الثامنة مساء يبرز جحيم التعايش مع الآخرين

الثامنة مساء يبرز جحيم التعايش مع الآخرين

العدد 574 صدر بتاريخ 27أغسطس2018

الانتقام، الحقد، الكراهية، رفض الآخر والثأر، هل يمكن أن يجتمع كل ذلك في مكان واحد بين مجموعة أشخاص تحت سقف واحد يفترض أن علاقاتهم لا بد أن تبنى على الود والحب والتآلف والمعاشرة والتعاون؟ هذا ما ينفيه المخرج هشام علي وأبطال عرض “الثامنة مساء” الذي يعرض بقاعة عبد الغفار عودة بمسرح الغد، فنرى علاقات هشة لم يستطع الكره أن ينسج منها حياة مستقرة أو أن يحقق نوعا بسيطا من السعادة أو راحة البال لأطرافه المتعايشة سويا.
إن بناء مثل هذه العلاقات المفككة يشبه بناء بيت من الرمال قد يطير مع الرياح أو تبتلعه المياه أو قد يسوى بالأرض بقدم عابرة أو طفل عابث يدهسه، ومن هنا اختار المخرج فكرة تقديم الرسم بالرمال أمام المتفرج لتكون معادلا موضوعيا يبرز الفكرة التي يقوم عليها هذا النص. والنص هنا للكاتبة ياسمين فرج عرابي لا يعتمد على الفكر الأرسطي بتقديم بداية ووسط وتصعيد وذروة ثم نهاية إما سعيدة أو تراجيدية، لكنه اعتمد على فكرة الاسترجاع المتوثب ليقدم لنا معلومات عن أبطال العرض والأحداث السابقة التي يقدمها لنا لاحقا، فكل فترة يضعنا أمام معلومة لم نعرفها منذ البداية، مما يجعل المتفرج يعيش حدثا مجهولا يحاول من خلاله التفكير ومحاولة حل اللغز أو المعادلة التي يطرحها النص.
فنحن أمام أربعة أطراف مجسدة وخامسهم الشيطان، بمعنى أدق شيطان الانتقام والكره، (قاسم بك) الزوج القاسي الفعل غليظ القلب واللسان، كان لنشأته القاسية ومرضه في الصغر وتنازل أبوه عن ثروته لأعمامه ثم وفاة أبيه وقسوة الحياة معه عوامل رئيسية في تكوين تلك الشخصية التي عملت على الحصول على كل شيء بالقوة والاغتصاب ولو بدون وجه حق ثم جاءت حادثة سقوطه من فوق ظهر الحصان التي أدت إلى عجزه وتقييده بكرسي متحرك، مكملة لتلك العوامل. وباقي الأطراف زوجتان ترغبان في التخلص منه، كل منهما بطريقة مختلفة، ثم الطرف الرابع (صابر) أخو الزوجة الثانية الشابة الذي يساعدها في التخلص من الزوج ولكنه في نفس الوقت يعمل عنده وهو مصدر الثقة الوحيد بالنسبة للزوج، فيستغل الرجل هذه الثقة لقتل الزوج، وتعود رغبة القتل والانتقام لحدث قديم فلديهما قناعة بأن (قاسم بك) تسبب في موت أبيهما لأنه استولى على أمواله، وهما صغيران فتولدت لديهما رغبة الانتقام حتى كبرا فخططا من أجل الوصول إليه عن طريقين الأول زواج الفتاة منه لتصبح داخل عقر داره والثانية عمل الشاب لديه حتى يكتسب ثقته، تعمل الزوجة الشابة التي ادعت أنها عرجاء على التخلص منه بالقتل البطيء بمحاولة دفعه للجنون تدريجيا حيث تصنع في خياله أوهاما عن جنية تعشقه، أما الزوجة الكبرى (عائشة) فتعمل على الخلاص منه بإتاحة الفرصة لحسنة وتمهيد السبيل لها دون أن تخبرها بذلك، رغم أنها تعيش على ذكريات عاطفته وأحضانه الدافئة قبل حادث عجزه، وتعيش حالة من الكبت والشبق والحرمان والشوق للرغبة، أما (صابر) فيقدم المساعدة المعنوية والمساعدة من بعيد لكنه مع مرور السنوات بدأت مشاعر الانتقام لديه تصغر حتى تتلاشى.
يبدو من البداية قاسم بك ينتظر موعد وفاته يوميا في الثامنة مساء وقد علقت الساعة في أعلى عمق المسرح مثبتة العقارب على ذلك الموعد، ويطلب قاسم من صابر أن يمر عليه يوميا لمتابعته إذا جاءه الأجل، أما (حسنة) الزوجة الشابة فتستعرض في بداية العرض رقصة غربية بملابس صاخبة تظهر لنا ملامح تلك الجنية الوهمية التي تصنعها في خيال قاسم، ثم تبدل ملابسها في ثوان قليلة إلى جلباب امرأة صعيدية، حيث تتصاعد معها طوال العرض رغبة الانتقام، حيث نعرف أيضا أنها تزوجت قاسم بحيلة ماكرة بطريق إشفاقه عليها، أما الزوجة الأولى (عائشة) فهي تلك التي تخطط في الخفاء وتحيط بكل ما حولها علما وتحاول الوصول إلى غرضها بالتخلص من قاسم دون أن يكون لها يد مباشرة في ذلك حيث تمهد الطريق لحسنة بمكر دون أن تشعرها بذلك، لكن المرأتين غاية في الدهاء وكل منهما على علم بما تفعله الأخرى، ثم يدفعنا المخرج نحو إنهاء حالة العرض دون طرح نهاية واقعية أو تقليدية حيث يحاول أن يشرك المتلقي في اختيار حول هل يستحق قاسم بك الحياة أم الموت؟
تخلل العرض ظهور متعدد لمعلق على الأحداث بأبيات شعرية تشير بشكل عام إلى أفكار عامة تدور حولها المواقف الدرامية دون ذكر للأحداث، يصحبها شاشة فيديو خلفية تذيع رسما بالرمال، حيث لم يكن كل منهما في موضعه، فجاءت الأشعار كجسم غريب يكسر الاندماج في العرض دون داع، رغم جودة الأبيات ومعانيها العميقة وإحساسها الرائع، فالأشعار بلهجة عامية ملقاة من شخص يرتدي ملابس حضرية، بينما أحداث العرض جاءت بلهجة صعيدية توحي بحدوثها في الصعيد، أما الرسم بالرمال فرغم ما سبق وأن ذكرناه عن كونه معادلا موضوعيا لهشاشة العلاقات داخل المنزل إلا أن تنفيذه كان ضعيفا بتلك الشاشة البعيدة في أعلى يسار المسرح فلم تصنع جديدا أو شيئا مبهرا أو مثيرا لخيال المتلقي، بل كانت مثل الأشعار كجسم غريب بين أحداث العرض. وكان من الأفضل أن تكون هذه الفكرة حية بالرسم المباشر أمام الجمهور، أو اختيار موضع آخر في قاعة العرض أكثر مناسبة للشاشة مع حجم أكبر لها يحقق لمتلقي اندماجا أقوى وتأثيرا أكبر، على أن تكون بيد أحد أبطال العرض كي لا تفصل المتلقي عن تعايشه مع الدراما.
جاء التناول الدرامي مشتتا مزدحما بالتفاصيل التي تحاول تبرير كل فعل أو موقف دون ترتيب أو تصعيد ممنهج وكأن الكاتبة تضع المواقف بشكل عشوائي كلما تذكرت شيئا دونته، حيث تم طرح كمية كبيرة من المعلومات للمتلقي من خلال استرجاع الشخصيات لمواقف قديمة طوال العرض بشكل مشتت، مما كان له أثر سلبي بإصابة بعض المناطق بالتطويل والملل، وبالتالي لم يكن هناك تصعيدا دراميا قويا يصل بنا للنهاية بشكل منطقي لأن معظم الأحداث المهمة عبارة عن فلاش باك، فجاءت النهاية بشكل مفاجئ وكأن الكاتبة قررت أن هذا يكفي ولا بد أن أغلق الورق الآن.
أما الديكور الذي صممته مي زهدي فقد امتزجت فيه الواقعية بالتعبيرية فاتخذ مساحات كبيرة على جانبي القاعة محاولا ادماج الجمهور داخل مساحة العرض لكن الرؤية البصرية ظلت حبيسة العلبة الإيطالية رغم تعدد دخول وخروج (صابر) من الصالة وكذلك الشاعر المعلق على الأحداث، والديكور عبارة عن بانوهات حائطية ازدحمت بتفاصيل تشكيلية كثيرة ما بين لوحات مرسومة منها ما يعبر عن النوازع النفسية للمرأة والقهر والظلم الذي تعيشه معبرا عن حال ابطال المسرحية، ولوحة أخرى تحوي قلعة متطرفة فوق ربوة عالية تعبر عن العزلة والتباعد الذي يعشه قاسم بك في برج عالي داخل نفسه بعيدا عن كل البشر، ولوحة أخرى تعبر عن الخواء الداخلي للشخصيات، وتشمل الحوائط أيضا عدة أبواب ومداخل وشبابيك، منها ما هو واقعي وما هو تعبيري غير منتظم المقاييس لإظهار حالة عدم التوازن النفسي بين الشخصيات، ويبدو وكأنه قديم جدا ومتهالك يعكس لنا تهالك العلاقات الدرامية بين شخصيات العمل، كما تظهر جدران البيت أنها بنيت من أحجار قديمة لبنة آيلة للسقوط في أية لحظة، حتى تأتي لحظات النهاية فتقوم (عائشة) بهدم تلك الجدران بنفسها بمجرد لمسها للدلالة على ضعف التواصل والبناء الأسري بين أهل البيت وهشاشة العلاقات بينهم. كما تناثرت بعض قطع الإكسسوار والأثاث الواقعية مثل مقعد ومنضدة وفرن بلدي وزهرية ومشنة ومكتبة متهالكة خاوية إلا من بعض كتب قليلة متربة لا استعمال لها، مما يضعنا في بيئة شديدة الخصوصية ليس للفكر والتحضر مكان فيها، بل بيئة تعمل فقط على غلبة قوة المشاعر والعاطفة التي تقودها الغرائز وهي هنا غرائز الشر والحقد، وقد تخللت بانوهات الديكور فتحات ومنافذ منها ما يبدو بشكل لمشربية أو بشكل سجن أو مداخل ومخارج متعددة نافذة لبعضها البعض، لكنها جميعا تؤدي بنا لجو التجسس والشك والمراقبة بين جميع الشخصيات وبعضهم البعض نظرا لسيطرة أفكار الانتقام والعداء بين الجميع. وقد سيطرت على الديكور الألوان الداكنة مثل البني والأسود والأزرق بمختلف درجاتها مما يضاعف من حالة الاكتئاب والظلمة التي تحيا داخل المنزل، لكن الديكور عموما رغم تناسبه وجودته إلا أنه كان بحاجة لتقليل كل هذا التزاحم التشكيلي كما كان بحاجة لوضعية أكثر دمجا للمشاهد داخل جدران البيت ورؤية إخراجية تكسر الشكل الكلاسيكي للمشاهدة باستغلال أنسب لإمكانيات قاعة الغد الديناميكية.
أما الملابس فكانت شديدة الواقعية ومناسبة لكل الشخصيات واستجد فيها فكرة ميكانيزم التغيير السريع لملابس )حسنة) بين زي الجنية الصارخ والزي الصعيدي مما يحسب لمصممة الأزياء نورهان سمير. وكانت المؤثرات الصوتية والموسيقى لجو حنا إضافة جيدة لعناصر العرض كما استطاعت الإضاءة البسيطة شديدة التأثير دون افتعال أن توحي بالجو العام المتوافق مع خصوصية الحدث والفكرة وساعدت على تكثيف التعايش والاندماج للمتفرج في الحدث.
وقد قام المخرج بتوزيع خطوط الحركة بتناسق بين معطيات المسرح وقطع الديكور، لكن انحسار شخصية قاسم بك في كرسي متحرك طوال العرض قد فرض محدودية وتكرار في توزيعات الحركة لديه، فالعجز لديه لم يكن عجزا جسديا وإنما هو عجز داخلي عن التواصل مع المن حوله ومع العالم مما جعله يقيم حاجزا منيعا بينه وبين باقي البشر حتى أقرب الناس إليه الذين يساعدونه في قضاء احتياجاته الشخصية.
تميزت وفاء الحكيم ذات الحضور القوي والنضوج الفني في دور (عائشة) الزوجة الأولى التي عاشت مع قاسم بك خمس سنوات في تبادل وشجن عاطفي معه قبل عجزه ومما جعلها تحيا على ذكريات تلك الفترة لكنها تحمل له بداخلها كما من الكره والانتقام لتصرفاته وسلوكه العنيف معها، فكان عليها التعبير عن هذا التواتر في الشخصية والانقسام الداخلي واستطاعت بالماكياج الداخلي لها كممثلة وبخبرتها أن تؤثر في المتفرج وتقنعه بكل أحاسيسها ومشاعرها وتنوع الأداء من موقف لآخر، بين الغضب والكره والمكر والسعادة الزائفة والشبق والرغبة والحرمان، كما أظهرت ببراعة لحظات الدهاء والترقب لدرتها (حسنة) ومحاولة السيطرة عليها ومعاونتها لقتل (قاسم) دون أن يكون لها يد مباشرة، كما كان لها فاصل من الرقص الشرقي لقاسم بك أضفت على الشخصية الحيوية والنشاط بالإضافة لتناقض ما يبدو عليها من كآبة وسوداوية تعيشها مرغمة مع زوج بغيض مختل نفسيا. أما لمياء كرم فقد أجادت دور النقيض لها شخصية الفتاة الصغيرة التي تحمل بداخلها كما كبيرا من الحقد والكراهية لكنها تعبر عن فتاة شابة حالمة اضطرتها الظروف والأحداث للتخلي عن براءتها وشبابها من أجل تحقيق غريزة الثأر، حيث أظهرت قدراتها في التلوين من شخصية الزوجة التي تدعي أنها عرجاء وبها قدر من البلاهة إلى تلك المحملة بالشر والخبث والثالثة الجنية المزعومة التي ترقص وتلاعب قاسم بك، فتدرج أداءها بين اختلاف طبقات الصوت وتمازج الإحساس، تنوع تعبيرات الوجه بينهم واختلاف مستويات الأداء الصوتي صعودا وهبوطا مكرا وخبثا ودهاء ودلالا واستكانة واصرارا وكرها، شخصية محملة بكل الانفعالات تمكنت من الإمساك بكل خيوطها ببراعة. أما نائل علي (صابر) فكان الدور مناسب له تماما حيث تمتع برصانة الأداء والحفاظ على مستوى ثبات الشخصية في كل مواقفها، وأجاد تشخيص كل انفعالاتها دون افتعال، ذلك المنتقم الذي أعماه الانتقام وأدى به للتخطيط للثأر بدهاء، لكنه هدأت لديه تلك الرغبة بالتدريج بمرور الوقت وتنامي شعور داخلي لديه بخيانة (قاسم) حتى لو كان هو قاتل أبيه، بالإضافة لرؤيته لقاسم وهو يتعذب بل ويموت ببطء، ولكن صابر لم يشارك المرأتين في النهاية في التخلص من (قاسم)، فكان أداء نائل على ينم عن نضج فني ووعي تام بأبعاد الشخصية وكل خيوطها منذ البداية وحتى نهايتها. أما (قاسم بك) محمد عبد العظيم فقد اختاره المخرج مناسبا للدور من حيث الشكل الذي توحي ملامحه الجامدة بالشخصية وسماتها بالإضافة لاكتمال مظاهر الشخصية بملابس الرجل الصعيدي القوي الشخصية، الذي لا يخرج منه إلا الشر والقسوة ولا يفارقه شرب الخمر دائما، ذلك الرجل المازوخي الذي يستمتع بتعذيب نفسه بانتظار الموت يوميا في تمام الثامنة مع علمه بالمؤامرة التي تدبر ضده من بدايتها بل ولا يعمل على إيقافها كنوع من أنواع تطهير النفس وتخليص الذنب تجاه الآخرين، لكن رغم أنه البطل الأول للعرض إلا أن أداءه كان محايدا دون انفعال أو إحساس بطبيعة الجملة المؤداة أو حرفية أداءها الدرامي وعلى الأخص في المونولوج الأخير له قبيل نهاية العرض والذي قام بتسميعه للجمهور. ويبقى المعلق على الأحداث أو الشاعر الذي يقطع المشاهد التمثيلية حيث كان إلقاؤه للشعر جيدا يحمل كثيرا من الإحساس والوعي بالأداء الشعري والإلقاء الأدائي لها.
وعموما وإن كنا أمام عرض جيد منضبط إلا أنه شابه بعض لحظات الملل والمونولوجات والسرد لشرح الماضي للمتفرج أو الوصف لبيان الحالة النفسية للمتحدث، وتفككه بمداخلات شعرية مجردة ورسم بالرمال لم تضف شيئا على مستوى التلقي، وإسهاب في استخدام قطع الديكور بلا داع رغم حسن تصميمه ودلالاته. افتقد النص للفكر وعمق الدلالة والطرح حيث لم ينطوي سوى على تقديم فقط فكرة الانتقام لدى جميع شخصياته، وهي فكرة ضعيفة غير كافية وغير مناسبة للمسرح حيث الأولى بها تقديمها في قصة قصيرة أو تمثيلية تلفزيونية أو إذاعية. كما قدمها المخرج كما هي دون رؤية فنية جديدة سوى رهانه على مباراة التمثيل بين ممثليه الذين توارى عنهم قليلا قاسم محور الأحداث.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏