بلا رأس بلا قدم قطع رقاب

بلا رأس بلا قدم قطع رقاب

العدد 579 صدر بتاريخ 1أكتوبر2018

إن جهودنا اليومية تبدو ضائعة أمام لاجدوى وعبثية الحياة، وبالتالي فإن عقولنا تقاوم ما يحدث وتضع البدائل والخطط للتحرر من قيود الكبت والظلام، هذا ما صوره لنا العرض المكسيكي «بلا رأس.. بلا قدمين» أو كما يطلق عليه بالإسبانية «sin pies ni cabeza» في إطار يستوحي تقنيات وأساليب الرسوم المتحركة، تدور أحداث المسرحية حول ثلاثة أصدقاء «كلاپ، زلوت، سوك» وضعوا خطة للتخلص من آكل العقول «لورد هيد» الذي يأكل أدمغة الناس ويفصل أجزاء من أجسادهم ليس فقط لجعل التفكير أمرا مستحيلا حتى يعم الجهل ويفرض لنفسه الطاعة، ولكن أيضا لجعلهم بلا حياة أو مشاعر أو أفكار، لا شيء يقف في طريق “لورد هيد” الأقوى والأذكي والأكثر سلطة بين الجميع، ولكن خطة هؤلاء الأصدقاء في التخلص منه عن طريق جرعات من «الأسبرين» لأن «لورد هيد» حساس لهذا الدواء، فعندها سيقوم بإرجاع العقول التي أكلها مرة أخرى.
في خطورة الانفصال تتجسد القضية المخيفة للإنسان، فصله عمن يحب، عن وطنه، أو حتى فصل أجزاء من جسده عن بعضها البعض!
تلك الفكرة المرعبة جسدتها الفرقة المسرحية المكسيكية «رافاجا تياترو» ضمن فعاليات مهرجان المسرح التجريبي في دورته الخامسة والعشرين.
«اللورد هيد» يحكم سيطرته على المدينة بالكامل، الجميع يهابه لقسوة عقابه بالحرمان من الإنسانية والحياة السوية، في عالم ليس واقعيا ولكنه يمثل العالم الواقعي.
يُسخر «لورد هيد» جميع من في المدينة للبحث عن «العقول» المدبرة للمكيدة التي تكاد أن تحطم كل ما يمتلكه، ولكن في النهاية ينجح الأصدقاء في إفشال خطة «لورد هيد» وإعادة العقول لأصحابها.
يقوم العرض بنقد النظم الديكتاتورية التي تنتج عن تسلط فرد على مقومات الدولة تسلطا شاملا معتمدا على القوة العسكرية التي صورها العرض في صورة الأنف (الأذن، العين، الأقدام، الأيدي) ويقصد بالمقومات (الأرض، الثروة، الشعب، الحكم) كما أوضح أيضا الحرية والتفكير، وبتحكمه بهذا القدر من القوة يحيط نفسه بهالة من الحصانة والعصمة.
جاءت الأفكار واضحة من صعوبة العقاب من عملية «الفصل» للأصدقاء الثلاثة، وهذا لخطورة ما هم على وشك فعله وهو التحرر للعقل والحب والحرية، وجاءت تلك الأفكار بشكل كوميدي بوليسي ممتع وبطريقة عرض أشبه بأفلام الرسومات المتحركة، وهو ما يناسب مسرح الطفل والشباب، وهو الجمهور المستهدف من العرض، فقد تم عرض المسرحية في المكسيك لتلك الفئة.
استخدمت اللغة الجسدية في العرض في كثير من المواضع، وفي ظل وجود حاجز اللغة وصعوبة التواصل، حيث إن العرض لغته كانت الإسبانية والجمهور مصري، إلا أن الجسد قد تفوق على تلك الفروق وكسرت اللغة الجسدية هذا الحاجز، واستطاعت فرقة المكسيك من استخدام حيز الفضاء المسرحي الصغير بقوة أضافت للمعنى وزادت من قوته، حيث كان التعبير الجسدي يتضمن إشارات ورموزا وحركات أدت إلى توظيف الأداء التمثيلي المسرحي بنمط بانتومايم وكوميديا الموقف التي لا تعتمد على ثقافة واحدة لكي يتم فهمها. وأضفت اللغة الجسدية المميزة لدى الممثلين «جوليو سيزر، موريسيو كاريلو، كاي لأن لاتشينو» طابعا كوميديا أحيانا وإيحاء بتحريك الشخصيات كما الرسوم المتحركة، وذلك أعطى العرض سمة خيالية جعلت المتلقي يشعر بأنه يشاهد فيلم كارتون وليس عرضا مسرحيا، كما كان الأداء والتشخيص والإشارات جميعها بالجسد، ولم يعتمد العرض على أي ديكور.
الأزياء كانت ذات ألوان زاهية ومليئة بالحياة والمرح، وذات تناسق مريح للعين، فإنها تعود للحقبة الخمسينية من القرن العشرين.
موسيقى العرض كانت بأصوات الممثلين في الأغلب، فكان اعتماد المسرح كليا على الممثل وتقنياته وأدائه أكثر من الاعتماد على التقنيات المسرحية أو الآلات المستخدمة في المسرح.
في ظل عالم مليء بكبت للحريات وفرض للآيديولوجيات غير السوية، أصبح الواقع مليئا بأشياء لا تمت للواقع بصلة، وفي ظل تغييب العقل سيضيع كل شيء، سيتم فصل رأسك عن بقية جسدك، ثم فصل عقلك لمنعك من التفكير أو التذكر أو التحكم بأي شيء، ثم فصل بقية أجزاء جسدك عن بعضها البعض، فهذا ليس قصة مرعبة، ولكنها قصة ممتعة وخفيفة الظل وتشبه القصص البوليسية.
ليس القصد في الفكرة هو منع التفكير فقط، ولكن اقترن بذلك منع المشاعر، والحب، وفقد صديق في محاولة الوصول للحرية، وهو ما يحدث في أغلب الثورات لينال الثوار حريتهم، فيتم دفع الثمن أحيانا بخسارة أرواح ودفع ثمن الحرية من دماء الأبرياء.
 


مهجة البدري