العدد 577 صدر بتاريخ 17سبتمبر2018
ليس المقصود أن ما رأيناه في «مهرجان الفرق المستقلة الأول ببني مزار - المنيا» أنه مسرح كنسي، ولكن العروض الخمسة منطلقة من أهداف مشابهة، فالحث على الفضيلة، وتقديم نماذج للاعتبار منها، ونماذج للاقتداء بها، فهذا هو جوهر المسرح الكنسي، ولعل الفارق الدقيق هو أن المسرح الكنسي يطرح حياة القديسين كمثال أنموذجي يحتذى به ويزيد على ذلك باستعراض المعجزات.
ولنتابع بدقة أصوات الأقدام التي رجت المسرح في الظلام حتى نستوضح جثة ممددة في قماط أبيض وسط ست جثث أخرى ملقاة على الأرض، ولنركز أكثر على لحظات تقلب الجسد داخل الكفن ثم اليدين اللتين تنفذان إلى غير هدى، ولحظة تمزيق الكفن تماما.
يقف شاب يتأمل المكان في دهشة وهلع بالغين، وتنطلق قذائف الأسئلة من رأسه وحتى النهاية: من أنا؟ وما الذي جاء بي هنا؟ ومن هؤلاء؟ وكيف الرجوع؟ وهل هذا حلم أم حقيقة؟
في نصف ساعة كاملة تناول عرض «تخيل» من تأليف وإخراج جماعي للمشاركين؛ هذه الأسئلة الكبرى التي تتداعى في رأس الشاب حتى يستيقظ الموتى ويتعجبون من تجنبه لهم وانزوائه في ركن وحيدا مرتعشا، فيقترب منه أحدهم ويلاطفه حتى يقص عليه حكاية كل فرد هنا فنغوص مع كل حكاية في أساليب تنوعت بين المشاهد الفرنسية القصيرة التي تكون في العادة بين شخصيتين أو ثلاثة بينما تكون بقية الشخصيات خارج المكان المسرحي، وبين المونودراما التي قدمها مدمن المخدرات والمتدين؛ كل في مونولوج طويل نسبيا كان يستلزم قدرات تمثيلية أكثر خبرة حتى لا تتحول الصالة لمجرد ميكروفون يتحدث الممثل أمامها مهملا أداءه الحركي ومسئولية شغر الفراغ المسرحي.
ويستجيب الجمهور ويتفاعل مع الكوميديا التي تخللت العروض؛ فيضحك بقوة، ويتفاعل مع الحكمة - التي وقف أبطال العرض يبثونها للجماهير - في احترام مهيب. إن هذا التواصل المباشر مع الجمهور هو أول مؤشرات النجاح بشكل أو بآخر ولعل هناك عاملا آخر خفيا، فقاعة أفراح منتجع البوريفاج التي استضافت العروض ظلت في وعي الجمهور مجرد قاعة أفراح حتى إذا ما ارتفعت مستويات التراجيديا المقدمة وعلت نبرة المأساة، هنا ينصت الجمهور إلى المسرح، وهذه الحالة بدأت تخفت بعد العرض الأول.
العروض الأربعة الباقية اعتمدت على تقديم كوميديا أخلاقية في اسكتشات مسرحية تحت خلفية غنائية تعبر بشكل مباشر عن الحالة الدرامية، كما جاء في عرضي “باسوورد” من تأليف وإخراج كيرلس القس، وعرض “بورتريه” تأليف عصام نبيل وإخراج إبرام ناصر.
ولعل المميز في دراما العروض رغم كثير من الملاحظات، تركيزها على حالة درامية مكثفة، أشبه بدراما القصة القصيرة، ولذلك من الطبيعي أن يغيب المعمار الدرامي للشخصيات، في سبيل معمار نفسي صادق وحقيقي، لكن عدم إدراك هذا الفارق الجوهري في طبيعة دراما المسرح القصير جعل النصوص الخمسة تنحرف من الحالة إلى الرسالة، ومن الإيحاء إلى الدلالة، ولذلك عندما نشير إلى مناطق الوعظ، فنحن نشير إلى منطق مسرح القرون الوسطى الأخلاقي. ونلتمس العذر لأنه جاءت النصوص من تجارب الشباب الأولى في التأليف: كيرلس القس، عصام نبيل، كيرلس صابر. ونتساءل: هل نهاجم أم نبارك عدم اتكاء الشباب في تجاربهم الأولى على نص من النصوص الشهيرة والناجحة؛ وولعهم بتقديم تجاربهم الخاصة ومن تأليفهم الخاص؟
جاء عرض «مذكرات ملحد» في ختام العروض؛ من تأليف وإخراج كيرلس صابر، يظهر من عنوانه أنه سيعرض لقضية عقائدية بالأساس، لكن كيرلس صابر آثر أن يتناولها من منطلق اجتماعي فتقوم الشخصيات بمواجهة الجمهور والإشارة بالسبابة وتأنيبهم على أن الله لم يمنع الاغتصاب ولا الموت ولا الفشل ولا ضياع الحب ولا القتل.. إلخ. ويستعرض كيف يقوم الآباء بتوجيه انتماءات الأبناء في شكل هزلي وساخر للغاية من خلال العلاقة بين أسرتين؛ الأولى متعصبة للأهلي والأخرى متعصبة للزمالك، وبين تناول هزلي لتعقيدات التعليم وكيف تثمر الوساطة أو المحسوبية في تحديد أفضلية بنت المدير على بقية زملائها.
سيكون جائرا الحديث حول أخطاء الحركة أو تكوينات الإضاءة، في عروض تقدم داخل قاعة أفراح لم توفر لهم سوى مستوى خشبي أعلى قليلا وستارة بيضاء يمكن اعتبارها كبانوراما، لكنها لم يكن لها أي دور في كل العروض وربما تمزيقها كان أفضل بكثير. فالأداء غلب عليه العشوائية، وعدم الاتزان المسرحي.
السؤال الذي يطرح نفسه لماذا في ظل إمكانيات محدودة كهذه نجد شكل العلبة الإيطالي يفرض نفسه حتى على ظروف المكان؟ ولو أن العروض تعاملت مع القاعة الكبيرة على أنه مسرح غرفة، ربما جعل ذلك الجمهور أكثر تواصلا مع العروض وعوض مشكلة التكوينات المسرحية في هذه المساحة المخنوقة. ولكن في اللاوعي المسرح: رسالة ومذبح وشعب.
ومع ذلك، فإن تحلق الشخصيات حول بطل عرض «مذكرات ملحد» تحت إضاءة حمراء في تكوين أشبه بتحفزهم لافتراسه وأكل أعضائه وهو شبه غائب عن الوعي كأنه يتأرجح بين وساوسه يمينا ويسارا.. كل ذلك صنع لقطة بصرية عالية الأداء.
لم تخل العروض الخمسة من تقديم الواعز الأخلاقي، ففي عرض «تخيل» تصل الرسالة لآذان الجمهور كأنها نداءات من فضاء بعيد مجهول المدى؛ أن ما زال لديكم فرصة أخرى قبل أن تأتوا إلى المقبرة التي ننتظركم فيها.
وعرض “باسوورد” حث على اللحمة الاجتماعية بعيدا عن أي اختلافات عقائدية بشكل مباشر وسطحي للغاية، فكانت أغلب مناطق الدراما عبارة عن خطابة ووعظ.
لم يختلف الأمر كثيرا في عرض “بورتريه” الذي قدم المرأة في مقابل الخمر، ودعا إلى مواجهة الذات بعيوبها، وهذا التصور على مدى براءته، إلا أنه ساذج ولا يضع المشاهد في الأبعاد العميقة الحقيقية للدراما. ولعله ينبغي الإشارة إلى أدوات ممتازة لدى كاتب هذا العرض لما حققه من سلاسة في ربط الأحداث الدرامية والانتقال الزمكاني عن طريق الفلاشات المشهدية القصيرة للغاية التي كان على الإضاءة مسئولية إبرازها والتركيز عليها حتى تظهر جماليات القطع والمزج الدرامي.
هناك طاقات تمثيلية وضح تميز أدائها مثل يوستينا ياسر في عرض «تخيل» التي انطلقت من خطوط صحيحة لحالة الفتاة التي عانت بسبب تهرب حبيبها منها وزواجها رغما عنها من شخص آخر، فانعكس على صوتها المبحوح ونظراتها الهائمة الباهتة حتى قامت بالانتحار. أيضا إبرام ناصر الذي قدم أدورا في أكثر من عرض، وضح تنوع قدراته التمثيلية بين التراجيدي والكوميدي، ولا ينقصه سوى التقليل من حدة الصوت والمبالغة في الانفعال الحركي.
عروض لم تتجاوز الثلاثين دقيقة، قدمت عددا من الفنانين يحملون الكثير لفن المسرح، وإن كان ينقصهم التدريب والقراءة واستيعاب المفاهيم المسرحية ومعرفة طبيعة الدراما والوقوف على فلسفات السينوغرافيا والإخراج، لكن ينبغي الإشارة إلى أن الأعمار التي قدمت مساهمات في التأليف والتمثيل والإخراج لم يتجازو أي فرد منهم العشرين عاما.