«عنف».. ثورة فوق ثورة

 «عنف».. ثورة فوق ثورة

العدد 580 صدر بتاريخ 8أكتوبر2018

قد تكون الرؤية ضبابية ومعتمة، وعندما نظن أننا وجدنا طريق الخلاص نكتشف أننا بدأنا في طريق ليس له نهاية، حينها تتعقد الأمور أمامنا وتصبح أكثر بعدا عن الإنسانية والعدالة، ذلك هو حالنا مع ثورات الربيع العربي التي انطلق دويها من «تونس»، حيث أصبحت نقطة تحول في تاريخنا الحديث ومقدمة لكل المصائب والكوارث التي قد تؤرق النائم بكوابيس مرعبة عن واقع يخشى من تحققه، لقد تحولت الثورات من ملاذ يلجأ إليه الشعب للخلاص من الظلم والمهانة، إلى سجن لا يمكن الخروج منه.
هذا ما أكد عليه العرض المسرحي التونسي «عنف» حيث حاول رصد التغيرات العنيفة التي لاقاها المجتمع التونسي وما زال يعاني منها جراء حالة الفوضى والانفلات الأمني في تونس منذ الثورة التي قام بها الشعب ضد الرئيس السابق «زين العابدين بن علي»، والتي خلفت الكثير من الفوضى في المجتمع والاقتصاد وما يتبع ذلك كله من كوارث حقيقية.
يتوقف العرض التونسي أمام العنف الذي أصبح بالمجتمع يدور في دائرة مغلقة ولا يسلم منه أحد، كل يمارس العنف ضد غيره إذا استطاع لذلك سبيلا، وبلا تردد، ولا حدود يقف أمامها حتى الجرائم القتل بطرق عنيفة، وما يتلوها من أساليب تحقيق عنيفة وضرب وسباب، فلا رحمة ولا شفقة، وتغيب الإنسانية في أكثر الأوقات احتياجا لها.
اعتمد العرض للتأكيد على أطروحته على إضاءة كانت في أغلب الوقت خافته ومظلمة، ينثر الممثلون التراب عن الحواجز الإنسانية بينهم من على حاجز زجاجي يضعونه بينهم مماثلا للحواجز التي يتم وضعها في السجون بغرف زيارة المساجين، قد تفقد عقلك من كثرة الضرب والسباب والتأوه الذي يحدث على المسرح، ولكن ذلك كان انعكاسا لطبيعة الأحوال في تونس، طالت هذه الجرائم من طالته ولا خلاف على ذلك، ولكن هل انتشار العنف هو الحل للقضاء على البطالة وارتفاع الأسعار وزيادة معدلات الجريمة؟
قد يتفق البعض على أن الثورة التونسية هي الأنجح بين ثورات الربيع العربي مقارنة بليبيا وسوريا، ولكن في جميع الأحوال كانت الأجيال التي عاشت ما خلفته الثورات هي الأكثر تضررا على كل المستويات، حيث أظهر العرض الكثير من الاضطرابات على المستوى النفسي لأغلب الشخصيات، ومنهم الطلبة الذين اتهموا بقتل معلمتهم، وفي التحقيقات يتبين أن القتل كان لسبب الكرامة، أزمة التعالي على الطلبة بسبب المنصب - أو العلم - وبالتالي احتقارهم الذي يصل الأمر إلى السب أو الضرب، وهو ما يتم تقبله بصدر رحب في المجتمعات الشرقية والعربية خصوصا، كان هذا هو سبب قتل المعلمة، فهل هي جريمة أم ثورة على الموروثات القديمة غير الإنسانية؟
وبالطبع لم يخلو هذا السجن من الممارسات الممنوعة مثل الضرب والشتم والتحرش، وظهر أيضا عدم الاهتمام بالمسجونين وذلك من مظهرهم وملابسهم المهترئة والممزقة، وشعورهم غير المرتبة.
كذلك قدم العرض لواحدة من الجرائم الغريبة والمضادة للفطرة التي تشير إلى خلل في صميم المجتمع وعلاقاته، وهي جريمة قتل أم لابنها بطريقة وحشية جدا، ولكن بعد قليل من التحقيقات مع الجيران تتكشف لنا الحقيقة وهي أن هذا الابن هو متحرش بجيرانه وفرط في شرف أمه وبلطجي وكان يضرب أمه العجوز ويشتمها، وهذه من الجرائم المرعبة وظهورها هو ناقوس خطر يدوي للإنذار بمخاطر الإهمال المجتمعي للأخطاء والسلوكيات الشاذة وعدم التعامل معها بشكل سليم.
كان أداء الممثلين في بداية العرض يعتمد على الصمت ولغة الجسد خصوصا العين، ولكن بالتدريج أصبح يعتمد على اللغة المنطوقة العنيفة حيث اعتمد ألفاظا قاسية وعنيفة، ونبرات صوت فيها حدة، أو الاستنجاد بشخص آخر وتألم، وكان الضرب حقيقيا، بالتأكيد فإن مثل ذلك الإلحاح على تجسيد العنف اللغوي والجسدي يستهدف انزعاج المتلقي مما يحدث أمامه في حين أنه لا يستطيع فعل شيء، فأنت «متفرج»، كما يشاهد العالم الكثير من الجرائم دون فعل شيء، فليس ذلك في تونس فقط.
فهل تسليط الضوء على تلك القضايا ثم معرفة أسبابها هي رسالة مضمونها أن العنف الراهن هو بسبب آليات تعامل خاطئة مع الجناة؟ أم أنها لتنذر بشدة العنف الواقع على جيراننا في تونس؟
لم يكن هناك ديكور بالمعنى التقليدي، فقط مستطيلان أسودان يفصل بينهما ممر وطاولة وبعض الكراسي، بينما اتجهت الموسيقى (قيس رستم) دائما إلى التأكييد على حالة توتر وتدل على مشكلة أو خطر قادم، أما الإضاءة فكانت خافتة جدا لدرجة صعوبة تمييز ملامح الممثلين.
قد يكون السؤال الذي يخرج به المتلقي من عرض “عنف” لفاضل الجعايبي، هو: هل بعد سبع سنوات من ثورة «الياسمين» هل تزال الإجابة تونس؟


مهجة البدري