العدد 692 صدر بتاريخ 30نوفمبر2020
كثيرة هي المعاهد والأكاديميات والكليات المتخصصة في تدريس المسرح في عالمنا العربي وتتفاوت سمعة كل معهد عن آخر وكلية عن أخرى وذلك حسب معطيات ومخرجات ومستوى كل خريج ومدى ابداعه بالإضافة إلى مستوى كل مدرس في هذه التخصصات، وغالبا ما يتم من تدريب الطلبة على نصوص مسرحية عالمية طوال سنوات الدراسة الأربع وأيضا مشاريع التخرج تجنح باتجاه النصوص المسرحية العبثية أو الرمزية والتي يستعرض فيها الخريج قدراته الابداعية كحصيلة معرفبة عن سنوات دراسته وهنا تبرز مسائل القدرات والخيال واتجاهات وميول الشاب الخريج سواء في التمثيل أو الإخراج أو الديكور وغيرها من عناصر العرض المسرحي وهنا ايضا ينعكس هذا النتاج على من قام بتدريس هذا الطالب المسرحي طوال سنوات دراسته إن كانوا مدرسين بفعل شهاداتهم أم بفعل خيالهم وقدراتهم العملية العميقة المتماهية مع روح المسرح وألقه وعمق معانيه والإيمان برسالته كمنهج حياتي يغوص في أعماق النفس البشرية ويحلل الحياة وفلسفتها باسلوب العارف المتمكن لأدواته والمستشرف لافق المستقبل والمقدرة على قراءة الواقع وطرحه بخيال العارف الحاث على التفكير والتحليل واستنباط الرؤى وطرحها على المتلقي بترك مساحة كبيرة للتحليل والتأويل.
ما دفعني للكتابة في هذا الحقل الأكاديمي والغوص فيه رغم شباكه المتعددة والمعقدة هو عروض طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية في مصر ومشاركتهم ضمن فعاليات مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي عبر عرضين مسرحيين استطاع العرضين اختراق حاجز المسمى الشبابي كفعل مسرحي الى فعل احترافي مقدم بروح الشباب وهذه مسألة نسبية تتفاوت معانيها وتقلباتها في العروض الشبابية وهنا أود الاشارة والحديث عن العرض المسرحي الذي قدمه شباب المعهد العالي ضمن محور عروض مسرح الشارع والفضاءات غير التقليدية مسرحية « اغنية على الممر« اذ للوهلة الاولى يترائى لك ان التسمية لها علاقة باغنية عابرة في ممر عابر لكن الأمر مختلف تماما فالاغنية هنا لم تكتمل ولكنها عزفت على لحن الوطن ذكريات الماضي الموسوم بالبطولة والكبرياء والنصر مشفوعة بتضحيات الاباء والاجداد على ارض سيناء العظيمة، اغنية عزفها جيل شبابي اكاديمي واع بضرورة تعريف هذا الجيل الذي يكاد ان ينسى تلك التضحيات لجنود بواسل والملفت بهذا النموذج من العروض الاكاديمية ان فريق العمل ومن اشرف عليه داخل اكاديمية الفنون انه آثر ان يقدم تجربة طلابية على نص محلي وطني وان كنا نختلف مع تحول كاتب النص الاصلي من الوطنية الى متاهات الدولار الا انه نص استطاع طلاب الفن تطويعه لهذا الجيل ففي العرض لم نرى العدو ولكنه كان يتربص بنا في كل لحظة فتحفز الممثل الشاب كل في مكانه يدافع عن ممره كقطعة من روحه لن يمروا الا على جثثنا وهنا في الصراع الداخلي بين الشخصيات تمثل هذا الدفاع السيكولوجي العميق الى مسامات كل من كان حاضرا للعرض حتى الشخص المهزوم من داخله لدوافع اجتماعية اصبح شهيدا بطلا والقائد الشرس المفعم بالضحك ومسعد صاحب النكتة الحاضرة الشغوف بحب المكان كحبه لمعشوقته التي يراود خياله طيفها في كل لحظه وصاحب الاغنية التي لم تكتمل في الممر اكتملت بروح الشهادة والصوت العذب الذي خلد ذكرى ملحنها وانسحب ذلك على باقي شخصيات المسرحية في علاقة تشبيك مفعمة ومعقدة ومرسومة بحنكة ودراية كبيرة لهذا التشبيك المسرحي من اجل ايصال الرسالة الفنية من سياق العرض واحداث قوة التأثير وهنا ندرك اهمية اختيار هذا النص وهذا العرض من قبل طلاب اكاديميون ليس للتجريب وانما لاضفاء روح الماضي بافق الحاضر وتجلياته واهمية المحافظة على ذرة التراب وهنا التفوق الاكاديمي الواضح لهذا الاختيار العميق لأهمية المضمون ، ومن جانب آخر قدرة المخرج الشاب «بدر الاحمدي « على تطويع المكان ليتناسب مع طبيعة العرض الذي يمكن تقديمه في أي مساحة فنية متاحة.
والعرض الثاني المشارك في المسار الدولي «الوحوش الزجاجية” والذي حصد جوائز المهرجان بجدارة احترافية عالية وقدرات تمثيلية توضع في مصاف التميز والابداع وصولا الى الاسلوب الاحترافي الذي تناول الفريق نصا عالميا مطوعا ومقربا الى الواقع المصري وهذه مسألة تقييمية عليا للسياق العام للنهج التعليمي في اكاديمية فنون بمصر وما يرافقها من تنوع مؤسسي في العطاء المنسجم مع روح الارث التاريخي الذي يتمتع به المعهد العالي كونه المعهد الاقدم في عالمنا العربي وما مر عليه من اجيال حفرت لها في الوجدان الشعبي والفني العربي وصولا الى القيادات التعليمية الحالية التي تستند بوعيها على هذا الارث والقياس على ذلك من خلال مخرجات علمية مبدعة واضحة المعالم والتي نراها في التجارب المسرحية التي تقدم سواء في المهرجانات المحلية المصرية او المهرجانات العربية والدولية كمهرجان شرم الشيخ الدولي والذي اقيم مؤخرا وسبق له ايضا في دورته الثالثة ان اتحفنا بانموذج لمشروع تخرج لطالبة من المعهد العالي عن نص لجواد الاسدي وهي مسرحية « نساء في الحرب « وهناك ايضا وقبل سنوات قدمت مسرحية « طقوس الاشارات والتحولات « للكاتب السوري سعدالله ونوس في المهرجان الاكاديمي للمعهد العالي بالكويت والتي قدمت المسرح المصري بصورته الجمالية العميقة وبصورة احترافية عالية .
من هنا وفي قراءة من الخارج للمنجز الابداعي للمعهد العالي للفنون المسرحية الذي يحاكي طلابه بتجاربهم العروض التي يقدمها المحترفون محليا وعربيا بل ويتجاوزون الكثير من التجارب الاحترافية التي تشارك في المهرجانات العربية الخاضعة لقوانين اخرى في اختيار المشاركة ، انه الوعي والارث والتاريخ والريادة .