«كونكان».. الشرور الآثمة والقسوة الداعرة

«كونكان»..  الشرور الآثمة والقسوة الداعرة

العدد 768 صدر بتاريخ 16مايو2022

تأتي مسرحية كونكان لتشتبك مع تيارات التسلط الآثم والقهر المرير، تدين مأساة الخلل الإنساني المخيف، وتكشف عن غواية السقوط في جحيم الخطايا والتناقضات، لنصبح أمام حالة إبداعية مغايرة تكسر دائرة العبث الوجودي الممتد . 
هذا العرض تقدمه فرقة قصر ثقافة الجيزة التابعة لهيئة قصور الثقافة، في قاعة صلاح جاهين بمسرح البالون، التأليف للكاتب المتميز أحمد الأباصيري، الدراماتورجيا والأشعار لأيمن النمر، والإخراج للفنان عمرو حسان، وفي هذا السياق تضافرت رؤى المؤلف مع الدراماتورج وقدما حالة درامية عالية القيمة تتجه ببساطة إلى عمق المأساة الإنسانية، تطرح  رسائل جدلية ثورية وتقدمية، فالنص قابل للتفاعل الحيوي مع توترات وجودنا الحالي، لذلك انطلقت موجات الجمال المسكون بالوعي والحرارة والنقد والتساؤلات، لتلامس خطايا الواقع ومجون الحقيقة، 
تناول المخرج عمرو حسان هذا النص المثير، الذي كشف عن موهبته الصاخبة وبصماته الفريدة ولغته الحارة، فهو يمتلك الرؤية الواضحة ووجهة النظر الثائرة، اشتبك برشاقة مع إيقاعات زمننا الوحشي المسكون بالشرور الآثمة والقسوة الداعرة، فكانت المواجهات صادمة تلامس مؤشرات الواقع ومجون الحقيقة، وتحولت إلى عزف ناري على الأعصاب العارية، وظلت مفاهيم التشويق والإثارة حاضرة بقوة في قلب المسرحية، التي امتلكت عقل المتلقي ومشاعره عبر أحداثها المثيرة اللاهثة، وشخصياتها الواقعية التي نعرفها وتعرفنا . 
تتخذ الأحداث مسارها في إطار تشكيل سينوغرافي لافت بصالة القمار، التي تموج بالفرح المراوغ والبهجة الزائفة، الضوء الأحمر يعانق تيار المشاعر المتوترة، الموسيقى تروي عن الليل والجموح والسقوط، منضدة اللعب المرتفعة تشغل منتصف القاعة، التي تشهد تصاعد الأحداث والتفاصيل، الجمهور يمثل جزءا فعليا من العرض بعد سقوط الحوائط والحواجز، البار الذي يشغل اليمين يبعث إيقاعات التغييب، ويواجه السلالم القليلة التي تقود الزبائن إلى الخارج، فالصالة توجد في البدروم المسكون بالمؤامرات والأسرار .
تشتبك الكوريوجرافيا المتميزة مع الموتيفات الصغيرة ومع أوراق الكوتشينة على امتداد القاعة، الأحداث الدرامية الساخنة تتوالى وتأخذنا إلى عالم أبطال العرض فنتعرف على لاعبي الكونكان - -، الطبيب الشهير الذي يمارس جرائم تجارة الأعضاء، الثري السكير صاحب الفنادق السياحية الأنيقة ، الكئوس لا تفارقه أبدا، تبدو كإحالة صريحة  إلى علاقاته العاطفية المشبوهة، يعشق النساء لكنه يقتلهن أحيانا، ثم الملياردير المعروف بعلاقاته الوثيقة بالكبار والمسئولين، وأخيرا السيدة الجميلة رئيسة إحدى الجمعيات النسائية، ورغم ذلك فهي لا تعترف تماما بمفاهيم الدفاع عن حقوق المرأة، وهكذا تمتد الحوارات الجريئة الساخنة، ونلمس مدى بشاعة الشخصيات الغارقة في الخطايا والشرور والسقوط . 
يتضافر الضوء والموسيقى ولغة الجسد والمشاعر مع أحداث الليلة الكابوسية المخيفة، حوار البارمان مع فتيات الصالة يأخذنا إلى واقع آخر، فهم ينتمون إلى طبقة اجتماعية واقتصادية مغايرة،  لكنها محكومة أيضا ببشاعة السقوط والانحلال، الجمهور يتابع ما يحدث بشغف، ولحظة التكشف المفزعة تبدو وشيكة، إيقاعات الحركة ولغة الجسد تأخذنا إلى الشابة الجميلة التي تعمل في الصالة لتشاغب الزبائن بضحكاتها الخليعة، الخوف يحاصرها حين تلمح زميلها الشاب وهو يردد أنه خطيبها  وعليها أن تخرج معه فورا من هذا المكان، فيندفع إليها ويأخذها بعنف ويمضيان إلى الخارج، لكنهما سرعان ما يعودا ليخبرا الزبائن أن السلم قد انهار، الهلع يسيطر على الجميع، الذين أدركوا أنهم الآن أسرى صالة الكونكان، الاتصال بالخارج أصبح مستحيلا، فشبكات الموبايل لا تعمل تحت  الأرض، صالة القمار تكاد تصبح مقبرة، أشباح الموت عطشا وجوعا تتراقص حول رجال الثروة والسلطة والفساد، إيقاعات الدهشة تتكشف وأبعاد المؤامرة تبدو واضحة، البارمان يتصدر الآن مشهد الغواية والسقوط، تحول إلى شيطان من الجحيم، فهو الآن يساوم الجميع على زجاجة ماء، لتتفجر تيارات الصراع الناري، الرجال الأثرياء الباحثين عن الحياة يندفعون إلى كتابة الشيكات، اللحظات تشهد مزاد الملايين مقابل الحصول على زجاجة المياه، هستيريا الجنون المخمور تدفع الأحداث إلى مسارات الموت، الثري السكير صاحب الفنادق يقتل صديقه الطبيب الذي يتاجر بأجساد البشر، ثم يندفع إلى السيدة الجميلة المدافعة عن حقوق النساء ويقتلها هي أيضا، أما الملياردير صاحب العلاقات المهمة فهو يموت بغيبوبة مرض السكر، تراجيديا الموت المجنون ترسم مسارات النهايات الدموية المفزعة، البارمان يضع السم القاتل في زجاجة الخمر، ليموت الثري صاحب الفنادق - -، الواقع الوحشي يكشف عن الحقيقة الملعونة، السلم لم ينهار، واللعبة القذرة تحولت إلى نيران حصدت الجميع، فنحن أمام تخطيط شديد الإحكام دبره البارمان وفتيات الصالة مع الرجل المهم، للحصول على الملايين، لكن الموت يضع نهاياته الأسطورية ليصبح المجد للشرور والآثام، بعد أن فقد الإنسان وعيه، ولم يعد الخير قادرا حتى على الجدل مع جحيم الشر . 
من المؤكد أن عرض كونكان يمثل قراءة حية في قلب المجتمع والسياسة والاقتصاد، عبر رؤية جدلية واعية متعددة الأصوات والأبعاد، اتجهت إلى نزع الأقنعة ليسقط الزيف والعبث  والأخلاق والقيم، وتصبح الشخصيات عارية تواجه سقوطها المخيف وتتحدى آثام الخطايا لتشعلها بنيران القسوة والمجون والعذاب، وفي هذا السياق نجد أن مسرحية كونكان تحاكم وجودنا الشرس عبر الشخصيات التي أدانتها كلها، فالجميع مذنبون، أثرياء الطبقة العليا، وفقراء الهامش والحضيض، القسوة والعنف والضياع دفعوا الجميع إلى السقوط، لذلك نحن أمام إنذار خطير أننا على حافة هاوية السقوط، ويجب أن نتوقف لنبحث عن المعنى والحياة والحرية، لعل الوجود يصبح أكثر جمالا واحتمالا . 
شارك في المسرحية فريق عمل من المحترفين والهواة فكانوا نجوما لامعة تموج ضوءا وحضورا وموهبة مثل إبراهيم البيه، أسامة فوزي، محمد الجداوي، محمد شرف، كريم الحسيني، منة الفيومي، نيجار محمد، وهاني ماهر . 
كان الديكور لملاك رفعت، والإضاءة لعز حلمي . 
 


وفاء كمالو