في مسرحية «وجوه».. الشياطين ترقص والأقنعة تتمزق

في مسرحية «وجوه».. الشياطين ترقص والأقنعة تتمزق

العدد 654 صدر بتاريخ 9مارس2020

تأتى مسرحية وجوه كقطعة فنية مدهشة، تمثل حالة إبداعية مغايرة، تحمل بصمات مصرية عربية تبلورت عبر رؤى المخرج الليبي شرح البال عبد الهادي، والمؤلف الليبي أيضا فتحي القابسي، وفريق التمثيل من نجوم مصر وشبابها الواعد، وهي من إنتاج فرقة ناصر عبد الحفيظ المسرحية المستقلة، وتعرض حاليا على مسرح نقابة الصحفيين، وقد حظي العرض برعاية وزارة الثقافة بالتعاون مع صندوق التنمية، ليقوم بجولة محلية في مصر.
ترتكز مسرحية وجوه على سيناريو يضم مجموعة من المشاهد المتوالية، نسج منها المؤلف عرضا يمتلك شرعية وجوده الدرامي، حيث الفعل والتصاعد والتدفق والكشف الثائر عن مراوغات الحقيقة المفزعة، وتظل الرؤى تنساب - -، تتقارب وتتباعد وتتعانق لتبدو كلوحة سيريالية، يختلط فيها الذاتي مع الموضوعي والخاص مع العام، وتنشطر فيها الأعماق، لتتحول إلى شظايا ونبضات، وعبر سحر الأفكار وجموحها المثير تأخذنا الحالة المسرحية إلى اشتباك شديد التكثيف والدلالة مع وقائع حاضرنا العنيد، حين تتضح أبعاده وأعماقه وترقص شياطينه، لتصبح اللحظات الفاصلة في تاريخ وجود الإنسان، مسارا للجدل بين الفلسفة والتاريخ والسياسة والاقتصاد، خلال مسارات السقوط والصعود والردة والانكسار .
كتب المؤلف فتحي القابسي نصا إنسانيا حديثا، يذكرنا بفلسفة بيكاسو حين رسم وجوها تعددت فيها العيون والأفواه والأنوف، ليطرح رؤيته لمعنى الزيف والتناقضات، ويبحث عن الحقيقة المراوغة، عبر كتابة بلا مركز يميزها التنوع والثراء، ارتبطت بفكرة سقوط المرجعيات المعرفية والاجتماعية، حيث لم يعد للعمل الفني بمفهومه الحديث بؤرة محددة ينطلق منها، لكنه ينمو ويتشكل عبر اختلاف الرؤى وتعدد الأنماط، فالمسرح الآن يشهد تحولا جذريا ينتزعه بقوة من سلطة المطلق والمجرد والواقع والمحاكاة، ليندفع إلي خصوصية الذات، وإيقاعات الحس والمشاعر، وذلك في سياق تتكسر فيه مفاهيم التتابع الزمني للحكاية والحوار والحدث، حيث تغيب الأطر والمرجعيات وينتفي مبدأ الوحدة العضوية، لنصبح أمام جماليات شرسة مغايرة يبعثها تفجير المعاني الأحادية للمشهد وتحويلها إلى موجات من التكوينات المشاغبة بصريا وفكريا ودلاليا، ورغم أن البناء الدرامي في تجربة وجوه قد تبلور عبر صيغة المونودراما ، التي ترتكز فلسفتها على الرومانسية والعزلة والنزعة الفردية، إلا أن أسلوب الكتابة قد كسر هذه المفاهيم واخترق حدودها الساكنة، ليضعنا أمام موجات الواقعية الصادمة، التي تكشف عن بشاعة الحقيقة واستلاب الإنسان في زمن القهر والتسلط والغياب.
اتجه منظور رؤية المخرج شرح البال عبد الهادي إلي ثورة جمالية صاخبة تعلن العصيان على الردة والتسلط، تدين الرضوخ وتبحث عن المعنى والهدف وتتجه إلى المستقبل لتحتفل بالحياة وإرادة الإنسان، وفي هذا الإطار لم تكن الوجوه التي رأيناها، هي وجوه تقليدية معتادة، فقد كسر المخرج كل قيود القهر، ليواجهنا بتجربته التي تعددت فيها الصور واللقطات والأفكار، حين تراكمت بأسلوب جدلي في فضاء رحب شهد أسلوبا أدائيا مختلفا ابتعد عن مفاهيم الإيهام والتوحد وعن لمحات الجدية والحس المأساوي، واتجه إلي الرؤى العكسية المشحونة بلغة المفارقة الساخنة والسخرية المتهكمة والجروتسك الشرس .
تدور الأحداث في إطار عبثي وجودي غائم، الفراغ يسيطر على خشبة المسرح و والمشاعر الضبابية تعانق عذابات الإنسان أمام فراغ الكون الهائل، الخلفية البيضاء القصيرة تشاغب نظيرتها السوداء في العمق، ليشتبكا مع الأحلام المراوغة التي تسكن أعماق بطل العرض، الشاب الباحث عن الحياة في وجود مختنق، يحيلنا ببساطة إلي وقائع وجودنا المأزوم في الوطن العربي، وفي كل أوطان الدنيا التي تجاوزت أحلام الإنسان، وفي هذا السياق نصبح أمام تشكيل جمالي افتراضي مسكون بالوعي والحركة والانطلاق، ويظل همس الأشباح وجنونها هو صورة لوجود كابوسي، غابت فيه الحدود الفاصلة بين الواقع والأوهام .
تتضافر الموسيقى الساحرة مع خطوط الحركة ولغة الجسد، وتتفجر موجات العذاب عبر مفارقة الحياة والموت، حين يصبح الوجود عدما والإنسان وهما، الملابس البيضاء الطويلة تروي عن الأحزان والأكفان، والماسكات المخيفة تواجهنا ببرودة القسوة ووحشية المعنى وانتفاء الدلالات، وتظل إيقاعات الصخب المجنون التي تبعثها لغة الأجساد الساكنة على اليمين واليسار، باعثة لتيارات أحزان الإنسان الذي افتقد الحب والدفء وتواصل العلاقات، وفي هذا السياق تحول بطل العرض الفنان المتميز ناصر عبد الحفيظ إلى كيان ناري يموج بالحب وإرادة البحث عن الوجود، التفاصيل المخيفة تواجهه ببشاعة الحقيقة و والفراغ النفسي يكاد يدفعه إلى هاوية الجنون، تلك الحالة التي يلمسها المتلقي عبر الصياغة الجمالية للشخصية من حيث الأداء والملابس والحركة ولغة الجسد والأطر السياسية والاجتماعية التي تفتح كتاب الفقر والقهر والبطالة، لنلمس قسوة جرائم اغتيال النبض وتكريس الزيف والتردي، وفي هذا السياق استطاعت لغة الإخراج الرشيقة أن تمنحنا شعورا صاخبا بحرارة الحالة المسرحية وتدفقها المثير، رغم غياب الحوارات التقليدية، والارتكاز بشكل أساسي على المونولوجات .
حين تحدث الشاب عن اغترابه وعذابه، دفعته خطوط الحركة إلي الأجساد الواقفة على اليمين واليسار، يسألها عن الدفء وعن حضن أمه وحنانها، لكنها تتباعد بقوة لتكشف عن بشاعة مستحيلة، تدفع بالشاب إلى أعماق القهر والعذاب، فالتواصل مستحيل والنداءات تائهة والعلاقات المبتورة هي المسار إلي دوامات الليل والدخان والغياب، وتظل مفارقات العذاب تتشكل عبر الحركة والضوء والموسيقى، حيث يعود الشاب إلى الكيانات المتسلطة، يحدثها عن البرد والجوع والطلاء والوجوه، ويأتي الرد البليغ عبر المؤثرات الصوتية المبهرة، التي اختلط فيها البرق بالرعد بالمطر، واهتزت أركان الطبيعة أمام الذين حاولوا البوح بأن الفقر يقتلهم والجوع يعذبهم، وهكذا يتحول الغضب إلي استعارة درامية دفعت بالصامتين إلى الرقص الذي تضافر مع الضوء والموسيقى والحركة اللاهثة، وظل الفتى وحيدا يجلس أمامنا في مقدمة المسرح يعانق وجوها تطارده على الحوائط - -، يدخن بشراهة ويسعل بجنون، لكن أحلامه لا تزال تمنحه سحر التواصل مع الحياة .
يغنى الشاب صاحب الصوت الجميل ويستغرق في كلمات الحب الناعمة، الأجساد الصامتة تتحول إلي كورس شديد الاحتراف، يغني نفس الكلمات ونعايش بريق الأحلام المبتورة حين فكر الشاب في احتراف الغناء ليعبر عن ذاته ويقاوم عذابات الحضيض، وتأخذنا رشاقة الكتابة والحركة وسرعة التقطيع وحرارة الإيقاع، تأخذنا إلي الصدمة القاسية، حين انهارت الأحلام وامتدت الانكسارات، وطلبوا من الشاب أن يغني في جردل الدهانات، فالزمن الحالي لا يعرف إلا الأصوات الشاذة والكلمات الرخيصة الهابطة بعد أن صدر قرار بموت الجمال والشعر والأحلام .
يتضافر الأداء الحركي والصوتي والجسدي لبطل العرض وفريق العمل ونعايش إدانة جمالية رفيعة المستوى لمفاهيم التسلط واستلاب الوعي، ويلمس المتلقي أبعاد موهبة ناصر عبد الحفيظ وإدراكه الحاد لطبيعة الشخصية والحالة المسرحية ، التي تموج بإيقاعات الغياب والخيانة وحتمية التغيير، وتقترب النهاية التي تبلورت عبر صياغة مغايرة مسكونة بالدهشة وقوة الإيحاء، حيث تتحرك الأجساد الشبحية وهي لا تزال ترتدي الأقنعة، تدفعها خطوط الحركة إلي تكوين فرقة موسيقية، يلعبون على الكمنجات والوتريات الوهمية ، لتخترق الأصوات الجميلة قلوب وعقول الجمهور،بينما نرى الفتى الشاب يلعب دور المايسترو ليقود الفرقة، ويرسم أبعاد استعارة بليغة تؤمن بالحرية والمستقبل .
نجم هذه التجربة هو الفنان الجميل ناصر عبد الحفيظ صاحب طاقات الوهج والموهبة والحضور، بعث حالة من التواصل المدهش مع الجمهور، وقد شاركه مجموعة من الشباب ا لواعد ، محمد عاشور، ياسمين صادق، هنادي المليجي، مصطفى صادق، يارا حامد، ميار الدالي، عبد الرحمن حمدي، وشادي عبد الغني
كان الديكور والعرائس والماسكات لمحمد فوزي بكار، والموسيقى لأمير العراقي، وكان تصميم وإخراج الاستعراضات لهدير حلمي.


وفاء كمالو