عايدة فهمى.. «فريدة» المسرح

عايدة فهمى..  «فريدة» المسرح

العدد 732 صدر بتاريخ 6سبتمبر2021

لا يدرك الكثير من المبدعين أن البساطة فى حد ذاتها إبداع عالى المستوى، فيلجأون إلى استعراض عضلاتهم الفنية فى محاولة لجذب انتباه المتلقى، وقد يصل أحيانا لحصار المتلقى ذهنيا ووجدانيا لضمان وصول دلالات الحالة الفنية إليه وكأن المتلقى تلميذُ عليه أن يتلقى تفسيرات جاهزة لشفرات الحالة المسرحية أو كأنه فريسة يحاول المبدع حصارها وتقيد اتجاه حركتها فى اتجاه ما .
لكن حين يكون المبدع واثقاً فى قيمته وقامته الفنية وواثقا فى مصداقيته وواثقا فى ذكاء ووعى المتلقى تكون النتيجة عملاً فنياً أصيلاً يعرف أقصر الطرق وأبسطها إلى وجدان المتلقى .
“أغنية البجعة” هى أحد أهم أعمال الأديب الروسي العظيم “انطون تشيخوف” الذى يُعتبَر من أهم رواد المذهب الواقعى فى القصة القصيرة والمسرح، وجاء اسم المسرحية وفقا لأسطورة يونانية مفادها أن البجعة تغنى أجمل أغانيها قبل موتها مباشرة . 
إستند النص المسرحى «فريدة» لأكرم مصطفى على نص «أغنية البجعة» لتشيخوف محافظاً على الثيمة الرئيسية فيه لكن دون تقيد بتفاصيل حبكتها الدرامية، فأضاف إليه تفاصيلاً أخرى وحبكات جانبية فتحت آفاقا جديدة لقيمة النص الأصلى ووسعت من دائرة دلالاته الموضوعية . 
فالحدث الرئيسي المُفجِر للأزمة الدرامية هو تواجد ممثل كبير السن فى غرفة الملابس وتخزين الديكور بعد إنصراف أعضاء الفرقة فيجد نفسه وحيدا معه زجاجة الخمر فيشرب فتبدأ ذكرياته تتداعى فى خياله فيعيد أمجاده الفنية بتجسيد الشخصيات الدرامية التى مثلها على المسرح حينما كان نجما مشهورا . وهو الموقف/الحدث الدرامى الرئيسي الذى حافظ عليه أكرم مصطفى فى كتابة نص «فريدة».
لكن نص «فريدة» اختلف مع نص «أغنية البجعة» بداية من تحويل الشخصية الرئيسية من «ممثل» إلى «ممثلة» مما أكسبه بعدا خاصاً مضافاً بإمكانية الغوص فى العوالم الخاصة للمرأة وعلاقتها بالزمن وتقدم العمر مرورا بمراحلها العمرية المختلفة كأنثى مما أدخل النص فى سياقات موضوعية شديدة الاتساع وعميقة الخصوصية مضافة إلى النص الأصلي، فالتحول إلى شخصية أنثوية تعيش فى مجتمع شرقى يفتح الباب على مصراعيه لتشريح أليات القهر والحصار الاجتماعي لجسد المرأة وسحق روحها اجتماعياً .
وفى نهاية النص الاصلى مات الممثل «جسديا»، لكن نص «فريدة» ركز على معنى الموت المعنوى والروحى والنفسي بانسحابها (طردها) باكية متحسرة على ما آل إليه حالها بمرور الزمن فأسقط أزمة شخصية «فريدة» وشعورها بالموت المتكرر بمرور الزمن على حياة المتلقى شخصيا كلما مرَّ به العمر وليس فقط لحظة موته الجسدي مباشرة، وبتالى وجد المتلقى جسور اتصال نفسي بين شخصية فريدة وواقعه الحالى فالموت ليس فقط موت الجسد وإنما هو تآكل الروح تدريجيا بمرور الزمن، فالموت هو الموت وانت على قيد الحياة، وعليك كمتلقى ان تسأل نفسك على أى درجة من درجات سلم الموت تقف الآن ؟. 
فى النص الأصلى لتشيخوف ظل الممثل ينتظر المُخلِص (زميله الملقن بيكيتا) ليخرجه من حجرة الملابس لكن «فريدة» لم تنتظر أى مُخلِص ليخرجها من حالة أمجادها المسرحية، بل كانت ترفض الخروج من تلك الحالة وترفض محاولات صديقتها بإرسال من يخلصها من هذا الموقف، فهى تعتبر ان الحياة الحقيقية لها كانت فى الشخصيات التى تمثلها على المسرح فكل شخصية أدتها فى مشوارها الفنى هى جزء من روحها الحقيقية الصادقة وكل وجه مثلته كان يرسم جزءًا من وجهها الحقيقي، أما وجهها الذى تنظر إليه فى المرآة وتتعامل به مع الناس خارج المسرح ماهو إلا قناع كاذب تتوارى خلفه، فريدة توحدت مع المسرح وعاشت فيه وعاش فيها، فريدة كانت تحيا روحها الحقيقية على المسرح، فهى لاتحتاج إلى مُخلِص خارجى فهى تملك خلاصها ومُخلِصها داخليا، هى تمتلك التمثيل ، التمثيل هو المُخلِص الحقيقى لروحها، فهو إختيارها الحر الحقيقى والوحيد، هو الحلم الذى جعلها حلم الآخرين، المسرح هو الذى يحرر روحها من كافة القيود، قيود الجسد وقيود المكان وقيود الزمن ويحررها حتى من قيد الموت، لذا لم تنتظر فريدة أى مخلص خارجى .
لم يعتمد النص على أسلوب المونولوج الذاتى المتواصل خلال الحدث وإنما تَعَمَد كسر حالة استمرارية المونولوج من خلال اتصال صديقتها إلهام المتكرر بها تليفونياً ومن خلال أصوات المخرج ومساعده تعليقا على سُكْرها، مما خلق كسرا متعمدا لحالة الاجترار النفسي للذكريات فأخرج الحالة المسرحية من رتابة الإيقاع وأعطى طاقة درامية متجددة للحدث، وإن كان هذا التداخل الصوتى يخرج العرض منهجيا من تعريفه بالمونودراما، فالتدخل الصوتى لممثلين آخرين يُعتبر أداءً تمثيليا خالقاً لشخصيات درامية اخرى غير شخصية فريدة .
فنص فريدة انطلق من نفس نقطة انطلاق النص الأصلي لكنه اتجه اتجاها مغايراً بالإضافات الدرامية التى أضافها أكرم مصطفى فخلق نصا مغايرا محلقاً فى سياقات موضوعية أوسع وأعمق وهو ما يُحسَب له ككاتب درامى له ثقله الفنى .
أما على مستوى الأداء التمثيلى فنحن أمام حالة مسرحية «فريدة» اسمها «عايدة فهمى» هذه الموهبة المتوهجة العاشقة لفن التمثيل المرتكزة على تاريخ طويل من الدراسة والخبرة الفنية جعلتها فى مصاف أساتذة فن التمثيل المسرحى، فهى الفنانة القديرة بالاستحقاق الفنى وليس الوظيفى فقط، وهنا يتبادر فى ذهن كل من شاهد هذا الأداء التمثيلى سؤال حتمى، مَن غير عايدة فهمى من الممثلات على الساحة الفنية تستطيع أداء هذه الشخصية بهذا المستوى العميق الرفيع الجرىء ؟! فإن وُجِدن لن يُكمل عددهن عدد أصابع اليد الواحدة !!. بل أكاد أن أستنتج أن أكرم مصطفى كتب هذا النص تحديدا لأن عايدة فهمى متواجدة على الساحة الفنية وأعتقد أنه كان يكتب هذا النص لها تحديداً . أو بناء على اتفاق مسبق بينهما .
فجرأة أداء عايدة فهمى يتجسد فى ارتكازها الأساسي على إحساسها الطاغى المتوحد مع الشخصية، فكان الإحساس هو العنصر المتصدر بين أدوات الممثل، وهو عادة ما يكون صعبا على ممثل يمتلك حرفيات أدائية هائلة عادة ما تفرض نفسها على أدائه بحكم تراكم الخبرات الفنية، وبدلا من أن يحاول الممثل استخدام واستعراض حرفياته التمثيلية النمطية تحول هدف عايدة فهمى الى محاولة تحجيم والسيطرة على تضخم حرفياتها الفنية المتمكنة وضبطها فى ميزان شديد الحساسية فلا تتجاوز حدودها الأدائية فتخلى مساحة شديدة الاتساع لمصداقية إحساسه ليتصدر ويقود أدواته التمثيلية دون أدنى شوشرة عليه .
 ونحن هنا نتحدث عن منهج الأداء الواقعى الذى ساد فى معظم فترات التمثيل، وبتصدير مصداقية إحساس الممثل اقترب الأداء الواقعى لدرجة التماس مع حدود منهج الأداء الطبيعى وساعد فى ذلك تماس محددات شخصية «فريدة» مع شخصية الفنانة «عايدة فهمى» نفسها، ففى بعض لحظات الأداء التمثيلى شعرنا أن عايدة فهمى ذاتها حاضرة على المسرح تتحدث عن نفسها، وهذا التوحد والامتزاج الطبيعى بينهما هو ما جعل الأداء يتماس أحياناً تماساً حقيقياً مع المنهج الطبيعى .
لم يقف الأداء التمثيلى عند حدود المنهج الواقعى وإنما تنوع وفقا للحالة الدرامية ودلالاتها الموضوعية فأخذ طابعاً تعبيرياً خصوصا عند التقطيع المونتاجى بين شخصيات المريضة النفسية والقاتلة والعاهرة، فلجوء الممثل لهذا المنهج التعبيري فى نقلات وتقطيعات متتالية متسارعة يتطلب أولا ليونة نفسية فنية فى أداء الممثل خصوصا إن كان يعتمد إعتمادا أساسياً على إحساسه ومصداقيته العالية فكيف يحافظ الممثل على مصداقيته ومطلوب منه فى نفس الوقت تغييرها إلى حالات شعورية عكسها تماما فى أقل من عدة ثوانى ؟!! .
فتفاجئنا عايدة فهمى بمستوى أقل ما يقال عنه أنه مستوى رفيع جدا فى أدائها التمثيلي بنضج واعِ بمناهج التمثيل وطرائق المزج بينها، فجاء أداؤها نموذجا مثاليا لتداخل وامتزاج مناهج التمثيل، وتجسد ذلك فى تصدير دفقات شعورية صادقة جارفة صافية واقعية طبيعية تعبيرية ومتقلبة ومتضادة دون ان تجعل المتلقى يشعر بتدخل حرفياتها التمثيلية فى الموضوع لأنها ببساطة استخدمت حرفياتها وخبراتها الفنية العميقة فقط بهدف التحكم فى مصداقية إحساسها، فتوارت حرفياتها خلف الستار فلم يشعر المتلقى بحضورها المباشر أمامه، فجاء أداؤها أشبه بعملية النحت الفنى فى أدواتها الأدائية فتحذف أجزاءً منها حتى يتشكل ويتجسد المعنى الخام والحالة الشعورية الصادقة فى وجدان المتلقى فحققت السهل الممتنع، البساطة الفنية العميقة التى تقف على وعى وفهم وهضم لمناهج تمثيلية متعددة، فهى بساطة تقف على جبل هائل من الخبرات الفنية المنهجية .
لكن هذا لم يمنع استخدامها لحرفياتها العالية دون إفراط، مثل تنويعات طبقاتها الصوتية وفقا لطبيعة كل شخصية تقوم بتمثيلها، وتنويع حركة الجسد وليونته وفقا لحالتها النفسية ما بين فريدة فى الواقع وفريدة وهى فى حالة تمثيل، فنجدها فى الواقع مترهلة الجسد منحنية الظهر متصلبة ومتثاقلة الحركة وبمجرد دخولها فى حالة التمثيل نجدها شابة مفعمة بالحيوية تتحدى أثر الزمن عليها، وحتى ملامح وجهها نجدها فى فريدة تعكس مرحلتها العمرية المتقدمة فى تعبيرات مرهَقة محبَطة يظهر على وجهها تجاعيد الزمن، وحين تتوحد مع إحدى شخصياتها كأن ملامح وجهها أضاءت شبابا وبهجة وحياة. فجاء استخدامها لتلك الحرفيات مقننا ومدروسا بحساب وميزان دقيق شديد الحساسية كميزان الذهب .
هى ممثلة قادرة ان تسيطر على الفراغ المسرحى بإحساسها الطاغى الصادق فقط، فمن تكون فريدة غير عايدة فهمى ؟!.
جاء الإخراج المسرحى لـ«أكرم مصطفى» على نفس مستوى الكتابة والتمثيل، فأكمل أو قاد تلك السيمفونية الفنية الرائعة، فارتكز فى رؤيته الإخراجية على بدايات المسرح الأولى الأصيلة وتعريفه الأوَلِى وهو أن «المسرح ممثل فى المقام الأول «، فارتكز على عنصر الممثل وحَمّله بمعظم شفراته الفنية، وكما أوسعت عايدة فهمى المجال لإحساسها للتصدر أخلى أكرم مصطفى المجال لها كى تتصدر عناصر العرض المسرحى، وكما كان صعباً على الممثلة السيطرة على عضلاتها الفنية الحرفية القوية كانت معاناة المخرج أيضا فى عدم الانجراف إلى تصدير الآليات التعبيرية الدرامية المحيطة بالممثل والتى قد تشوشر على الحالة التمثيلية، فجاءت عناصر العرض الأخرى من ديكور وإضاءة وموسيقى وحركة فى خلفية الحالة المسرحية متعمدة اختزال وجودها المباشر فلم تسبق التمثيل فى أى خطوة وإنما تبعته وهيأت له الأجواء النفسية بتكثيف شديد، فكان الاتجاه الإخراجي العام هو ضبط المقدار المناسب لكل عنصر لتحجيم تواجده المباشر فى الحالة المسرحية المحيطة بالممثل والتركيز مع الممثل على تفاصيل الأداء التمثيلى . وهو ما يدل على ثقة كبيرة ووعى تام بطبيعة وخصوصية الحالة المسرحية لهذا العرض، ويعتبر مجازفة وتحدِ كبير فى تحميل معظم دلالات العرض على عنصر واحد دون أن يقلل ذلك من وصول مضامينه كاملة دون نقصان إلى وجدان المتلقى وعقله . 
لذا فأقل ما يقال عن العرض المسرحى «فريدة» أنه عرض أصيل فنياً، يرتكز على وعى فنى عالِ يتسم بجرأة مدروسة بدقة ويرتكز على ثقة المبدع فى أدواته وثقته فى وعى المتلقى، وهو ما افتقدناه وسط هذا الكم الهائل من الإبهار الفنى الشكلى الاستهلاكي الذى أحاط بنا من كل اتجاه، فينسل هذا العرض ببساطة وهدوء الماء العذب ليذكرنا بمقولة «إن أقصر الطرق إلى القلب هو الصدق».


أيمن غالى