«مجاريح» الكلمة والصورة في لحن الحرية

«مجاريح» الكلمة والصورة في لحن الحرية

العدد 606 صدر بتاريخ 8أبريل2019

مسرحية “مجاريح” للكاتب الإماراتي إسماعيل عبد الله قدمت في خمس دول خليجية ليعيد إخراجها المخرج الإماراتي محمد العامري من إنتاج مسرح الشارقة الوطني، ويتوج بها بجائزة أفضل عمل متكامل في مهرجان أيام الشارقة المسرحية.
النص يحكي عن العبد فيروز عضو الفرقة الموسيقية بعد أن نجح في نجدة وإنقاذ ميثاء ابنة أحد سادة القبيلة وشريكته في علاقة حب رومانسية، يتقدم للزواج بها ويصدم برفض قوي وجارح من السيد غانم بن سيف ليقرر المغامرة بالدخول إلى معسكر الجيش الإنجليزي والوصول إلى الخشبة وانتزاع صك حريته، مما يمنحه حرية بقوة القانون لا تعترف بها أعراف المجتمع.. يدبر مع صديقه خيري حيلة في حفل زواج ميثاء وينجح في تسهيل هروبها والرحيل بعيدا عن مضارب القبيلة. تدور الأيام وتكبر ابنته عذية ليمارس سلطة أبوية ديكتاتورية محاولا تزويجها بابن صديقه خيري. ترفض الابنة وتعلن حريتها في الاختيار.
النص كتب بلهجة عامية إماراتية جزلة ومحكمة أضفت عليه جبروتا وقوة مع ظلال لصياغات لغوية بمفردات لامست تخوم التعبير الشعري الخالص (كمثال للغة النص الشعرية نورد الحوار الرومانسي بين فيروز وميثاء وهو يحلم ويسرد وعوده لها وأحلامه لعرسهما ويقول: بسوليك عرس لا صار ولا استوى.. بنخلي القلوب تدق قبل الطبول.. والأرواح تصفق قبل الكفوف.. عرس ينولد مع خيوط الفجر.. بعزم فيه القمر. وأرقص الشجر...وأخلي النخيل تنعش لولو وخلاص نثور لعيونج.. والبحر احنى السيفه صهيل ويباب.. والغيوم تزرف مطر بكل الألوان يغسل الدنيا ويطهر السكيك والفرجان ويزرع أيامنا هنا ومواويل.. عرس تزفنا فيه الطيور بريش أبيض وسط بساتين الجوري والفل والياسمين.. عرس بكسى فيه طبلي ذهب وحباله من صبر وتعب.. ودقاته أحلام ولهب.. وباتم ادق ادق ادق.. لين ما شمسنا الدافئة تستنزل ظلال.. والأرض تصرخ يارج الله مارات عيني مثل هذا الدلال)، وكان النص هو التحدي الأول للمخرج العامري فكيف يختط مسارا بصريا يناور ويحاور مسار النص اللفظي اللغوي.
بنية النص تدور حول فكرة مركزية وهي فكرة الحرية، متى يصبح الإنسان عبدا وكيف يتمرد على واقع اجتماعي ظالم يحكم على فرد من أفراده بالعبودية بسبب اللون والتفاوت الطبقي، لينحاز الكاتب لحرية إنسان يرفض أن تكسر إرادته وينتصر لإنسانيته وحبه، وإن فشل في الوقوف في صف حرية وخيارات ابنته.. يعلي الكاتب من مكانة المرأة، فميثاء التي ضحت من أجل خياراتها ومن أجل زوجها تقف في وجهه وترفض إهانته عندما صفعها، والابنة عذية لم يمنعها حبها واحترامها لأبيها من معارضته والدفاع عن حريتها في الاختيار.
في إخراجه للعرض عمل العامري على تجاوز نقل واقع الحالات الاجتماعية وما يحيط بها من أعراف وعادات وتقاليد ليبدعها بصيغ جمالية وتعبيرية متوسلا الشعر والتشكيل والرقص والموسيقى.
ارتكزت سينوغرافيا العرض على إيقونة علاماتية هي الحبال في مساحة خالية، وفي فضاء الخشبة من أعلى إلى أسفل وفي الأطراف مع فوانيس معلقة مضاءة وحبال متقطعة صفيره نابتة أسفل الخشبة وأزياء ملونة بألوان أفريقية حارة حمراء وصفراء وبرتقالية. وأضاف العامري مشهدا طريفا وهو نزول الذهبة (وهي الهدايا التي تقدم للعروس) من أعلى الخشبة مزدانة بالملابس الملونة والمفارش والعطور. وتحولت الطبول من قطع إكسسوارية شكلها أفراد الفريق الاستعراضي إلى مفردة ديكورية ليتوسط الخشبة عمود خشبي علقت عليه صكوك وقيود حديدية.. عمد المخرج إلى أسلبة المساحة الخالية بمفردات بسيطة تناغمت مع حركة وأجساد الفرقة الاستعراضية.
موسيقى العرض مزجت بين آلة النفخ الشعبية الهبان وهي آلة موسيقية تشبه القرب الاسكوتلندية الشهيرة وطبول إيقاعية متنوعة.. زاوجت الموسيقى بين البعد الجمالي النغمي وبين البعد الدرامي، ففي مشهد الحوار اللفظي القوي بين غانم السيد وفيروز العبد بعد أن نال حريته، نجد معادلا موسيقيا صراعيا تراشقيا يتناغم مع الحوار اللفظي، فعندما يقول غانم “عمك غانم يا كلب” يصيح للفرقة “دقوا”، فتهدر الطبول.. يوقفهم فيروز ويرد “انت اللي تشوخر وما تدري عن هواء دارك.. دقوا تنطلق الطبول..” في مبارزة صوتية صاخبة تحاكي صوت السيد وصوت العبد. وصدحت الموسيقى في فضاء المتعة والفرح في مشهد استقبال فيروز بعد عودته حاملا صك الحرية، وفي مشهد حفل زفاف ميثاء وفقرة الشويبة (وهي اسكتش فكاهي من التراث الشعبي الإماراتي تحكي عن امرأة تشتكي للقاضي ويظهر مهرج يرتدي زي القرد ورجل يرقص في زي امرأة، وفي وسط هذه الأجواء التهريجية يدبر فيروز حيلة هروب ميثاء بمساعدة صديقه خيري). ومن المشاهد ذات الخصوصية الثقافية الإماراتية استعار العامري مشهد الحديدة وهي معلقة في عمود خشبي يتوسط معسكر الجيش الإنجليزي من يصلها من العبيد يحصل على حريته القانونية بحماية سلطة الإنجليز.
جاء مشهد ختام العرض بلفتة ذكية شهدنا فيها غانم السيد المتسلط يطارد بقع ضوئية بسوطه الذي طالما الهب به ظهر العبيد.. يضرب البقعة الضوئية فتنطفئ لتسطع من جديد في مكان آخر وهو يلهث خلفها عبثا يحاول إطفاء نور الحرية الساطع بقوة الإرادة وحتمية الانعتاق.
أعاد العرض الفنان الكبير د. حبيب غلوم للخشبة ليقوم بدور غانم الديكتاتور المتسلط عصبي الرؤية والمزاج، وقدم موسى البقيشي أداء قويا في دور فيروز، ونجح ناجي في التواصل مع ضحكات الجمهور في أدائه الكوميدي السلس لشخصية مال الله، وكعادتها تألقت بدور في دور ميثاء وحصدت جائزة أفضل ممثلة دور أول ولتهدي جائزة أفضل ممثلة دور ثانٍ لرفيقتها سارة في دور عذية.
حصل العرض على جائزة أفضل عرض مسرحي متكامل وجائزة أفضل أزياء وجائزة أفضل مؤثرات موسيقية وجائزة أفضل دور أول نساء وأفضل دور ثانٍ نساء.


محمد سيد أحمد