نساء بلا ملامح.. قربان النفط الدامي

نساء بلا ملامح.. قربان النفط الدامي

العدد 594 صدر بتاريخ 14يناير2019

غالبا ما يحمل المبدع آمال وآلام مجتمعه في سياق متصل مع آيديولوجياته وقراءاته المتأنية لما آل وما سيؤل إليه الحال مغبة غض الطرف عن المتغيرات اللاهثة في المشهد المتجسد في مجتمعه، وحال غضه للبصر يتحول منتجه الإبداعي إلى لوحة جمالية تنتهي لذة الاستمتاع بها بانتهاء الاستماع لها ومشاهدتها، وبالتالي تذهب أدراج الرياح، وحال زخرفة المنتج الإبداعي بقليل من الرتوش يكسبها بالضرورة قشرة رقيقة من الدلالة التي ما أن توضع داخل سياق سيونوغرافي وثقافي وتاريخي حتى تتآكل تلك الرقاقة وتنصهر داخل كينونة أخرى تطل بقوة من بين الشكل ولتصل إلى مضمون أكثر اتساقا وعمقا مع مقتضى الحال والأحوال، فتتحول بالضرورة الملامح المبهمة إلى ملامح أكثر وضوحا واتساقا مع تخليها عن المباشرة التي يراها البعض مفسدة لكل فن، وإن وقع البعض بالضرورة في ظاهر الأشياء ولهث وراء الطعم المزخرف بأجساد وأصوات تحمل في ظاهرها دلالة بسيطة لم تكن إلا مدخلا لدلالة أكثر عمقا والتصاقا بالواقع.
ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي في نسخته الحادية عشرة المقام في القاهرة وعلى خشبة المسرح القومي، قدم مبدعو الأردن عرضهم المسرحي “نساء بلا ملامح” تأليف عبد الأمير الشمخي وإخراج إياد الشطناوي، وهو عرض أعلن أن ارتباط الكاتب والمخرج وبقية عناصر العرض المسرحي، بالضرورة النسوية تلك الحركة التي نادت وتنادي بحق المرأة في الوجود كفاعل أساسي في المجتمع – أي مجتمع وكل مجتمع – لتتكسر بالتبعية الحدود الفاصلة بين بلدة وأخرى وبين ثقافة وأخرى للمناداة بحق المرأة كإنسان في الحياة والحب والوجود، وبالتالي بحقها في المستقبل. هن ثلاث نساء محبوسات في مكان مقفر تحت الأرض أو فوق الأرض ليس مهما والمهم أنهن حبسن لذنب يراه من يقوم بتعذيبهن، وهو رجل ضخم يحمل في يده سوطا يرهبهن به ويعذبهن، وذنب هؤلاء النسوة أنهن حملن في بطونهن طفلا من علاقة غير شرعية، ويستمر الرجل في تعذيبهن بين الفينة والأخرى، وتستمر النسوة في اجترار ماضيهن لإثبات أنهن لسن ساقطات بما جبل عليه المجتمع – أي مجتمع – من أعراف وتقاليد، فهن ثلاث نسوة إحداهن متحررة نجحت باستخدام ما لديها في إسعاد ما لديها حتى سبق السيف العزل وحملت سفاحا وتمنت أن تلد أنثى يصبح مستقبلها أفضل حالا من أمها، وثانيهن امرأة متجهمة حزينة ومحافظة جدا ومتزوجة ولكن دائما ما كان زوجها يعاملها بعدم اكتراث وأهانها إهانات بالغة فكانت لديه كمكانة البقرة ليس إلا حتى إنها صادقت تلك البقرة وظلت تبثها حزنها وهمها ولما هربت البقرة حملها زوجها مغبة الضياع وحملت سفاحا غصبا فتساوى الجرم مع من حمل سفاحا، وثالثهن فتاة حالمة وهي عانت من قهر أخيها حتى إنها حملت من صديق أخيها فهو من جعلها تشعر بأنها هي ولا شيء سواها. وفي أزمة الأحداث والحبكة عرض القاهر لهن الحرية في مقابل أن يقتلن أطفالهن بعد الولادة بخلط السم في الحليب أثناء الرضاعة فيرفضن وتستمر دورة التعذيب.
هذه إطلالة على الحبكة والأحداث، وعند التحليل نجد أن براعة السينوغرافيا والأداء التقني حولنا إلى دلالة أكثر عمقا من قهر الذكر للمرأة وحق المرأة في الوجود وحقها في الحياة، ومن العمق السردي نستخلص أن في كثير من الكتابات الدرامية استخدمت المرأة كرمز للوطن فهي الصانعة والمانحة وهي الدفء والحنان وهي السكن، واستخدم الطفل سواء ولد أو كنا في انتظار ولادته بالمستقبل وهي رموز تلتصق بطبيعة الكتابات العربية، وأؤكد أنها رموز لم تبتعد عن رموز النص أو حالة العرض/ المسرحي/ الأردني/ العربي “نساء بلا ملامح”، فهي قراءة واعية لواقع الأمة العربية والقومية المستباحة أمام طغيان الاستعمار الفاشي الأجنبي والعربي على حد سواء، وكثيرة هي الرموز المستقاة من المتن الأدبي (موت على الطريقة الأمريكية، لا بد من قتل صاحب النطفة التي جعلته في حالة تشظي بين الحياة والموت، نحن نلد الشعوب والشعوب ليس لها آباء) فليس فينا من أنكر أو ينكر حجم التدخل الأجنبي في السياسات العربية وفي الشأن الداخلي لكل دولة، وليس فينا من ينكر كم القهر والظلم الممارس من قبل الأعداء سواء كان ذاك العدو داخليا أو خارجيا، وليس فينا من ينكر قدرة المسرح في رؤاه ودلالاته على كشف تلك السفاهات الهادفة إلى نزع الكينونة ووأد المستقبل.
إن النص المسرحي “نساء بلا ملامح” لعبد الأمير الشمخي أو نص العرض كما أعلن أنه من إعداد علي العليان، لم يغفل تلك العلاقة المتأزمة بين الحال ومقتضى الحال، ونجح المخرج أيما نجاح في تمرير أفكاره ببساطة تؤكد عمق موهبته وموتيف سينوغرافي يؤكد وعي السينوغرافر وهو احتلال (براميل النفط)، خشبة المسرح سواء في مكان التعذيب (فراغ خشبة المسرح) ثلاثة براميل فوقها قطعة حبل مربوطة بها النساء أو تأطير المسرح بأكمله بتلك البراميل من مكان دخول القاهر الذكر وخروجه وهروب الفتاة الحالمة داخل البرميل واستخدامه الواعي البسيط/ العميق لتلك الأيقونة المرتبطة أيما ارتباط بالواقع العربي ومستقبله وحاضره، لتتحول البراميل إلى قربان وجع الأيام السوداء وتتخلص الدلالة من الرقاقة البسيطة المغلفة لها بنقد الواقع الساعي لوأد مستقبل خاصة مع اشتعال براميل النفط في لقطة إضاءة بارعة وخروج الضوء الأحمر من فوهته ليلقي بظلاله على وجوه المرأة/ الوطن المستباح.
“نساء بلا ملامح” عرض مسرحي تجاوز المظهر إلى مخبر أكثر إيلاما وحقيقة.


محمد النجار

mae_nagar@yahoo.com‏