يدخل ليشاهد العرض، ثم يخرج ليكتب المقال” فماذا نكتب إذن؟
هل كان ذلك تمهيدا ربانيا، حتى نصل إلى هذه اللحظة الميمونة، التي نقول فيها كما قال أرشميدس:” وجدتها” ؟!
نعم، أخيرا “وجدتها” وبالصدفة، وأصبح من الممكن الآن أن نباهي بعثورنا على إجابة السؤال: ماذا نكتب وكيف، إذا كنا لم نستمع، فلم نفهم الكثير من تفاصيل العرض، على الأقل؟
دعونا نقول ( وجدتها) والفضل في ذلك يعود إلى تلك الصدفة التي جعلتنا نتعرض للمشكلة ذاتها ونحن نشاهد عددا من العروض المشاركة في دورة واحدة من دورات مهرجان واحد، وهو مهرجان الجمعيات الثقافية – مسرح الهواة – الذي انتهت فعالياته مؤخرا بعرض” اسمي أوسكار” الذي جدد الجراح ووضعنا أمام المشكلة ذاتها، ومن ثم أمام السوال نفسه، ماذا نكتب؟ وهو العرض الذي قدمته ضمن عروض المهرجان فرقة (سودوكو) التابعة للجمعية المصرية لهواة المسرح ، من تأليف إيريك إيمانويل شميث، وإخراج أحمد رجائي.
قلت لصديقي الذي احتار حيرتي بعد مشاهدة العرض: “ وجدت الإجابة عن السؤال، وجدتها! وأكملت قبل أن تطير الفكرة من رأسي وقد سقطت على من الشجرة: إنها “جماليات التخمين”.  فإذا كنا لم نسمع جيدا فقد وجب علينا أن نخمن، تلك هي النظرية الجديدة، التي علينا أن نحارب من أجل وضعها ضمن مفاهيم النقد ما بعد الحداثي، ونظرياته، وأظنه لن يمانع، ألم يقل من قبل إن كله ماشي ؟!
أطرق صديقي الناقد ثم صفق بيديه محييا الفكرة، وقال: إذن فقد آن الأوان لأن يتنفس النقاد الصعداء، ثم فكر قليلا وقال: علينا أن نشجع المخرجين و الممثلين على عدم الاهتمام بالصوت، والتصميم على عدم وصوله إلى الجمهور حتى نستطيع أن نشغّل مفهومنا الجديد، وأن نرسخ نظريتنا عن : جماليات التخمين.
ضحكت في سري بعد أن لاحظت أن صديقي الناقد حشر نفسه معي، وشاركني  في ملكية النظرية الجديدة، ومن يعلم ربما ينسبها لنفسه منفردا، في جلساته الخاصة، أو ربما  يكون أكثر وقاحة فلا يذكرني، لا من قريب ولا من بعيد، وهو يتحدث عنه  في الإعلام، خاصة في حواراته العظيمة التي يحرص على أن تجريها معه من حين لآخر محررة جريدة مسرحنا الأستاذة رنا رأفت!
طردت الفكرة من رأسي، مؤقتا، حتى أنتهي من تطبيق النظرية الجديدة على العرض الذي لم تصلني مساحات واسعة من حوارات ممثليه، سجل يا تاريخ. 
ولكن قبل الشروع في التطبيق، علينا أولا أن نحيي فريق العرض، لما بذلوه من جهد كبير في التفكير في صناعة رؤية مسرحية مختلفة، وإن كانت ليست جديدة تماما، وهي التي تقوم على تكثير الشخصية، وتوزيعها على فضاء خشبة المسرح، وقد وصل عدد المؤديين الذين لعبوا شخصية “ أوسكار “ إلى أربعة شخصيات، لا تتوزع على مستوى الفضاء المكاني فحسب إنما تتوزع أيضا على الزمن، وقد كان من الممكن أن ترى في مشهد واحد “ أوسكار” وهو يكتب الخطابات إلى الله، و” أوسكار” وهو يشخص ما يكتبه أوسكار الأول إلى الله، مع نفسه، أو في حضور شخصية أخرى، وثالث في موقع آخر مع شخصية مختلفة عن الشخصية التي في الموقع الآخر، وقد يمر أوسكار آخر في موقع آخر من الخشبة لسبب لا يعلمه إلى الله والمخرج. 
ربما كان الفرق بين التطبيقات التي شاهدناها من قبل لفكرة تكثير الشخصيات( أن يلعب الشخصية أكثر من ممثل في العرض، وأن تحضر على الخشبة في اللحظة  ذاتها) هو أن التطبيقات التي شاهدناها من قبل كان مبررها لذلك هو تجسيد التناقضات الداخلية للشخصية، أو استحضارها عبر مراحل عمرية مختلفة ، فيما لا نجد المبررات ذاتها في ( اسمي أوسكار) حيث يمكنك أن تجد أكثر من ممثل يؤدون الحركة ذاتها والكلام ذاته، في اللحظة ذاتها، ووفق تخميني فإن مبرر تكثير الشخصية في هذا العرض هو محاولة المخرج  تشخيص سرد الخطاب الذي يوجهه أوسكار إلى الله.
هي فكرة على كل حال، لكنها – في تقديري- أسهمت في إضافة قدر من التشويش على فكرة العرض التي تتسم بالبساطة والإنسانية.
ليس لدي اختلاف مع الجوهر الديني للفكرة، وإن كنت أرى أن تفاصيلها لا تتصل بالجمهور المستهدف من العرض.
العرض بما قدمه من رسالة إيمانية، يكاد ينتمي إلى العروض الكنسية  التي تستخدم الفن لخدمة الدعوة.
في مثل هذه النوعية من العروض، ذات الطابع الدعوي، تشكل اللغة عنصرا رئيسا من عناصر تأثيرها، وهو ما لم يتحقق لسببين: الأول هو مشكلة ضعف الجانب الصوتي للعرض، وعدم وصول مساحات منه للجمهور، والثاني هو اهتمام مخرج العرض بكيفية تشكيل الصورة أكثر من اهتمامه بوصول الصوت إلى مستحقيه.
غياب الإحساس بالإيقاع يعد من مشكلات العرض الكبرى، وقد تسبب فيه أولا ضعف الصوت، وثانيا تكرار الحركة، ثم سيمترية بناء الصورة على الخشبة، لذلك بدا العرض طويلا، ومملا، توقع الجمهور نهايته في أكثر من محطة ، غير أنه خالف كل التوقعات واستمر، حتى ظن البعض أنه لن ينتهي.
أما عن جماليات التخمين، فيمكن القول إن العرض يتناول أزمة صبي صغير أصيب بالسرطان، وسمع من الطبيب أنه سيموت بعد 12 يوما، وهو ما كان له تأثيره السلبي البالغ عليه وعلى قواه النفسية، لولا أن أدركته السيدة الوردية بنصائحها الإيمانية، وقد شجعته على أن يتقرب إلى الله بأن يرسل إليه رسائل يحكي له ما هو فيه ويطلب منه ما يشاء، ففعل. ياله من تخمين!

ملحوظة منهجية
نظرا لحداثة النظرية، فإنها لا تكتفي في هذه المرحلة الباكرة من عمرها بما خمنته من فكرة العرض وأحداثه، وتسمح لنفسها بأن تستعين بمعلومات خارجية عن النص، حتى تكتمل الصورة لديها، ومما حصلنا عليه من معلومات: إن العرض يتناول أزمة صبي صغير أصيب بالسرطان، وسمع من الطبيب أنه سيموت بعد 12 يوما، وهو ما كان له تأثيره السلبي البالغ عليه وعلى قواه النفسية، لولا أن أدركته السيدة الوردية بنصائحها الإيمانية، وقد شجعته على أن يتقرب إلى الله بأن يرسل إليه رسائل يحكي له ما هو فيه ويطلب منه ما يشاء، ففعل. كذلك علمنا أن   السيدة الوردية حكت لأوسكار أسطورة قديمة تقول إن ال12 يوما الأخيرة من ديسمبر، يصير فيها اليوم عشر سنوات، وكانت بالمناسبة هي الأيام الأخيرة من  عمر أوسكار، ما فتح أبواب الأمل أمام الصبي، الذي لم يعد وحيدا في مواجهة  المرض، بعد أن عرف  الطريق إلى الله . هذا والله أعلم .


محمود الحلواني