«الجانب الآخر من الحديقة» معاناة الإنسان بين الحقيقة والميلاد

«الجانب الآخر من الحديقة» معاناة الإنسان بين الحقيقة والميلاد

العدد 689 صدر بتاريخ 9نوفمبر2020

الإنسان ما بين الحياة والموت، يفقد كل شيء بحثا عن حريته وكرامته وعزته، منذ لحظة الميلاد يظل في صراع لإثبات الوجود، تتداخل المعطيات والصور والأحداث والشخصيات، تخلق تشويشا في عالم لانهائي من الصراعات يسقط الضحايا وتتوه معالم الطريق لكن تبقى في النهاية المشاعر الإنسانية تقوده إلى الحقيقة متنازلا عن أي ماديات مقابل الروح التي تجمدت بفعل عالم الصورة الذي نعيشه الآن  وصنع من الأفراد مجرد معلبات محفوظة افتقدت السمو الروحي فيما بينها، صور تتشابك ثم تتلاشى ماحية ملامح الذات وتكسر التواصل الداخلي بين البشر.
عرض «الجانب الآخر من الحديقة» والذي قدم بمسابقة العروض المصورة بمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريب بالدورة السابعة والعشرين، قدمته فرقة «كون» المسرحية (سوريا – لبنان) من خلال مشروع إبداعي في ستوديو المسرح الوطني والونيا – بروكسو. العرض سينوغرافيا وإخراج: أسامة حلال، دراماتورج: علاء الدين العالم وهشام حميدان تصميم وتنفيذ الدمى والأقنعة والإكسسوار: ناتاشا بيلوفا - لوييك نيبرادا، موسيقا: سينغيو بانايا أزياء: نيكول.
القصة الأصلية المأخوذ عنها العرض هي “قصة أم” لكاتب قصص الأطفال الدانماركي الشهير هانز كريستيان أندرسن (1805م- 1875م) والذي قدم العديد من القصص الجميلة للأطفال والتي جاء على رأسها قصص الحوريات والتي اشتهر بها ولاقت رواجاً وقبولاً رائعاً بين الأطفال. وهو تمنح سنويا جائزة باسمه للتميز في الكتابة والرسم للطفل. وقد شاعت حكاياته الخيالية في العلم و ترجمت إلى لغات عدة و بسطت للأطفال. و في كثير من الأحيان، لم يعد يسهل التمييز بين الحكايات الخرافية الشعبية الإسكندنافية و بين الحكايات التي ألفها أندرسن. ومن أشهر حكاياته «ملكة الثلج» و»الحذاء الأحمر».
تدور «قصة أم» حول شخص عجوز دخل إلى بيت أم، واختطف منها طفلها الذي كان يحتضر وولى هارباً بسرعة الرياح. كانت صدمة الأم رهيبة بسبب أن هذا العجوز لم يكن إلا الموت نفسه متنكراً بهيئة رجل عجوز.
تقرر الأم مطاردة الموت من أجل عودة الطفل الصغير للمنزل، تواجه الأم عدة عقبات. تاهت في وسط الطريق. في طريقها تجد الأم امرأة متشحة بالسواد – لم يكن سوى الليل – تعرف الطريق الذي سلكه الموت.. يرفض الليل البوح بمكان الطريق الذي سلكه الموت حتى تغني الأم كل الأغاني التي أنشدتها للطفل الصغير وهو في المهد.
تواصل الأم السير في خطى الموت بعد معرفة الطريق من قبل الليل، وتصدم مرة أخرى بعقبة مفترق الطرق. كان هناك هذه المرة شجرة شوكية تعرف الطريق الذي سلكه الموت، ولكنها تريد أن تضمها الأم وتدفئها، فهي حسب قولها ميتة من البرد وتحس بالتجمد. لم تتردد الأم لحظة واحدة، فضمت الأم الشجرة الشوكية إلى صدرها حتى انغرست أشواك الشجر وسط جسدها. تحولت أشواك الشجرة إلى أغصان خضراء، وأزهرت في الشتاء البارد. هذا ما يفعله قلب الأم الدافئ.
تستمر رحلة المطاردة وعقبة أخرى تقف في طريقها: إن هي أرادت الاستمرار في طريق الموت والطفل يجب عليها أن تتخطى بحيرة كبيرة، أن تسير عليها، وهذا مالا تقدر عليه، أو تشرب ماءها كله، كانت الأم تضحي بكل ما تملك في سبيل الطفل: بكت حتى سقطت عيناها في البحر لؤلؤتين نفيستين، قصت شعرها الأسود وأهدته لعجوز طاعنة في السن .. ويتفاجأ الموت أن أمامه الآن الأم. قطعت مسافات طويلة من أجل هذه النبتة المغروسة في حديقة الموت: طفلها. كيف استطاعت أن تصل إلى مكان الموت قبل الموت نفسه، صاحب الحديقة؟ كان جوابها بكلمة واحدة: أنا أم. 
العرض المسرحي «الجانب الآخر من الحديقة»، بدأ من حيث انتهت القصة في حديقة الموت. الابن على هيئة ملاك يطلب من والدته ألا تبكي. هنا بدو أمامنا التناقض في الحياة فالأم تتوسل إلى الموت ألا يأخذ منها ابنها، والفكرة أصلا غير قابلة للنقاش ولست أمرا مطروحا للرفض  والقبول، لكن المسألة تبدو كمن يحاول تقديم قربان من إنقاذ العزيز، رغم علمه أنه لافائدة لكن التعلق بالأمل للنهاية يدفه إلى ذلك.
اتخذ المخرج تيمة اللعب من خلال الصور الجامدة والتي أصبحت سمة العصر والتي تقولب فيها الإنسان وأفقدته الروح، فلم يعد إلا ذكريات أو صور متحركة نرى بعضنا البعض من خلالها، وانطلق من خلال تلك التيمة بمونولوجات فردية للممثلين باستدعاء الذاكرة نحو مناقشة الظروف الراهنة والأحداث مثل مناقشة الحرب والوضع الراهن في سوريا واحتلال أمريكا للعراق، الحرب العراقية الإيرانية، حرب العراق والكويت، توقيع إسرائيل معاهدة السلام مع مصر، قيام أمريكا بتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، وانتفاضة أطفال الحجارة وسيطرة هاني شاكر على سوق الكاسيت، في تداخل ما بينها وبين قصة الأم. لتوضيح معاني التضحية والفداء من أجل الكرامة التي يرى أنها تبعثرت وانهارت في عصرنا الحديث نتيجة تلك الصور المتكررة التي تعرض بشكل مستمر منتهكة حرمة الموت والشهداء الذين يتساقطون في الحرب موضحا دور الصورة والإعلام في نزع الكرامة.
حاول العرض توضيح مدى الآلام والحزن الذي يعيشه على الشعب السوري والأوضاع المتردية من خلال القناع الذي يعبر عن تلك الأم المكلومة ذلك القناع الجامد الذي توقف عند تعبير البؤس والشقاء والحزن، مبرزا بكاء تحجر وتحجرت فيه الدموع، تلك الأم هي الوطن الذي يبحث عن حياة أبناء وحريتهم وعزتهم، مضحية بعينيها التي ينبت مكانها عيون أخرة كثيرة، مضحية بجسدها تتركه للشجرة تنخر فيه بأشواكها حتى تخضر الحياة وتعود إلى طبيعتها، مضحية بشعرها من أجل المعرفة والوصول إلى الابن المفقود. وجاء استخدام القناع معبرا عن تغير الحقيقة وزرع الأمل لتغير القناع من حالة إلى أخرى حتى يستقر إلى الأمل والحياة، فالقناع لا يخفي واقعا لكنه يحث على تغييره.
اعتمد المخرج في تصميم الملابس على سيطرة اللون الأبيض ضاربا عصفورين بحجر واحد فهو لون الكفن فيرتدى جميع المؤديين أكفانهم فهم بين الحياة والموت في حياة برزخية، فتلك حي الحياة الحقيقية التي يعيشونها في ظل  الحروب والمآسي التي يشهدها الوطن، كما أنه لون السلام الذي ينبع منه التفاؤل نحو الوجود والحرية بعد زوال الغيوم. وقد استغل المخرج ذلك في سينوغرافيا العرض بإضاءة خاصة شكلت تعبيرا سينوغرافيا مع الدراما الحركية المعبرة الراقصة توازيا مع الطقوس الحركية. حتى تأتي النهاية التي يقوم فيها الممثلون بمحاولة استرداد الابن قبل أن يقوموا برمي صور بالأسود والأبيض وخلع أزيائهم ضمن دوامة حركية درامية.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏